آثر المعهد الوطني للفنون الجميلة في مدينة تطوان شمال المغرب، أن يستعيد أحد أبرز الرسامين المغاربة الراحل المكي مغارة (مواليد 1933)، في سياق الاحتفاء برواد الفن التشكيلي في المغرب، الذين تزامن بروزهم مع الفترات الأخيرة للمرحلة الكولونيالية وبداية استقلال البلاد. يقام معرض المكي مغارة في رواق العروض الفنية - مركز تطوان للفن الحديث، ويستمر حتى 11 من الشهر المقبل. يحمل المعرض الاستعادي للفنان المغربي عنوان "رؤى"، ويتوخى تقديم المنجز البصري للرائد المغربي عبر مراحل مختلفة من حياته الفنية، تعكس تعدد زوايا نظر التشكيلي الراحل للمسألة الفنية، بالتالي تعدد زوايا قراءة أعماله من لدن المتلقي. ويقترح المعرض خمسين عملاً فنياً للمكي مغارة من حقب مختلفة، إذ يجد الزائر الأعمال التي نقل فيها الفنان الراحل مشاهد من مدينة تطوان، حيث الدروب القديمة والنساء بلباسهن التقليدي "الحايك" الأبيض، والرجال بجلابيب الصوف، كما في لوحة "الخرازين" التي رسمها بالزيت عام 1954 وإلى جانب اللوحات التي تنقل مظاهر الحياة في شمال المغرب، يكتشف زائر المعرض عدداً من الأعمال ذات الطابع التجريدي، فضلاً عن لوحات أخرى مائية وزيتية ومنجزات بصرية تعتمد تقنيات مزدوجة.
يشكل المعرض إطلالة بانورامية متعددة الرؤى على تجربة المكي مغارة، وسفراً في التاريخ الفني لأحد رواد التشكيل على مدى ستة عقود. ويسلط الضوء على فنان عاش تجربة حياة شاسعة أثرتها إقامته في الديار الإسبانية، وتقاطعه بالتالي مع الحضارة الأندلسية. وكان المكي مغارة، منذ نهاية الأربعينيات، سفيراً للأصالة المغربية في عدد كبير من بلدان العالم، فقد أقام معارض كثيرة كان معظمها بين المغرب وإسبانيا، فضلاً عن معارض أخرى شخصية في فرنسا والسنغال وكندا والجزائر وأميركا والعراق وألمانيا ومصر والبرتغال وغيرها من البلدان.
التشبث بالتراث في زمن القطيعة
يستلهم الفنان المغربي المكي مغارة قيم الحداثة بمختلف تجلياتها، غير أنه حريص في الآن ذاته على عدم القطع مع التراث العربي. إنه بالنسبة إليه يظل حاضراً على الدوام، خصوصاً بالنسبة إلى الفنان المنشغل بمسألة الهوية. ففي غمرة التقاطع مع المشترك الفني العالمي يظل الخاص والمحلي هو صانع الاختلاف ومشكل للمسة التفرد. ويتخلق الخاص لدى المكي مغارة من البعدين السوسيولوجي والتاريخي، إذ لا يمكن للفنان، مهما تعددت مرجعياته الثقافية، أن يقفز فوق الامتداد الزمني لحضارته، وفوق أساليب الحياة التي نشأ عليها منذ طفولته، لذلك فالمدينة القديمة حاضرة في لوحات الفنان الراحل بأزقتها العتيقة وفضاءاتها الشعبية ووجوهها وتفاصيل العيش المرتبة فيها، فضلاً عن الأزياء التقليدية والحلي المحلية التي تزين شخوص أعماله الفنية. والزخارف المغربية الأصيلة ذات الامتداد الأندلسي هي بمثابة عناصر تسهم في تشكيل لوحاته. ولعل حياته الموزعة بين المغرب وإسبانيا أسهمت كثيراً في تمثل التراث الأندلسي، إن على مستوى العمارة أو أساليب العيش، ثم إن المكي مغارة من أشد المتشبثين بالتراث العربي والإسلامي، في زمن بدأ يتشكل فيه تيار فني وفكري يدعو إلى القطيعة مع هذا التراث، بدعوى أن هذه القطيعة هي الدرجة الأولى في سلم الانطلاق نحو الحداثة.
وهذا ما جعل المكي مغارة يعمل برفقة من توافقوا معه في رؤيته على تأسيس اتحاد الفنانين العرب في بغداد خلال بداية السبعينيات. فالتراث بالنسبة إليه لا يمكن أن يكون دائماً عقبة في طريق الحداثة. إن الفارق تخلقه طريقة استثمار أو توظيف هذا التراث في العمل الفني، بالتالي فمهمة الفنان هي الحفاظ على هذا الإرث الحضاري، لأن في ذلك حفاظاً على الذات وصوناً للهوية.
تجسدت فلسفة المكي مغارة في قدرة الواقع على اختراق الفنان، مهما حاول هذا الأخير التنصل منه أو الارتفاع عليه. وواقع الإنسان هو في المحصلة امتداد لماضيه، وما يحمله هذا الماضي من حمولات ذات طابع جمعي، لذلك كانت حياة الفنان الراحل تتسرب إلى القماش، فهو كان يروي سيرته بالألوان. وهي ليست بالضرورة سيرة فردية، إنها نقل لتفاصيل محيط شارك في تأثيثه الفرد والعائلة والجيران وأبناء المدينة.
من الواقعية إلى التجريد
كان اختيار "رؤى" عنواناً للمعرض الاستعادي للمكي مغارة اختياراً ينسجم إلى حد كبير مع التوجهات الفنية والفكرية للفنان الراحل، إذ يمكن اعتبار مفردة "رؤية" كلمة مفتاحاً بالنسبة إلى تجربة الفنان المغربي. إنه يعتبرها "حاسة" تختبر قدرة الالتقاط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد دأب منذ بداياته على نقل ما تلتقطه العين إلى اللوحة بمهارة هائلة، سواء في مراحله التعبيرية الأولى أو خلال ما انتهى إليه في تجربته التجريدية، حين كان ينقل الواقع إلى اللوحة نقلاً آلياً، أو حين صار يكتفي بأن ينقل ما يخلفه هذا الواقع من أثر، فقد كان في بدايته رساماً للبورتريهات، حريصاً على نقل ملامح الإنسان التطواني بتلك الدقة التي يقتضيها التيار الواقعي، ثم سعى في مرحلة لاحقة إلى إقصاء الأشكال من لوحاته، وتعويضها بموتيفات تدل عليها. إلى أن وصل في نهاية مشواره إلى قناعة تفيد بأن كل الأشياء والموضوعات قابلة للاشتغال عليها واستثمارها تشكيلياً.
قضى المكي مغارة سنوات طويلة في الاشتغال على لوحاته الفنية مستنداً إلى القماش، ومعتمداً على الصباغة المائية والزيتية، قبل أن يشرع في تجريب تقنية الإلصاق، لإضافة عناصر جديدة على منجزه البصري، كما أنه خرج في عدد من أعماله من مفهوم اللوحة إلى مفهوم المجسم. واللافت أن المكي مغارة دعي في مناسبات عديدة إلى تصميم القطع والأوراق النقدية المغربية، فكان يضفي على العملة طابعاً فنياً فريداً، خصوصاً أن إصدار هذه القطع كان يتزامن مع مناسبات وطنية ودولية.