"في هذا الكتاب، سلطت صديقتي وتلميذتي ماري بونابرت، ضوء التحليل النفسي على حياة وعمل شاعر عظيم كنا نعرف جميعاً على أية حال أن لديه ميولاً مرضية، هو الأميركي إدغار آلن بو. وهكذا، وبفضل هذا العمل الذي أنجزته ماري بونابرت مشتغلة على التفسير السيكولوجي والتحليل النفسي، بتنا ندرك الآن أي جزء من أجزاء هذا العمل كان مشروطاً بشخصية الرجل، ويمكننا أيضاً أن نرى أن هذه الشخصية كانت وتبقى مرتبطة بتثبيتات وخبرات عاطفية قوية، لا شك أنها كانت مؤلمة منذ وقت مبكر جداً في حياة بو. صحيح أن مثل هذه الأبحاث لا تدعي تفسير عبقرية الشاعر، لكنها تظهر العوامل التي أيقظت هذه العبقرية وما المواد التي جلبها القدر له، مما يذكرنا بكم أن هناك جاذبية خاصة في تطبيق دراسة قوانين النفس البشرية على هؤلاء الأفراد غير العاديين". كاتب هذا الكلام هو بالتحديد رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد. وهو كتبه في سياق تقديمه سيرة نفسية كتبتها عن بو، امرأة تعتبر من صاحبات الأسماء الكبيرة في عالم التحليل النفسي، ماري بونابرت وصدرت طبعتها الفرنسية الأولى عن منشورات "دينويل وستيل" الباريسية في عام 1933. والحقيقة أنه بقدر ما أن كتابة فرويد مقدمة للدراسة لم تكن مفاجئة لأحد كما سنرى بعد سطور، كذلك لم يكن مفاجئاً، وكما سنرى أيضاً، أن تكرس ماري بونابرت سنوات عديدة من حياتها لوضع ذلك المؤلف.
بونابرت في حلقة فرويد
ففي نهاية الأمر كانت الأميرة ماري بونابرت تعتبر ولو بشكل لاحق بعض الشيء، واحدة من الأعضاء الأكثر تنوعاً وغنى بالألوان في أوساط دائرة التحليل النفسي الداخلية المقربة من سيغموند فرويد، وأكثر الأعضاء غموضاً في الوقت نفسه. وهي مثلها مثل عديد من المفكرين والمحللين الذين التحقوا بفرويد وصاروا من حوارييه، قبل أن ينشق كثر منهم عليه، كانت في البداية من "مرضاه" حيث خضعت لتحليله لها وكانت في الخامسة والأربعين من عمرها عام 1925. غير أنها سرعان ما تحولت لتصبح محللة نفسية وباحثة بدورها، كما باتت من أقرب أصدقائه إليه، ومنذ ذلك الحين صارت معروفة ككاتبة أنتجت عديداً من الأوراق والكتب. ولنقل إن هذا التوجه هو الذي مكنها من أن تحقق ذلك الطموح الذي كان الأكبر في حياتها، وتحديداً كتابة سيرة لا يقل عدد صفحاتها عن 700 صفحة للكاتب والشاعر الأميركي إدغار آلن بو، نشرت لأول مرة بالفرنسية في عام 1933. وهي السيرة التي كتب لها فرويد نفسه تلك المقدمة التي بدأنا هذا الكلام بفقرة ولو موجزة منها.
الذات من خلال الآخر
كانت ماري بونابرت مفتونة كما تفيدنا تلك السيرة طبعاً، بقصص بو القوطية ولا سيما منها تلك الغرائبية التي تصور عودة الموتى إلى الحياة والتحولات الغريبة غير المتوقعة للأحداث. والحقيقة أن في مقدورنا، وكما تقترح الأميرة الباحثة، إرجاع اهتمامها ببو، إلى ما رصدته وعملت على تحليله، من "تشابه بين تلك التجارب التي عرفتها حياة كل منهما على حدة، وكانت تجارب صادمة بدآ يعيشانها بصورة مبكرة" كما تقترح الأميرة الباحثة. لقد فقدت ماري بونابرت والدتها بعد شهر من ولادتها، فيما هجر والد إدغار آلن بو الأسرة ولم يكن إدغار قد تجاوز العامين، ثم توفيت والدته بمرض السل عندما كان في الثالثة من عمره. ومنذ مقدمة كتابها تؤكد لنا الباحثة من خلال سبرها القصص التي سيكتبها بو لاحقاً كيف "ساعدت تلك القصص الكاتب على التكيف مع تلك الخسارات وضروب الفقدان المبكرة التي طبعت حياته منذ الطفولة". ونستشف من خلال التعاطف الذي يكاد يكون تطابقاً بين الكاتبة وبو لا بد أن نلاحظ كيف أن ماري بونابرت تبدو وكأنها تشاطر بو صموده في وجه مصائبه كما تشاطره "أوهام عودة الوالد المتوفى في قصصه". ومن هنا لن نفاجأ على مدى فصول الكتاب بكم أن الباحثة تبدو حساسة ومتعاطفة مع عالم بو الداخلي لأن عالمهما الداخلي كان متشابهاً. ولربما كان في إمكاننا أمام ذلك التطابق في التحليل في الأقل وأمام ذلك التوافق النفسي بين بو وبونابرت أن نشعر وكأن هذه الأخيرة إنما كانت، وربما من دون وعي معمق منها، تكتب سيرتها النفسية الجوانية من خلال كتابتها سيرة كاتبها المفضل، وتحديداً في المجال السيكولوجي بتركيزها على صدمة الطفولة المبكرة، وهو تركيز بدا لكثر من المعلقين، وحتى بمن فيهم الذين أثنوا على الكتاب بصورة استثنائية، مبالغاً فيه وقد لا يكون مرضياً لصاحب السيرة نفسه إن هو عاد إلى الحياة وقرأ الكتاب! ومع ذلك فإن أولئك المعلقين أنفسهم أكدوا أن ماري بونابرت أثبتت في هذا الكتاب أنها محللة نفسية مبدعة حسنة النية، وليست امرأة شغوفاً هاوية للكتابة تدعمها صداقتها مع فرويد.
رسائل من تاريخ الحركة
على أية حال، إذا كانت حكاية الصداقة الطويلة التي جمعت بين فرويد وماري بونابرت معروفة بقدر ما كانت مثمرة، فإن كتاباً صدر قبل أسابيع في فرنسا في 1180 صفحة قد أتى ليوضحها بشكل أفضل، وذلك بالتحديد لأن الكتاب الذي يصدر هذه المرة للمرة الثالثة يأتي مكتملاً ومع مقدمات بالغة الأهمية، مما يحوله إلى وثيقة بالغة الأهمية في تاريخ "الحركة الفرويدية". فالكتاب يضم تلك الرسائل المتبادلة بين "الهر بروفسور" و"صاحبة السمو الإمبراطوري" طوال عقود لم ينهها سوى موت فرويد نفسه في عام 1939، مما يعني أن ماري كانت واحدة من قلة من "زملاء" فرويد في التحليل النفسي لم تنشق عنه ولم تخاصمه، بل لم تعترض أبداً بصورة واضحة على أية فكرة من أفكاره. والرسائل المتبادلة بينهما تشهد على ذلك. ولا يقل عدد الرسائل عن 885 رسالة يتخذ معظمها شكل مطولات تتناول كل ما قد يخطر على البال. منها 578 رسالة من الأميرة إلى أستاذها الكبير كتب معظمها بالفرنسية وبعضها، وهي المتأخرة زمنياً بالألمانية، و307 رسائل من فرويد كتبت جميعاً بالألمانية مع استثناءات قليلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرفق بماري
ومن خلال تلك الرسائل يتبين مقدار الحنان والتشجيع اللذين كان فرويد يبديهما تجاه مكاتبته، وكيف كان يداريها برفق وبخاصة حين تعرض له نظرياتها الهرطوقية، معلنة إياها كـ"اكتشافات مدوية" في عالم التحليل النفسي ولا سيما منها تلك المتعلقة بالمسألة الجنسية وبشؤون المرأة والحب وما إلى ذلك، وهي تبدي في مجمل ما يتعلق بهذه الأمور، اعتراضات تبلغ أحياناً حدود الراديكالية، على مواقف فرويد. واللافت هنا في رسائل فرويد أنه يتخذ أسلوب المعارضة بالتدريج لدحض أفكار تلميذته في نهاية المطاف من دون أن يبدي تجاهها من الغضب أعشار ما كان يبديه، مثلاً، تجاه يونغ أو فيرينزي حول الشؤون نفسها. وقد يخيل لقارئ الرسائل هنا أن فرويد كان يتعاطف مع ماري ويأخذها باللين لأسباب تتعلق بكونها قد أنفقت ثروتها الشخصية بوصفها حفيدة إمبراطورين، نابليون الأول ونابليون الثاني، ناهيك بأنه في العمق لا ينظر إلى مساهماتها الفكرية نظرة الجدية، لكن الحقيقة التي تستشف من الرسائل هي أنه كان يحترمها حقاً ويراهن على أن فضولها الشديد والزمن كافيان لتوعيتها وإعادتها إلى حظيرة أفكاره. وربما ستتطور الأمور على هذه الشاكلة حقاً، لكن المشكلة، في رأي المؤرخة والعالمة الفرنسية إليزابيث رودينسكو، هي أن فكر ماري بونابرت لم يتطور بل جمد تماماً عند رحيل فرويد. ولا سيما من خلال اعتبار الأميرة نفسها الأحق بوراثة زعامة فرويد للحركة، وهو أمر لم توافقها عليه آنا فرويد التي كانت الوريثة الشرعية الطبيعية لتلك الحركة بعد موت والدها.
ومهما يكن من أمر، ليس ثمة في الرسائل ما يشير إلى هذا. ففي حياة فرويد لم يكن أحد ليجرؤ على التطرق إلى قضية خلافته. ومن هنا يبدو كل ما في الرسائل منطلقاً تحت عباءة "أستاذي الحبيب" و"عزيزتي ماري" وهذا ما يطبع النصوص كلها بطابع عائلي حميم نعرف أنه كان مهماً ولا سيما خلال سنوات فرويد الأخيرة، ويأتي اليوم ليلقي أضواء كاشفة على حياة فرويد وأفكاره من الداخل مضفياً قيمة إضافية على حياة تلك الأميرة التي ارتبطت حياتها بالحركة الفرويدية أكثر مما ارتبطت بانتمائها الإمبراطوري.