لم يكن وصول ديون تركيا إلى هذا المستوى التاريخي من قبيل الصدفة، فالأزمات التي يشعلها النظام التركي بقيادة رجب طيب أردوغان، الذي يدير البلاد وفق "نظرية المؤامرة"، كانت كفيلة بأن تعصف بكل احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، وتنهار الليرة إلى هذا المستوى الصعب مقابل الدولار الأميركي، ما يضغط على جميع المؤشرات الاقتصادية، وعلى رأسها الديون الخارجية، التي تتفاقم بشكل مستمر.
البيانات الأخيرة التي أصدرتها وزارة الخزانة والمالية التركية تشير إلى اتجاه الديون الخارجية لتركيا نحو الوصول إلى مستويات قياسية تاريخية، إذ سجلت مستوى كبيراً، نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وتشير إلى أن إجمالي الديون الخارجية في البلاد صعد إلى مستوى 453.42 مليار دولار خلال الثلاثة أشهر المنتهية في مارس (آذار) الماضي، مقابل 444.81 مليار دولار المسجلة في الربع الأخير من العام 2018 بارتفاع يبلغ نحو 8.61 مليار دولار بنسبة زيادة تقترب من 2%.
وبلغت ديون تركيا الخارجية 467.14 مليار دولار في الربع الأول من عام 2018، قبل أن تتراجع إلى 444.81 مليار دولار خلال الربع الأخير من العام نفسه.
وفي الربع الماضي، شكَّلت الديون الخارجية الإجمالية لتركيا 60.6% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، مقابل 56.7% في الربع السابق له.
ويعتبر وصول معدل الديون الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 60.6% هو الأعلى على الإطلاق في تاريخ تركيا.
وبالنسبة إلى صافي ديون تركيا الخارجية، تشير البيانات والأرقام الرسميّة إلى أنه بلغ نحو 277.258 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الحالي، توازي نحو 37.1% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، وذلك مقابل نحو 273.978 مليار دولار مسجلة خلال الربع السابق له.
وأوضحت البيانات أن إجمالي احتياطي النقد الأجنبي لدى تركيا تراجع للمرة الثانية على التوالي في الأسبوع الأخير من شهر يونيو (حزيران) الماضي ليسجل نحو 73.544 مليار دولار، فيما واصل سعر صرف الدولار الأميركي ارتفاعه ليسجل نحو 5.6014 ليرة تركية، لتخسر عملة تركيا ما يقرب من نصف قيمتها خلال عام واحد فقط.
استمرار خفض التصنيف الائتماني و"نظرية المؤامرة"
الخبير المصرفي المصري علي محمود، قال إن "أزمة الديون التركية لم تظهر فجأة، لكن الخلافات الداخلية الأخيرة التي تشهدها تركيا وحالة التعبئة التي تقوم بها المعارضة ضد الحزب الحاكم بقيادة أردوغان، دفعت المعارضة إلى فتح هذه الملفات، وتناول الأرقام وكشفها في وسائل الإعلام العالميّة".
ولفت، في اتصال مع "اندبندنت عربية"، إلى أن "وكالات التصنيف الائتماني الدولية خفضت خلال السنوات الأخيرة، وفي أكثر من مرة، التصنيف الائتماني لتركيا، لكن أردوغان الذي يتعامل بنظرية (المؤامرة)، ويتهم الوكالات بأنها تقوم بعمليات الخفض بدوافع وأغراض سياسية لم يلتفت، ولم يتقدم بأي إصلاحات اقتصادية تضغط العجز المتفاقم في الديون وتقلّص من لجوء حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى الاستدانة لتمويل الإنفاق العام".
وأوضح، "الأرقام كانت تشير إلى أن إجمالي أقساط الديون المستحقة على تركيا خلال النصف الأول من العام الحالي يقترب من مستوى 170 مليار دولار، وهو رقم ضخم، ولم تعلن الحكومة التركية كيف تعاملت معه حتى الآن".
وتسببت عدة أزمات بين واشنطن وأنقرة في عودة الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، وتسببت العقوبات في خسائر اقتصادية عنيفة، أهمها الانهيار الذي طارد العملة التركية خلال العام الماضي، لتتكبد ما يقرب من نصف قيمتها مقابل الدولار الأميركي.
وأشار محمود إلى أن "الخلافات القائمة والمستمرة بين أردوغان ورئيس البنك المركزي التركي تؤكد تدخل رئيس تركيا بشكل سافر في سياسات المركزي، ما يعني أنه لا بوادر أو حلول تلوح في الأفق، طالما استمر تدخل أردوغان في السياسة النقدية للبلاد".
حان وقت سداد أردوغان فاتورة الديون
قبل أيام وتحت عنوان "حان وقت سداد أردوغان فاتورة الديون"، كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية "على مدى آخر عامين انتبه خبراء المالية إلى أعباء الديون الهائلة التي تواجه الشركات التركية الكبرى، كما تصاعدت المخاوف من الآفاق المشكوك فيها بشكل متزايد فيما يتعلق بإمكانية السداد الكامل للديون".
وقام مستثمرون بنقل أموالهم خارج البلاد، ما هَبَطَ بقيمة الليرة إلى أكثر من 40% مقابل الدولار الأميركي خلال العام الماضي. وكانت النتيجة أن معدل التضخم يقفز إلى حدود 19% بمعدل سنوي، ما يجعل الأشخاص العاديين والشركات محاصرين على حد سواء.
الشركات التي تدعم أردوغان تواجه خسائر عنيفة
وأشارت الصحيفة إلى أن معدل البطالة الرسمي في تركيا تجاوز حدود 14%. ومن الأمور المثيرة للقلق الشديد أن الشركات التي مكّنت أردوغان من تحقيق الطفرة في قطاع البناء شهدت تدهوراً في ميزانيتها العمومية مع هبوط الليرة التركية.
وكثير من ديون تلك الشركات مسعّرة بالدولار، وهو ما يعني أن أعباءها تتفاقم مع فقدان العملة التركية قيمتها، في حين أن معظم إيراداتها تكون بالليرة التركية، ما يمثل عدم توافق مميت على الأرجح يهدد بحالة من الإفلاس.
وبنهاية عام 2018 شهدت تركيا ديوناً متوسطة وطويلة الأجل بقيمة 328 مليار دولار من العملات الأجنبية، غالبيتها بالدولار، وكانت الشركات الخاصة مسؤولة عن نحو ثلثي هذه الديون.
كما أن تلك الشركات الخاصة مَدِينة بمبلغ إضافي بقيمة 138 مليار دولار من الديون بالعملات الأجنبية، التي يحل موعد سدادها في العام المقبل.
وبالنظر إلى الناتج المحلي الإجمالي لتركيا، الذي كان يبلغ نحو 766 مليار دولار في العام الماضي، فإن هذه الديون ضخمة. وقد أعطى هذا الدين تركيا وضعاً غير مرغوب فيه، وهو أنها أصبحت ثاني أكثر دولة عرضة لخطر الوقوع في أزمة شاملة بعد الأرجنتين.
وتفسر الهلع الشديد بشأن فترة أردوغان عوامل أخرى تتجاوز الشق الاقتصادي. إذ دخل الاقتصاد في مرحلة ركود خلال النصف الأخير من عام 2018.
أزمة الأسواق الناشئة في 2018 انطلقت من تركيا
"الرئيس لا يجب أن يتدخل في السياسة النقدية أو في إدارة البنك المركزي"، هذا ما أكده الخبير الاقتصادي الدكتور عماد كمال، مؤكداً أن "حل أزمة الديون في تركيا ليس مسؤولية أو مشكلة البنك المركزي التركي".
وتابع، "الأزمات التي افتعلها الرئيس التركي خلال الفترات الماضية سواء في المنطقة العربية أو أزماته المتكررة مع الإدارة الأميركية دفعت إلى زيادة الأزمات التي تواجهها تركيا، التي انتقلت بالفعل إلى المواطن التركي، الذي يرى أن أردوغان أخفق في مسألة الديون الخارجية بشكل كبير، والحكومات التي يشكّلها وراء الأزمة الحالية التي تعيشها تركيا".
وأشار إلى أن "الحديث عن أزمات الأسواق الناشئة خلال العام الماضي انطلق من تركيا، خصوصاً بعد الخسائر العنيفة التي تكبّدتها الليرة التركية مقابل الدولار، وتسببت خسائر الليرة في أن تتحوّل أرباح غالبية الشركات إلى خسائر، بعد بيع المنتجات بأقل من سعرها الحقيقي، وذلك مع هبوط أسعار السلع عند احتساب سعرها بالدولار".
وتوقّع كمال، "أن تستمر وكالات التصنيف الائتماني في خفض ديون تركيا خلال الفترة المقبلة، ما يجعل من الصعوبة الحصول على قروض أخرى أو تدخل المؤسسات الدولية في إنقاذ تركيا من قبضة الديون، التي أصبحت تعادل نصف ديون 20 دولة عربية وفقاً للبيانات الرسمية".