كشاب تأبط شراً، حملت في مقتبل العمر كتب كولن ولسون: "اللامنتمي" كتابه الأشهر، فروايته "ضياع في سوهو" وغيرهما. حينها كان أيقونتي "تشي غيفارا"، لكن اللامنتمي موقفي من سلطة العقيد معمر القذافي، الذي عقب انقلابه اتخذ صنماً ثالوثياً عدواً له: الشيوعية والرأسمالية وكولن ولسون! من عندها انتشر كالنار في الهشيم باعتباره الفيلسوف الوجودي الشاب للتمرد والهيبي اللامنتمي، وقد شرع العقيد القذافي يلتقي مراراً بطلبة الجامعة ليصب جام غضبه على النبي الدجال اللامنتمي، وأيضاً ليسفه الطلبة والشباب ممن يحمل أسفار الدجال كالحمار، حينها كانت دار "الآداب" اللبنانية تترجم وتنشر كتبه تباعاً وفي سرعة لافتة فتوزع في عالمنا بسهولة ويسر، ولم يمنع القذافي كتب كولن ولسون كما منع غيرها، غير أنه اتخذها عتبة لمقارعة شارع الطلاب الحيوي، بخاصة عقب ثورة الطلاب العالمية في مايو (أيار) 1968، وليشعل شرر فكره في غابة الأشجار الميتة: الشيوعية والرأسمالية، داعياً إلى نظريته العالمية الثالثة.
حدث ذلك في أول عقد السبعينيات من القرن العشرين، قرن الأيديولوجيا وحروبها الصغيرة والباردة، فالنجوم الساطعة للقرن في كل مجال، في الأثناء أصبح كولن، الشاب اللامنتمي الوجودي الجديد، كما الشارح لوجودية سارتر الصعبة المنال، وهي ما ترجم عبدالرحمن بدوي سفرها الأعظم في 990 صفحة: "الوجودية والعدم – جان بول سارتر" (الناشر دار "الآداب" – الطبعة الأولى 1966). وقد اعتبر الكاتب الصحافي أنيس منصور نفسه تلميذها النجيب، وفي ليبيا التي في جامعتها يدرس "بدوي"، كتب تلميذه رجب بودبوس "في المنفى" كأول رواية وجودية ضاجة بمحليتها ومفارقة بنسج أصيل لروايات سارتر كـ"الغثيان". لقد حدث ذاك في أجواء حرب باردة مستعرة تتناطح في خضمها أكباش كبرى، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وحلفاهما "الأطلسي" و"وارسو"، وخرج ضدهما الطلاب ثوار الحقبة بتظاهرات تتناسل في العالم، بخاصة ضد سلاحهما القائم على توازن الرعب النووي.
كان فيلسوف الوجودية البارز هيدجر (المتهم بالنازية) يولي في جانب من اهتمامه بالعالم اهتماماً خاصاً بالتكنولوجيا/التقنية، والإيكولوجيا/ البيئة، ففي محاضرته عام 1953 قال "إن التكنولوجيا ليست مجموعة أجهزة ذكية وبارعة، بل تكشف التكنولوجيا عن أمر جوهري في وجودنا العيني، لذا تحتاج التكنولوجيا إلى نفكر فيها بطريقة فلسفية بدلاً من الطريقة التقنية"، وفيما هيدجر يفكر كذلك فإن ما يروج له اللامنتمي ويدرسه هو الشعوذة والحشيش والجنس والتصوف والشعر في العالم اللامعقول، وكولن ويلسون "الوجودي الجديد بحسب سارة بكويل"، عاش حتى الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 2013، تعتريه مشاعر الغضب حتى النهاية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد خصته بكويل في كتابها "على مقهى الوجودية" بصفحات قليلة لكنها مكثفة وألمحية وفيها "جاء من مدينة ليستر بإنجلترا، ولم يذهب إلى الجامعة. عنوان كتابه (اللامنتمي) على اسم رواية (الغريب) لكامو، تقديراً للرواية واحتفاء بها، وقد أخذ القراء في رحلة جامحة بعرضه أنماط الشخصيات الغربية المستلبة أو اللامنتمية. ومصادر الكتاب انتقائية، ونبرته جريئة وأفكاره كبيرة، وتحديه للأوساط الأكاديمية لا لبس فيه، استقبل الكتاب البريطاني بعاصفة. وساعد على ذلك أن ويلسون نفسه الذي لم يكمل بعد الخامسة والعشرين من عمره، كان حالماً يداعب خيال أي رجل دعاية. وشجع ويلسون قراءه على التعامل مع كتاباته بشكل شخصي. وأطلق على فكره (الوجودية الجديدة)، وأضفى عليها طابع إثبات الحياة، وقد سعى إلى توصيل معنى استحقاق الحياة الكامل في كتبه، مؤمناً بأن الوجوديين الكبار أخطأوا حين قيموا الحياة تقييماً كئيباً للغاية".
وكتبت بكويل "واحدة من المراجعين القلائل الذين أظهروا تعاطفاً مع ويلسون، بعد زوبعة كتابه (اللامنتمي) هي آيريس مردوخ، التي اعتبرته أبلهاً عنيداً، ومع ذلك كتبت في صحيفة (مانشستر غارديان) أنها تفضل (طيش) ويلسون وخفته، على (الجفاف) المتحذلق عند الفلاسفة الأكثر رسوخاً"، هذا من متن كتاب بكويل "على مقهى الوجودية"، وهو ما اعتبر أحد أفضل كتب عام 2016، وقد ترجمه حسام نايل.
الوجودية في زمان كولن ويلسون كانت البلسم في مكانه الغربي، ولقد أضاف إليها الجديد كعادة الشباب ممن يريد أن يميز نفسه، وقد حملها الشباب وردة وضعوها على صدر قبر هيروشيما، وفي ظنهم أن السلام ممكن ولو بطرز حرب باردة، وقد طفق ويلسون منذ خطوته الأولى واثق الخطى يمشي طاووساً، الكاتب اللامنتمي، لكن عقيداً من بلاد نائية جعل منه الشيطان الذي يقذفه بالحجارة، وتأبطت شره مثل كثير من شباب زماني. ويلسون نجم من نجوم ذاك الزمان، البيتلز والهيبز وتشي وكاردان، هو شي وماو وتيتو، وعبد الناصر ونكروما وسوكارنو ونهرو وكاسترو وكيندي وخرتشوف، وبريجيت باردو ومارلين ماونرو، وجميله بوحيرد، وبيليه وكلاي، وبيكاسو وسلفادور دالي والفيس برسلي، وسارتر وسيمون دي فوار و"الجنس الآخر"، وبيكيت و"غودو"، وهمنغواي وغوركي، وبريخت وماركوز ولوركا ونيرودا وناظم حكمت، وفيروز والرحابنة، والبياتي الذي يأتي ولا يأتي، ويوسف إدريس وكاتب ياسين والطيب صالح والصادق النيهوم ونزار قباني، وباتريس لومومبا، وبن بركة وبن بيلا وحلم مارتن لوثر كينغ وفلسطين، والسينما الجديدة ومسرح القسوة و"واقعية بلا ضفاف"، وغاغارين وأرمسترونغ وبرنار زارع القلوب وطفل الأنابيب والترانزيستور.
وكان الزمان رأسياً فالسرديات الكبرى سيدة المشهد، كان فعل ماض ناقص سرعان ما ولى، فـ"الآمال العظام" كعادتها طويلة النفس خائرة القوى، لكن جيل ما بعد الحرب من نظر إلى الخلف بغضب، أراد تغيير العالم الذي تغير بالقوة والفعل، فاتسع حتى صار الكون "موبايل" في كف اليد.
كنت صريع هذه الأفكار والأخبار العاجلة تمطر كف يدي بصواريخها العابرة للقارات، وتصريحات بوتين النووية، واشتعال نار النفط والغاز، وتقلب العجل الذهبي "الدولار"، وعارفو الألفية الثالثة المحللون يؤكدون وهم يضربون الودع أن الشوارع التي أفرغها فيروس ستمتلئ بالجوعى والأدعياء والمتملقين، فزمن كولن ولسون ولى، وقادم الزمان يأتي في ختام كتاب سارة بكويل بالبشارة: "يتولد فينا انطباع بالارتياح نحو هذه الفكرة عن أنفسنا، القائلة بأننا سذج مغفلون، ميكانيكيون خارج السيطرة، خاضعون لبيولوجيتنا وبيئتنا. ونتظاهر بأننا نجدها فكرة مزعجة، ولكننا نستمد منها في واقع حالنا نوعاً من الطمأنينة والراحة، لأن هذه الأفكار تجعلنا خارج الشرك. فهي تنقذنا من القلق الوجودي الذي ينشب مخالبه فينا ما إن نرى أنفسنا فاعلين أحراراً مسؤولين عما نفعل، ويطلق سارتر على هذا النوع من التفكير الإيمان الفاسد أو خداع النفس".