التوصيف واحد في لبنان وإسرائيل وأميركا للاتفاق على ترسيم الحدود البحرية: "إنجاز تاريخي". أما التوظيف السياسي للاتفاق، فإنه مختلف وإن كانت الوظيفة الاقتصادية واحدة: استثمار الثروة الغازية والنفطية. وهو جاء بعد 12 عاماً من بدء المفاوضات غير المباشرة على مراحل، تبدّل خلالها المفاوضون والوسطاء الأميركيون. وليس قليلاً عدد الذين لعبوا أدواراً في التوصل الى الإنجاز: الرئيس جو بايدن، الرئيس إيمانويل ماكرون، الرئيس ميشال عون، رئيس المجلس النيابي نبيه بري رجل "اتفاق الإطار" على الطريق، رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، نائب رئيس البرلمان الياس بو صعب، رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد، وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس، رئيس مجلس الأمن القومي إيال حولاتا، الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين الذي نجح حيث فشل أسلافه بدءاً من فريديريك هوف، وفي الطليعة الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصرالله.
لكن الدور الأهم الذي أسهم في تجاوز الحواجز على الطريق كان لأمرين خارج المفاوضات: حرب أوكرانيا، والتلويح بحرب بين "حزب الله" وإسرائيل. حرب أوكرانيا جعلت أوروبا في حاجة ماسة إلى بديل من الغاز الروسي، خصوصاً عشية الشتاء، إذ أعطت واشنطن الأولوية القصوى لضخ الغاز الإسرائيلي. والحرص على تفادي حرب هدد بها السيد حسن نصرالله وأرسل مسيّرات فوق منصة "كاريش" لمنع استخراج الغاز الإسرائيلي قبل الترسيم وبدء التنقيب عن الغاز اللبناني، ودفع أميركا وإسرائيل إلى الهرولة نحو الاتفاق.
وكما في ترسيم "الخط الأزرق" البري بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني، كذلك في ترسيم الخط الأزرق البحري: المفاوض الرسمي هو السلطة اللبنانية، والمفاوض الفعلي هو "حزب الله".
والانطباع العام هو أن الاتفاق يوضع في خانة "ربح-ربح". فهو يسمح لكل طرف بأن يعلن "النصر" أو أقله أن يكبّر المكاسب في مواجهة المعترضين في الجانبين على ما يسمونها "التنازلات". تنازل لبيد عن "حقوق إسرائيل" كما يدعي بنيامين نتنياهو. وتنازل لبنان عن "الخط 29" كما يقول المتمسكون به. والطرفان تحدثا عن حصاد "التشدد" في المواقف. لبيد قال إن "الاتفاق التاريخي مع لبنان سيعزز أمن إسرائيل، ويضخ المليارات في اقتصادها، ويضمن استقرار أمن حدودها الشمالية". وعون أعلن أن لبنان "حصل على كل حقوقه". وبايدن اعتبر أن الاتفاق سيفتح باب "الاستثمارات الأجنبية في لبنان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمخاطر لا تزال على الطريق. فاليمين المتشدد يتصرف على أساس أنه سيربح الانتخابات الإسرائيلية التي ستجرى بعد أسبوعين، ونتنياهو سيعود إلى رئاسة الحكومة مع وعد بإلغاء الاتفاق ولو في مواجهة مع أميركا. وهذه مسألة ليست سهلة ولها حساباتها المعقدة في إسرائيل وأميركا. أما لبنان، فإنه ذاهب من "إنجاز تاريخي" إلى شغور رئاسي ومشكلة خلاف دستوري وسياسي على تسلم حكومة تصريف الأعمال لصلاحيات رئيس الجمهورية، بالتالي إلى فراغ تاريخي مزدوج.
والغريب أن "حزب الله" يتحدث دائماً عن "حصار أميركي" على لبنان، لا يشعر به سواه. ويتعهد بالعمل على "كسر الحصار" بكل الوسائل، بما فيها فرض الترسيم على أميركا وإسرائيل عبر التهديد بالحرب. لكن من المفارقات اعتبار أن ما قام به الوسيط الأميركي جزء من كسر الحصار عبر اتفاق ينص على تعهد أميركا أن تقوم بدور "الراعي والضامن للاتفاق والمستعد لمعالجة أي إشكال قد يحصل لاحقاً في حال اكتشاف حقول غازية متداخلة أو مشتركة". والمفارقة الأكبر أن أميركا وإسرائيل تريان في ترسيم الحدود البحرية نوعاً من إضعاف النفوذ الإيراني في لبنان. وهذا ما كرره غانتس. فهل تزايدت القيود بالفعل على أي صدام عسكري؟ وهل صارت حوافز الهدوء أكبر؟
الانتظار لا يزال أفضل مستشار.