أضافت البيانات الاقتصادية الرسمية الصادرة في نهاية الأسبوع الحالي، فور إعلان استقالة حكومة ليز تراس، حدة إلى الأزمة الاقتصادية التي تواجهها بريطانيا. ويمثل ذلك زيادة العقبات أمام من سيخلف تراس في زعامة حزب المحافظين الحاكم ورئاسة الحكومة، إذ إن تلك البيانات والأرقام التي صدرت بعد ساعات من استقالة تراس أضعفت الأثر الإيجابي الذي تركه وزير الخزانة الجديد جيريمي هانت على الأسواق حين أعلن إلغاء الإجراءات السابقة التي اتخذتها حكومة تراس.
أظهرت الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني أن الاقتراض الحكومي في سبتمبر (أيلول) الماضي ارتفع بمعدلات أكبر من المتوقع مع ارتفاع معدلات التضخم في بريطانيا إلى أعلى مستوى منذ 40 عاماً. وبما أن قرارات هانت بزيادة الضرائب وخفض الإنفاق العام كانت تستهدف أساس تخفيف عبء الدين العام، فإن تلك الأرقام تجعل الأسواق في شك من أن السياسة المالية والاقتصادية التي كان يعتزم إعلان تفاصيلها بعد نحو أسبوع ستحل أزمة الدين العام والاقتراض الحكومي.
ووصل حجم العجز البريطاني في سبتمبر الماضي إلى نحو 22.3 مليار دولار (20 مليار جنيه استرليني). وبحسب مكتب الإحصاء الوطني، فإن حجم العجز جاء أكبر بكثير من توقعات الاقتصاديين الذين قدروا أن يصل العجز إلى أقل من 20 مليار دولار (17.5 مليار جنيه استرليني) لشهر سبتمبر. يذكر أن حجم الاقتراض الحكومي في الشهر المماثل من العام 2021 لم يزد عن عشر الحجم في الشهر الماضي، إذ كان المعدل الشهري أقل من 2.5 مليار دولار (2.2 مليار جنيه استرليني).
زيادة كلفة الاقتراض
بحسب أرقام مكتب الإحصاء الوطني فإن الاقتراض العام للحكومة في سبتمبر الماضي هو أعلى معدل اقتراض شهري منذ بدء تسجيل تلك البيانات عام 1997. ومن أسباب اقتراض الحكومة البريطانية بزيادة بنحو عشرة أضعاف الشهر الماضي عن الشهر المقابل قبل عام هو زيادة كلفة خدمة الدين العام نتيجة ارتفاع معدلات التضخم فوق نسبة 10 في المئة.
يضاف إلى ذلك انهيار ثقة الأسواق في الاقتصاد البريطاني بعد قرارات حكومة تراس خفض الضرائب على الأثرياء والشركات، إذ بدأ المستثمرون عمليات بيع هائلة لسندات الخزانة البريطانية، مما أدى إلى انهيار سعرها وارتفاع العائد عليها بحوالى عشرة أضعاف عنها قبل عام عندما قاربت نسبة العائد على السندات البريطانية خمسة في المئة.
لذلك جاءت معدلات الاقتراض الحكومي في سبتمبر الماضي عند ذلك المستوى غير المسبوق. فقد زادت مدفوعات الحكومة لخدمة الدين العام من 2.8 مليار دولار (2.5 مليار جنيه استرليني) في الشهر ذاته من عام 2021 إلى 8.6 مليار دولار (7.7 مليار جنيه استرليني) الشهر الماضي.
ومما يزيد من قتامة الصورة بالنسبة إلى مستقبل الاقتصاد البريطاني، حتى لو طبق وزير الخزانة الحالي جيريمي هانت سياسته بزيادة الضرائب وخفض الإنفاق، هو ما أعلنه مكتب الإحصاء الوطني بتراجع واضح في الإنفاق الاستهلاكي. فقد هبطت مبيعات التجزئة في بريطانيا في سبتمبر الماضي بنسبة 1.4 في المئة، بمعدل أعلى بنحو ثلاثة أضعاف من توقعات السوق بتراجع في مبيعات السلع في المحال وعبر الإنترنت بنسبة 0.5 في المئة.
وكان مكتب الإحصاء الوطني راجع مبيعات التجزئة لشهر أغسطس (آب) لتصبح منخفضة بنسبة 1.7 في المئة. وهي أعلى نسبة انخفاض في مبيعات التجزئة في بريطانيا منذ فبراير (شباط) 2021 الذي كان نتاج الإغلاقات المصاحبة لأزمة وباء كورونا.
اقتصاد أم سياسة
على رغم إدراك حزب المحافظين الحاكم الأزمة التي يمر بها مع تغيير الحكومة ثلاث مرات خلال أربعة أشهر، والعمل على اختيار خليفة لتراس في غضون أسبوع فحسب، إلا أن ذلك قد لا يسهم في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية في البلاد. فبحسب الأخبار والتحليلات في الإعلام البريطاني في الساعات الماضية، يبدو أن حزب المحافظين يركز على تفادي إجراء انتخابات عامة قد يخسرها، بالتالي يبدو وكأنه يقدم "مصلحة الحزب" على مصلحة البلاد. وتلك رسالة سلبية إلى الأسواق، أياً كان من سيختاره الحزب لخلافة تراس.
وبرفع عدد النواب الذي يحتاج إليه المرشح للمنافسة على زعامة الحزب ورئاسة الحكومة إلى 100، يحاول الحزب حصر المنافسة في عدد قليل بهدف الانتهاء من الاختيار الأسبوع المقبل. بل يسعى الحزب إلى حصر الترشيح في واحد يفوز بالتزكية ليصبح هناك رئيس حكومة جديد يوم الإثنين المقبل، أي اليوم الأول لعمل الأسواق. فمن شأن طول علمية الانتخابات الداخلية في الحزب أن تزيد من رد الفعل السلبي للأسواق تجاه الجنيه الاسترليني وسندات الدين السيادي، وهو ما يعقد أكثر مهمة رئيس الحكومة المقبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن التحديات لا تقتصر على استمرار الاضطرابات السياسية، ولا حتى احتمالات اضطرار بريطانيا إلى إجراء انتخابات عامة. فأياً كان من سيختاره الحزب من بين الشخصيات الثلاثة الأكثر توقعاً إعلامياً الآن، وهم وزير الخزانة السابق ريشي سوناك والوزيرة بيني موردونت ورئيس الوزراء المستقيل بوريس جونسون، فإن قدرة رئيس الوزراء على مواجهة التحديات الاقتصادية تبدو غير محسومة.
فعلى رغم أن توقعات سوناك بفشل سياسات خفض الضرائب لتشجيع النمو مع عدم التصدي لارتفاع التضخم ثبتت صحتها بفشل حكومة تراس، إلا أن الأزمة الاقتصادية تفاقمت بالقدر الذي لا يجعل ما طرحه وزير الخزانة السابق كافياً لتعديل مسار التدهور.
وبالنسبة إلى عودة جونسون للحكم فعلى رغم أن جناحاً في حزب المحافظين يراها السبيل الأمثل لعدم خسارة الحزب في الانتخابات، فإن المشكلات التقنية اقتصادياً التي تزداد تعقيداً كل يوم في الأسابيع الأربعة الماضية ليست في مدى خبرة جونسون.
أما بيني موردونت فسيكون اختيارها بالأساس محاولة سياسية من الحزب الحاكم لجسر هوة خلافاته الداخلية أكثر من قدرتها على التصدي للتحديات الاقتصادية.
تحديات الحكومة المقبلة
في النهاية ستواجه الحكومة المقبلة لحزب المحافظين أو حتى لغيره في حال السيناريو الأبعد احتمالاً بإجراء انتخابات عامة، تحديات اقتصادية هائلة من غير الواضح إن كان ممكناً التصدي لها وإعادة الاستقرار المالي والنقدي لبريطانيا بما يساعد في محاولة استعادة ثقة السوق.
ويمكن ببساطة تلخيص التحديات الاقتصادية أمام الحكومة البريطانية العتيدة في نقاط رئيسة عدة.
أولها التضخم والفائدة من خلال استمرار ارتفاع معدلات التضخم التي أظهرت بيانات مكتب الإحصاء الوطني وصولها قبل شهر إلى نسبة 10.1 في المئة، ويتوقع الآن أن تصل ببساطة إلى نسبة 15 في المئة، وسيؤدي ذلك إلى استمرار الزيادة في كلفة المعيشة على الأسر البريطانية نتيجة ارتفاع الأسعار، بالتالي استمرار الهبوط في الانفاق الاستثماري الذي يشكل القدر الأكبر من نمو الناتج المحلي الإجمالي البريطاني.
سيضطر "بنك إنجلترا" إلى الاستمرار في تشديد السايسة النقدية، أي رفع سعر الفائدة الأساسية وسحب السيولة ببيع ما لديه من سندات. ويعني ذلك مزيداً من الضغط على الأسر البريطانية مع زيادة كبيرة في مدفوعات أقساط قروض الرهن العقاري التي تضر بأكثر من ثمانية ملايين أسرة بريطانية.
ثانيها الدين العام، ليس ذلك فحسب، بل إن ارتفاع التضخم وسعر الفائدة الأساسية سيعني زيادة كبيرة في التزامات الحكومة بمدفوعات خدمة الدين العام. وبحسب معهد الإحصاء الوطني فقد ارتفع حجم الاقتراض الحكومي في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي إلى نحو 81 مليار دولار (أكثر من 72 مليار جنيه استرليني). وستضطر الحكومة إلى مزيد من الاقتراض لتمويل العجز الناجم عن مدفوعات خدمة الدين، ومع استمرار الاضطراب في سوق السندات سيكون اقتراض الحكومة في الفترة المقبلة أعلى كلفة بكثير.
ومن غير الواضح كيف سيمكن لأية حكومة مقبلة أن تستعيد ثقة الأسواق والمستثمرين الأجانب بما يخفض نسبة العائد على سندات الخزانة البريطانية لكسر الدائرة المفرغة لارتفاع حجم الدين العام ومدفوعات خدمته الشهرية.