Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

بطلة منى العساسي تكابد آلام الفراق في "ليالى الهدنة"

الذكريات وحدها قادرة على إعادة إحياء الحب من خرائب الماضي

القبلة بريشة غوستاف كليمت (متحف كلميت)

"ليالي الهدنة... مطارحات الألم" (ميريت)، العمل الروائي الثالث للكاتبة المصرية منى العساسي، بعد "نقش على خاصرة الياسمين"، و"جبل التيه"، ويبدو أن الكاتبة في عملها الثالث متأثرة بفن القصة القصيرة، فالرواية مقسمة إلى مجموعة من الليالي تبدأ من "الليلة الثانية بعد الهدنة"، ثم "الليلة الرابعة والثلاثون بعد الهدنة"، ويعقبها فصلان، "ليلة فقدت ترتيبها"، و"الخروج".

 نحن إذاً أمام اثنتين وثلاثين ليلة وفصلين كأنهما تعقيبان على هذه الليالي أو محاولتان للخروج منها، وتذكرنا فكرة سرد "الليالي" هنا بالسردية العربية الكبرى "ألف ليلة وليلة"، فشهرزاد تحاول إنقاذ نفسها بتوليد الحكايات الغرائبية وتنجح في دفع شهريار إلى التعافي من عقدة القتل، بينما بطلة منى العساسي تحاول إنقاذ نفسها من ذكريات الماضي المؤلم وتجاربها العاطفية المريرة، وتنجح أخيراً في غلق دفتر تلك الذكريات، ولأننا أمام سرد ذاتي فقد كان من المناسب أن توظف الكاتبة ضمير المتكلم حين تقول في بداية "الليلة الثانية بعد الهدنة"، "أحدق في الهاتف كأني أرجوه أن ينطق، أستعطفه ليأتي جرسه حاملاً صوته، لا شيء داخلي يصدق أننا انتهينا هنا"، توحي هذه الكلمات باغتراب الساردة وإحساسها بالوحدة وافتقادها التواصل مع من تحب بعد إجهاضه لعلاقتهما. وهو ما يتوازى دلالياً مع التصدير في مستهل الرواية، "في جوفي طائر يبتغي الحرية، يرجو الخلاص"، ولعل هذا هو مسعى الرواية كلها التي تؤكد عبر تراكم لياليها هذه الرغبة الملحة في الحرية، بعد أن فقدتها في علاقاتها الكثيرة التي كانت أشبه بالحرب وقررت عبر ليالي الهدنة المتتابعة أن تستعيد ذاتها.

المتواليات القصصية

 

وإذا كانت الرواية تتماهى بدرجة ما مع "ألف ليلة وليلة"، فإنها تقترب فنياً مما يسمى بالمتوالية القصصية التي تقوم على بنيتي "الانفصال" و"الاتصال"، بحيث يظل من الممكن قراءة كل ليلة بوصفها وحدة فنية مستقلة، أو قراءتها في اتصالها مع غيرها من الليالي داخل البنية الكلية للرواية، وهذا يطرح فكرة "النوع" الأدبي، فـ"ليالي الهدنة... مطارحات الألم" تخرج عن التنميط والبناء التقليدي أو حتى الحداثي للرواية، محققة بذلك المقولة الشائعة حول طبيعة الفن الروائي باعتباره الجنس الأدبي الذي "لا شكل" له، بمعنى أنه في حالة صيرورة دائمة وتحولات فنية لا تعرف الثبات.

يمكن القول إن التيمة الرئيسة في هذه الرواية تدور حول ثنائية الحب والفراق، فهي تقوم على رصد نهايات الحب، تقول الساردة في آخر "الليلة التاسعة"، "حاولتْ أن تتذكر ما حدث، لكنها لا تذكر شيئاً سوى آخر مكالمة جمعتها به، آخر كلمات سمعتها منه، أردتُ سماع صوتك قبل أن تفرقنا السبل". ونلاحظ هنا استخدام ضمير الغائب الذي تزاوج الكاتبة بينه وبين ضمير المتكلم، تجاوباً مع الدلالة العامة التي تريد تصويرها.

 

وتعد تقنية الاسترجاع أكثر التقنيات السردية التي اعتمدت عليها الكاتبة في هذه الرواية، فالعلاقات المنتهية كلها يتم استدعاؤها وتأملها وتصوير ما تركته من آلام نفسية، كأن نقرأ على سبيل المثال، "خمسة عشر عاماً تطل علي من نوافذ الذاكرة، فتاة ابنة السبعة عشر عاماً بخيباتها وانكساراتها بأحلامها المقتولة وتخبطاتها، بتمردها وضعفها وقلة خبراتها".  وعلى رغم اعتماد الرواية على بنية "الفراق والحب" كما ذكرتُ، فإنها لا ترى في الفراق قتلاً للحب، بل ربما يكون إحياء له على مستوى التذكر الدائم، تقول الساردة مخاطبة حبيبها، "إن كنتَ تظن أن الفراق ينهي الحب فأنت مخطىء، الحب حالة عميقة جداً من التوحد في الآخر". إن فكرة التوحد بوصفها غاية الحب تحيلنا إلى نزعة التصوف وإلى فكرة الفناء في ذات المحبوب تحديداً، وهو ما يظهر في قولها في موضع آخر، "من يحب بتطرف يفني ذاته في معشوقه".  

مستويان للزمن

إن تقنية الاسترجاع الدائمة وتفعيل آلية التذكر يطرحان مستويين من مستويات الزمن، المستوى الأول هو ما يعرف بزمن الأحداث الواقعية المنتمية إلى الماضي، والمستوى الثاني هو زمن السرد الحاضر، تقول في بداية "الليلة السادسة عشرة" متأملة هذا الماضي القريب وطبيعة علاقاتها، "في أحيان كثيرة أستغرب نفسي، لطالما أنجذب للعلاقات التي تضعني فوق فوهة بركان، العلاقات التي تعتصرني بنبضها غير المنتظم، التي لا تمنحني مجالاً للتفكير بأي شيء آخر سواها، فتشعرني لحظة بالنشوة وبعدها بلحظتين تضعني فوق جمر الندم، أفضل تلك العلاقات المعقدة التي لا أعرف فيها طعم الراحة والاستقرار".

بناء على ما سبق تأخذ الرواية بعداً درامياً واضحاً، ويأخذ الزمن بعداً ثالثاً يمكن وصفه بالزمن النفسي، الذي تستشعر ثقل وطأته وبطئه كما يبدو من قولها، "كنت أظن أنه الصباح، ولكن خاب ظني، فلم يبدأ اليوم الجديد بعد ولا أدري لماذا يمر الوقت ثقيلاً هكذا"، ويصبح الزمن ظرفاً لصراعات دائبة بين ما نرجوه ونتمناه وما نقع تحت وطأته... "هل نخلق في هذه الحياة فقط لنعاني، لنتمزق في كل لحظة بين ما نريده وما نعيشه، بين ما يرضينا وما هو مفروض علينا، بين قدراتنا المحدودة وطموحنا اللامحدود".

اقرأ المزيد

 إن هذه الثنائيات الضدية هي هم إنساني وجودي، ووسط هذه الدراما والإحساس الصوفي بالآخر ومحاولة التوحد معه، يتساوى الغياب والحضور، وذلك لأن الحضور لا يتحقق بالوجود الحسي، بل بالإحساس الوجداني، تقول، "ها أنذا أحياك بكل ما أنت عليه من غياب بكل ما أنت عليه من حضور، وجهك الذي يطل من خلفي في المرايا بصوتك الذي يحاصرني في كل الغرف والزوايا"، إننا أمام ما يشبه الحصار الذي يحول الغياب إلى حضور طاغ يستدعي صوت الحبيب وصورته عبر المرايا.

النزوع الشاعري

هذا الشاهد وغيره يؤكد النزوع الشاعري المتمثل في البوح الذاتي والصور المجازية والتكرار وإيقاع الجمل المتساوية والتقابلات الرهيفة، حين تضيف اللون الأبيض إلى الظلام، كما في قولها، "خرجتْ إليه تشق ذاك الظلام الأبيض في الصباح الباكر"،  وكما كانت الساردة قادرة على تحويل الغياب إلى حضور يملأ حياتها نراها تحول الحضور الحسي إلى شعور بالوحدة التي تحسها في وجود هذا الآخر، "فلطالما كانت وحيدة منعزلة، وحيدة وهو يتحرك في مرمى بصرها".

هذا الانفصال بين الماضي والحاضر والواقع والحلم تستشعره الساردة أيضاً على مستوى الذات من خلال لعنة الفصام التي تعاني منها حين تقول، "شيء مريع حقاً، شيء ربما خرج عن السيطرة هذا الفصام المباغت الذي ينتابني هذه الأيام"، أو قولها، "أشعر أن هناك فتاة أخرى داخلي تعشق الظلام تستيقظ في جسدي بعد أن أنام"، وهو ما يجعل هذه الذات المنقسمة على نفسها تشعر بالخوف دائماً.

الوصف التعبيري

يتحول هذا الخوف إلى قيد على حركتها ويضعها على مقصلة الحياة فلا تكف عن جلدنا ولا نكف نحن عن جلد ذواتنا"، وتصبح التفاصيل في هذا السياق ذات أهمية، فالساردة ترفض أن يعيد حبيبها ما كان بينهما من تفاصيل مع امرأة أخرى، حين تصيح بصوت محموم مضطرب، "لا تفعل بي هذا، ليس من حقك أن تكرر شيئاً من تفاصيلي معها". هذا الصراع والانتظار والحيرة يفسر تتابع الأساليب الإنشائية في بعض مواضع السرد ومن ذلك قولها، "من يكون؟ ماذا يريد؟ ما الذي قد تستطيع امرأة مثلي أن تقدمه لأي شخص على الإطلاق يلجأ لها في نومها".

يحضر المكان في هذه الرواية بصورة شبحية، لكن الساردة تستحضره أحياناً من خلال الوصف التعبيري الذي يعكس مشاعر الذات ويرصد تقابلات المكان، حين تقول، "الطرقات المزدحمة في مدينتك الصاخبة لا تشبه أبداً الطرقات الخالية في هذه البلدة الصغيرة التي لا تمنحني الكثير لأنشغل به".

وأخيراً، يمكن القول إن هذه الرواية قد خرجت عن التنميط، ووظفت عديداً من الأجناس الأدبية والفنية، وإن شابها التكرار الدلالي في بعض مقاطعها.

المزيد من ثقافة