ملخص
هل سيقتصر النفوذ الأجنبي في سوريا على تركيا والغرب وتدخلات إسرائيل أم ستتاح الفرصة لتدخلات عربية وازنة، لا تبدو في الأفق حتى الآن، لكنها قد توفر مخرجاً لمنع سيناريوهات الاقتتال وتقسيم البلاد على أسس أخرى.
من المؤكد أن الأسئلة أكثر من الإجابات في محاولة فهم ما جرى وما هو قادم بعد أن تسارعت الأحداث وسقط النظام السوري في أقل من أسبوعين، وهرب بشار الأسد إلى موسكو التي منحته اللجوء الإنساني هو وأسرته.
جاءت هذه الخطوة بعد قرابة عام أو يزيد قليلاً على قرار العالم العربي إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، لكن الرئيس الأسد أخفق مرة أخرى في فهم هذه الفرصة مثلما أخفق في فهم الفرصة السابقة عندما نجح بمعاونة روسيا وإيران و"حزب الله" في البقاء بمنصبه ومواصلة السيطرة على غالب الأراضي السورية، فقد تسرع في المرتين وأعلن النصر، وتحدث صراحة عن أن هذا دليل على صحة سياساته، وفي المرتين كان مخطئاً وفاقداً الحكمة.
سياق دولي وإقليمي
في الحقيقة إن سوء التقدير بأن معركة سوريا قد حسمت كان محل اقتناع، ليس فقط من النظام السوري، لكن أيضاً من حلفائه، بخاصة "حزب الله" وإيران، بل كانت هذه أيضاً تصورات حلفاء "حزب الله" في الساحة اللبنانية. المدهش أن وجهة النظر هذه كانت تغفل أن هذا النصر غير كامل منذ البداية، ولم تكن الأمور حسمت، وتجاهلت عجز هؤلاء المنتصرين عن مواصلة استعادة السيطرة على كل البلاد، وأن هناك مساحات ضخمة من سوريا تحت سيطرة قوى أخرى.
منذ البداية وحتى قبل تدخل الروس كانت الولايات المتحدة قد أنشأت قواعدها الـ10 في شمال غربي البلاد بالمناطق الكردية، التي يسيطر عليها حلفاء واشنطن من تنظيم سوريا الديمقراطية، الذي تأهب مع التحالف الدولي ضد "داعش" آنذاك، ونجح في طرد هذه الميليشيات المتطرفة خارج المناطق الكردية، ووفر علاقة حماية متبادلة مع القوات الأميركية والغربية الموجودة معها في هذه القواعد، من ناحية ضد ميليشيات "القاعدة" و"داعش"، ومن ناحية أخرى ضد قوات الجيش السوري نفسه، وشكلت هذه المنطقة منذ الأيام الأولى لتقدم الجيش السوري وحلفائه مانعاً دون اكتمال هذا النصر المزعوم.
على صعيد آخر جرت مطاردة الميليشيات المتطرفة بواسطة "حزب الله" وروسيا وبدور أضعف للجيش السوري نفسه، فاندفعت هذه شمال غربي إلى محافظة إدلب الحدودية، لتحظى بحماية تركيا الداعم الرئيس لها، التي دفعت أيضاً بوجود عسكري، وربما نحتاج إلى تذكر هذه المرحلة التي شهدت تجاذبات شديدة وتهديدات متبادلة، ونجحت تركيا في احتوائها من خلال تفاهمات أستانة التي كانت تتضمن قيام تركيا بفرز العناصر المتطرفة من تلك المعتدلة، وأن تنزع منها الأسلحة الثقيلة، وكان ذلك في ظل دعاية تركية وغربية كثيفة حول احتمال تعرض المدنيين للأخطار في إدلب الكثيفة السكان، التي توجد بها أعداد كبيرة من النازحين السوريين أيضاً، ولم يحدث أي من هذه الالتزامات.
لكن الموقف العسكري تجمد، واستطاعت تركيا تحويل هذه المنطقة إلى امتداد جغرافي، لنفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي ومستودع إدارة عملياتها في المنطقة التي نقلت منها مجموعات من هؤلاء الميليشيات إلى ليبيا خلال عدة مواجهات مفصلية هناك، في المرة الأولى عام 2014 للسيطرة على مطار طرابلس، والثانية لإنهاء حصار الجيش الليبي للعاصمة طرابلس، وإجباره على الانسحاب والتراجع شرقاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً لم يحدث أبداً عند توقف العمليات العسكرية، وتجمد الصراع المسلح أن فرضت دمشق سيطرتها على كل البلاد، وكان هناك وجود عسكري أميركي - غربي وآخر تركي وسيطرة للميليشيات المتطرفة في أجزاء من البلاد. في مقابل وجود عسكري روسي وإيراني ومن "حزب الله" ومن ميليشيات شيعية عراقية وأفغانية. أي فقدت الدولة السورية جزءاً كبيراً من سيادتها، أو أصبحت هذه السيادة منقوصة ومشوهة، ولم يكن النصر الذي أعلنه بشار الأسد سوى انتصار استمراره في حكم دمشق، وأجزاء من البلاد فترة من الوقت، وليس نصراً لحماية بلاده أو مصالح شعبها وسيادتها.
كنت من المؤيدين لعودة سوريا إلى مظلة الجامعة العربية، على أمل أن تساعد هذه العودة النظام السوري على اليقظة وعودة الشرعية والبحث عن صيغة قانونية طبيعية لإخراج كل الوجود الأجنبي والخروج من التبعية لإيران، والتركيز على إعادة الإعمار والمصالحة الداخلية.
لكن هذه المراهنة لم تكن بمقدور هذا النظام بآلياته وتاريخه وفي النهاية لم يكن هذا ممكناً. وواصل الحكم السوري خطاياه التي كان في مقدمها ليس فقط سياسات القمع، إنما قصر النظر المخجل فيما يتعلق بملف عودة النازحين، إذ صدرت تصريحات غير مرحبة بعودتهم وتنزع عنهم صفة الولاء الوطني، متناسين أن مرور الوقت يعقد الأمور، ولا يحلها، وبالطبع كان هذا الموقف مرتبطاً بتدهور الوضع الاقتصادي وغياب أفق إعادة الإعمار والبناء في ظل موقف سياسي لا يشجع لا قوى خارجية أو رجال الأعمال السوريين ذاتهم على الاستثمار في بلادهم. وإضافة إلى ذلك حاولت تركيا التفاعل وفق تقارير كثيرة واضعة شروطاً حول ضرورة المصالحة الداخلية في سوريا وعودة النازحين من أراضيها، لكنها لم تجد آذاناً سورية مصغية.
حلقة في صراع لم ينته
المقاربة السابقة ركزت على اعتبار النصر الروسي - الإيراني سابق الذكر منقوصاً ومجرد مرحلة في صراع دولي وإقليمي حول سوريا لا يزال مستمراً، ووفقاً لهذا فإن تركيا قد ربحت الجولة الثانية، ونجحت من خلال حلفائها في تصفية نظام الأسد، هذه تصفية نهائية ليس من الممكن تغييرها على الأرجح، فما خلفه النظام وما سيتكشف أكثر لا يمكن معه تصور ناتج آخر، لكن المشهد أعقد من ذلك، ويرجح أن ما حدث حلقة في صراع قد يستمر.
خريطة المنتصرين يتصدرها الجولاني زعيم تنظيم أحرار الشام المنتمي إلى "القاعدة" يعود بثوب جديد باسمه الحقيقي أحمد الشرع، ويدلي برسائل معتدلة مطمئنة للداخل والخارج، والأهم طبعاً الشعب السوري بأقلياته المتعددة، إلا أن احتمالات التقاتل بين الفصائل المسلحة عندما يستقر الأمر كبيرة وليست مجرد محتملة، وأهم من كل ذلك السؤال الصعب حول مصير السلاح خارج الدولة، بخاصة بعد أن سقط الجيش بهذه الصورة المروعة.
وإذا كان المتوقع خروج إيران والميليشيات الشيعية في أقرب وقت ممكن، إن لم يكن معظمها قد خرج بالفعل من الأراضي السورية، فإن المعضلة الباقية في وجود قوات أميركية وروسية وتركية لن تخرج غالباً إلا في ظل وجود حكومة منتخبة قوية، ومع ذلك فإن التفاعلات والمقايضات بين الأطراف الخارجية في الساحة السورية قد تسفر عن ترتيبات تستمر بعض الوقت.
وتظل المعضلة الأكبر في المسألة الكردية، وما حققه الأكراد في مناطقهم الشمالية من مكاسب وشبه حكم ذاتي، سيجعل تصور تنازلهم عنها أمراً بالغ الصعوبة، وهنا الصدام المحتمل بين تركيا وفصائلها التابعة لها وفصائل أخرى قد يندلع في أي لحظة، وقد يؤجل على أساس مراهنة تركية بوصول حكومة حليفة أو تابعة في دمشق، وهي مراهنة صعبة في ظل التركيبة السكانية والحضارية للشعب السوري حتى بكل النفوذ الذي تتمتع به تركيا حالياً لدى أوساط سنية ريفية ونازحة بصورة خاصة. والواضح أن الدور الأميركي سيكون حاسماً في هذه الترتيبات، التي بدأها بالفعل بوساطة منبج بين الفصائل الموالية تركيا وتلك الكردية.
فضلاً عن معضلة السلاح، فإن التحديات التي تواجهها سوريا بعد بشار لا تقتصر على ما كان موجوداً خلال حكم بشار من أوضاع اقتصادية صعبة، وعودة النازحين وإعادة الإعمار ومصالحة سياسية بين قوى مشتتة، فهناك الكثير للتأكد من أن بمقدور أحمد الشرع أن يقدم القيادة الوازنة على استنقاذ سوريا من متاهاتها الراهنة.
ومن ناحية أخرى هناك معضلة إسرائيل التي تعيث فساداً وتدمر ما تبقى من كرامة ومقدرات البلاد ونتائج تدخلاتها واضحة في مساحات تضمها وتدمير ممنهج لقدرات الجيش السوري ومقدرات الدولة. وفي المرحلة الراهنة سيتوقف كثير على ترتيبات المرحلة الانتقالية، وما إذا كان النفوذ الأجنبي سيقتصر على تركيا والغرب وتدخلات إسرائيل أم ستتاح الفرصة لتدخلات عربية وازنة، لا تبدو في الأفق حتى الآن، لكنها قد توفر مخرجاً لمنع سيناريوهات الاقتتال وتقسيم البلاد على أسس أخرى. وفي هذه الحالة الأخيرة سيحمل المستقبل تحول النصر الجديد إلى مرحلة أو جولة أخرى في الصراع حول سوريا.