في هذه المقالات، جادلتُ في أن لدى بريطانيا اقتصاداً معطلاً ومجتمعاً منقسماً بشدة. هذه الأمور هي في آن معاً سبب ونتيجة، بصورة متزايدة، لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
سببت الأزمة المالية في عام 2008 ضررا كبيرا ودائما، حتى لو تم تقليل الضرر في المراحل النهائية لحكومة حزب العمال الأخيرة (بزعامة غوردن براون) ثم من قبل الحكومة الائتلافية. لا يزال هناك العديد من نقاط الضعف الأساسية: الاعتماد المفرط على القطاع المالي، المدخرات والاستثمارات المنخفضة، وضعف الأداء في مجال الابتكار والتدريب، وسوق الإسكان المعطلة بالكامل وثقافة الأعمال التجارية التي يهيمن عليها التفكير قصير الأجل. تتفاقم هذه المشاكل الآن بسبب حالة عدم اليقين المصاحبة لبريكست والتي تغذي بدورها سياسات مسببة للخلاف.
في عالم السياسات الشعبوية، يتم البحث عن حلول بسيطة للمشاكل المعقدة. نحتاج إلى البناء على هياكل قوية ومستقرة ومستقلة من الناحية التشغيلية تشرف على السياسة الاقتصادية، والتي تعتمد على الأدلة والخبرات لمواجهة الأشخاص المتحايلين الذين يعدون بتخفيضات ضريبية للتمويل الذاتي ومصاريف يتم تمويلها بطريقة سحرية. بصفتنا ليبراليين وديمقراطيين، يجب ألا نستسلم للسياسات المرتكزة على الخوف، ولكن أن نقدم بدلاً من ذلك طريقاً نحو مستقبل أفضل.
ألخّص هنا مقترحاتي في خارطة طريق مكونة من 10 نقاط نحو بريطانيا أفضل - لبناء مجتمع أكثر ازدهاراً وعدالة اجتماعية واستدامة بيئية.
1. خدمات عامة قوية وضرائب عادلة
ضمن الإطار العام للقواعد والانضباط المالي، الحاجة إلى خدمات عامة مموَّلة بشكل أفضل وبرنامج لتخفيف حدة الفقر أمر بالغ الأهمية. ويجب تمويل هذا بأمانة بواسطة الضرائب.
إن النظام الضريبي شديد التعقيد ويحتاج إلى إصلاح جذري لتحويل عبء الضريبة من العمل والمدخرات والابتكار إلى الثروة غير المنتجة والأرض والنفقات (بشكل متساوٍ عبر الإنترنت أو في المتاجر) والأنشطة الضارة بيئياً - والتعاون الدولي الهادف لضمان أن الأثرياء العالميين والشركات التي تتهرب من الضرائب يدفعون ما يترتب عليهم. حتى في إطار النهج المنضبط للتمويل العام الذي تحدثت عنه، هناك مجال لزيادة الاستثمار العام بشكل كبير في البنية التحتية والإسكان، إلى جانب القطاع الخاص، يتم تمويله عن طريق الاقتراض العام ويخضع لاختبار تحمّل صارم.
2. دولة ريادية
يشوب الجدل السياسي الحزبي نزاع أيديولوجي قديم ومُضعف للقوى في دور القطاعين العام والخاص. يجب تقييم المشاريع الخاصة الناجحة والمربحة والمنافسة، في حين أن للدولة دوراً اقتصادياً أساسياً في تعزيز التعليم والتدريب والعلوم، وبشكل خاص الابتكار والبنية التحتية، كل ذلك في إطار استراتيجية صناعية تعطي الأولوية للتصنيع المتطور والتقنيات والخدمات الناشئة مثل الصناعات الإبداعية والخدمات المهنية.
3. استحضار الأماكن المُهمَلة
لا يمكن أن نتوقع من البلدات والمجتمعات "التي بقيت مهملة" اللحاق بالركب عن طريق العدوى من المدن الناجحة. نحتاج إلى برنامج عاجل للاستثمارات العامة المستهدَفة (إلى جانب القطاع الخاص) باستخدام نموذج صندوق النمو الإقليمي الناجح على نطاق أوسع. في حين يظل الاقتصاد مركزياً بشكل كبير، نحتاج إلى إعادة موازنة الطاقة بعيداً عن لندن وإعادة توزيع الموارد بحسب الحاجة والإمكانات.
4. أفضل تعليم في العالم
يجب أن تكون أولوية الإنفاق العام هي التعليم على جميع المستويات لجعل المملكة المتحدة أقرب إلى معايير الأفضل على المستوى الدولي. هناك فجوة معينة تتمثل في التعليم بعد سن 16 عاماً، حيث يجب معالجة الإهمال طويل الأمد للتعليم المهني وتعليم الكبار. سيكون النهج الأفضل هو حساب سخي للتعلم الفردي لجميع الشباب لدفع الرسوم التي ينطوي عليها التعليم عالي الجودة على مدى الحياة.
5. الأعمال التجارية التنافسية والمسؤولة
يتطلب الاقتصاد السليم المنافسة والمراقبة القوية للسلوك المعادي للمنافسة. تحتاج الاحتكارات الطبيعية للسكك الحديدية وإمدادات المياه وتوزيع الطاقة إلى تنظيم أكثر ذكاءً بدلاً من إعادة تأميمها. ويجب على الحكومة فرض ضرائب على الأرباح الزائدة على معدل العائد. التهديد الرئيسي للمنافسة يأتي من منصات الإنترنت الرئيسية التي تدير احتكارات فعلية عبر الحدود الوطنية. يجب أن تتضمن الاستجابة الترحيب بالابتكار، وقيوداً على الاحتكار تتجاوز الحدود الوطنية (أي الاتحاد الأوروبي)، وتنظيماً وطنياً للمحتويات الضارة وحماية المستهلكين، بما في ذلك دفع الأموال لهم مقابل استخدام بياناتهم، كما يجري تطوير هذا الأمر الآن في كاليفورنيا.
نظام الاستحواذ البريطاني متساهل للغاية، حيث يقدم رسوماً مربحة للبعض ولكنه يقلل من أداء الشركات الجيدة على المدى الطويل. دعونا نمنح المستثمرين على المدى الطويل حقوقاً أكثر في التصويت أو أن نحرم المستثمرين المضاربين على المدى القصير. يجب أن يكون الحفاظ على القاعدة العلمية وتعزيزها بمثابة اختبار مهم يصب في المصلحة الوطنية في حالات الاستحواذ.
إن النموذج الحالي للعمل التجاري الذي تكون فيه مهمة المدراء هي الربح على المدى القصير لم يعد موثوقاً. يجب أن يكون هناك إعادة توازن للمسؤوليات، من خلال إصلاح إدارة الشركات، والمسؤوليات طويلة الأجل والأوسع بما في ذلك تجاه الموظفين والعملاء والبيئة. ينبغي على الحكومة أن تشجع بفعالية أكثر نماذج مختلفة من هيكلية الشركات: المؤسسات الاجتماعية، والملكية المتبادلة وملكية الموظفين.
6. أسواق عمل عادلة
أصبحت أسواق العمل مرنة للغاية، وتقلل من أهمية الأمن والولاء والتدريب والخبرة. والنتيجة هي توظيف كامل ولكن بأجور منخفضة وانتاجية ضعيفة. يرحب العديد من العاملين، وأرباب العمل كذلك، بالترتيبات المرنة، لكن المعادلة مالت كثيراً باتجاه "التوظيف والطرد". نحتاج إلى تطبيق أكثر صرامة للحد الأدنى للأجور، وحقوق قانونية أقوى ’للعمالة الجمعية’، ونماذج التوظيف المرنة الأخرى، وتعزيز فرص العمل الجماعي (بما في ذلك الاقتراع الإلكتروني في النقابات).
الجدالات الاقتصادية في نظام هجرة حر للعمال داخل وخارج الاتحاد الأوروبي قوية. ولكن هناك تكاليف لا شك فيها، ولا سيما في الأثر على سوق الإسكان. وهناك طلب معقول لضمان إدارة الهجرة. ببساطة، ليس من الصائب أن تتحدث عن وجوب مغادرة بريطانيا السوق الأوروبية الواحدة لضمان أن بعض الإجراءات لإدارة تدفقات الهجرة تتم ضمن إطار "حرية التنقل".
7. سوق إسكان مناسب للشباب
يعاني سوق الإسكان من عطب شديد، مع ما يترتب على ذلك من آثار سلبية حادة على معظم جيل الشباب وأولئك الذين يعيشون في فقر نسبي. هناك حاجة ملحة لبناء مساكن اجتماعية على مستوى كبير من قبل مجالس البلديات وجمعيات الإسكان إلى جانب الإسكان بأسعار ميسّرة للتملّك. السياسة الحالية التي تضخّم الطلب والأسعار، مثل مبادرة ’المساعدة للشراء’ تأتي بنتائج عكسية. سيكون من الضروري الحصول على الأراضي بثمن بخس، من خلال الشراء الإلزامي دون تقييم مبالغ فيه يتم خلقه من خلال نظام التخطيط، ومن خلال سوق تخضع للإدارة يمكن فيها أيضاً بيع المنازل بأسعار معقولة.
8. فرض الاقتصاد الأخضر من أجل مستقبل مستدام
يجب أن يوفر الوعي البيئي خطاً أخضر على طول السياسة. العمل على الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة أمر ضروري كجزء من عملية عالمية لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري؛ لدى المملكة المتحدة للتو تشريع إلزامي قوي، و رقم قياسي في خفض الانبعاثات، ومبادرات تكنولوجية متنوعة. لكن سياسة تخفيض الكربون قد انقلبت مؤخراً، ويجب أن يكون هناك التزام متجدد وعاجل بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وطاقة المد والجزر المتجددة، وكفاءة الطاقة وكبح الانبعاثات الناجمة عن الطيران. هناك الكثير مما يمكن قوله عن حشد الأنشطة حول ’الاتفاق الأخضر الجديد’ الطموح على غرار الولايات المتحدة، وإن كان ذلك مع وجود استعداد أكبر لاستخدام الأسواق ودون الاعتماد على الأموال السحرية.
9. الانفتاح على العالم
كدولة متطورة متوسطة الحجم، سواء كانت داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه، فإن المجال للعمل الأحادي المفيد محدود لدى بريطانيا: خارج الاتحاد الأوروبي، لن تؤخذ على محمل الجد في أي حدث. كدولة تطل من خارج الاتحاد، علينا أن نلعب دوراً في الأمن المشترك وفي الدفاع عن نظام قائم على القواعد في التجارة والتمويل الدولي والأعراف البيئية والقواعد الضريبية والانتشار النووي وحماية حقوق الإنسان وغيرها الكثير. أحد أخطر أبعاد السياسة الشعبوية هو إحياء القومية ورفض الترتيبات التعاونية. يجب ألا ننغمس في ذلك.
10. إصلاح سياساتنا المعطّلة
وراء العديد من الإخفاقات الحالية في المملكة المتحدة هناك نظام سياسي متفكك وتسوء سمعته بشكل متزايد. يجب أن تتضمن أجندة الإصلاح تغييراً في النظام الانتخابي الذي يقوم باستحواز الفائز بأكبر عدد من الأصوات مهما كانت نسبتها على السلطة في الحكومة المحلية ومجلس العموم، ومجلساً ثانياً منتخباً، وإصلاحاً شاملاً لتمويل الأحزاب، ولامركزية جذرية لسلطة الحكومة المحلية، وتجاوزَ "الاستقلال الذاتي" لنموذج العمدة المنتخب الحالي.
بدأ الحزبان الرئيسيان والتقليديان في الانهيار. هذا أمر مرحب به وينبغي على الديمقراطيين الأحرار أن يتصرفوا كشريك وعامل محفّز للمساعدة في تشكيل قوة ليبرالية وديمقراطية اجتماعية جديدة للسعي قدماً لتنفيذ هذه الأفكار.
في حين أن المعركة المباشرة في السياسة البريطانية تتمثل في صد الأضرار التي سببها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإبقاء خيار العودة مفتوحاً أمام الجمهور- لا تزال إمكانية البقاء موجودة وتستحق القتال من أجلها. الأفكار الواردة في خارطة الطريق هذه تعطينا أجندة للعمل المستقبلي.
السير فينس كيبل هو زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار. تم استخلاص هذه المقالة من كتاب "ما بعد بريكست" وهو مجموعة من المقالات عن مستقبل الليبرالية.
© The Independent