ملخص
تصاعد الاحتجاجات والاضطرابات في تركيا وإسرائيل يعكس صراعاً ضد الاستبداد، حيث يمارس كل من أردوغان ونتنياهو سياسات قمعية تهدد الديمقراطية مما يهدد استقرار الشرق الأوسط والديمقراطيات الهشة عالمياً.
ما يقدمه لنا عشرات آلاف المحتجين الذين تحدوا الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل والرصاص المطاطي والاعتقالات الجماعية بغية المشاركة في تظاهرات ليلية تنديداً بتوقيف رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو واعتقاله هو درس عملي يصور الكفاح من أجل صون الديمقراطية التي تتعرض لتهديد متصاعد في تركيا، وغيرها من الأماكن.
ونستقي هذا الدرس كذلك من إعلان ملايين من مناصري حزب الشعب الجمهوري ذي التوجهات العلمانية إجمالاً الذي ينتمي إليه رئيس البلدية خلال عطلة نهاية الأسبوع عن تأييدهم ترشيحه في الانتخابات الرئاسية بمواجهة رئيس البلاد الحالي رجب طيب أردوغان، وهي انتخابات يترقبونها بشغف.
إن ما هو على المحك في محاولة إلغاء الخصم السياسي الرئيس ليس فقط مستقبل أردوغان، الذي أصبح أكثر استبداداً بشكل مطرد خلال 22 عاماً هيمن فيها على السياسة التركية، أولاً كرئيس للوزراء ثم كرئيس، بل إن نتيجة الأزمة الحالية كفيلة بتحديد ما إذا كانت تركيا ستبقى ديمقراطية انتخابية حقيقية كما كانت منذ فترة طويلة، أو ستبدأ في محاكاة دول أخرى (مثل روسيا) حيث تجرى الانتخابات ولكنها ليست سوى مهزلة.
كانت مزاعم الفساد التي ألصقها نظام أردوغان بمنافسه الرئيس - ووصفها إمام أوغلو بأنها "اتهامات وافتراءات لا يمكن تصديقها" - لتصدق بعض الشيء لو لم تسبق عملية توقيف الرجل حملة قمع طويلة طاولت شخصيات المعارضة. وشملت هذه الحملة اعتقال ستة رؤساء بلديات آخرين منذ الانتخابات البلدية التي جرت العام الماضي، وألحقت أسوأ هزيمة بحزب العدالة والتنمية الحاكم وزعيمه أردوغان على خلفية ارتفاع التضخم ومعدلات الفائدة إضافة إلى ما تشهده البلاد من تقويض لحقوق الإنسان برأي عدد كبير من منافسيه. وقد أعلن عن ترشيح إمام أوغلو للانتخابات الرئاسية على رغم اعتقاله قبل ذلك بأيام.
وبرز عزم أردوغان على ضرب المعارضة بيد من حديد ولا سيما من خلال قرار حكومته تمديد الحظر على الاحتجاجات، إذ أعلن وزير الداخلية التركي اعتقال 1133 متظاهراً منذ احتجاز أمام أوغلو الأسبوع الماضي، واتخاذ إجراءات قاسية في حق وسائل الإعلام، أفضت حتى الساعة إلى اعتقال 10 صحافيين لمجرد قيامهم بتغطية هذه التظاهرات.
وفيما يجهد أردوغان لقمع الغليان الداخلي، ربما يستمد بعض القوة من نجاح بلاده النسبي في الخارج. فقد تمتعت هيئة تحرير الشام، الجماعة الإسلاموية التي أطاحت بشار الأسد في سوريا بدعم كبير من تركيا. ومن جانب آخر، قد يكتسب وجود تركيا كحليف في "ناتو" أهمية متزايدة بالنسبة إلى أوروبا في ظل انحسار الدعم الأميركي لأوكرانيا (مع أن ذلك لم يمنع المستشار الألماني أولاف شولتز من إدانة اعتقال إمام أوغلو واعتباره "مؤشراً سيئاً جداً بالنسبة إلى الديمقراطية في تركيا وبالنسبة إلى علاقاتها المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي).
لكن الأهم من ذلك أنه ربما يستمد هذه الجسارة من موقف دونالد ترمب المتراخي تجاه الزعماء ذوي الميول الاستبدادية. ففي مقابلته التي تطرقت إلى شتى المواضيع مع "فوكس نيوز" الثلاثاء الماضي، لم يكتف مبعوث ترمب الخاص ستيف ويتكوف بالكلام عن بوتين بنبرة فيها دفء مفاجئ، بل أفاد أن الرئيس الأميركي أجرى محادثة "رائعة" و"تنذر بتغيير" مع أردوغان الأحد السابق، وتوقع "سماع أخبار إيجابية كثيرة" جراء المحادثة.
ونجد هنا تشابهاً مفاجئاً مع جهة أخرى تعتبر عادة الديمقراطية الوحيدة الأخرى الفعالة في الشرق الأوسط: إسرائيل. فقد طغت أنباء الاضطرابات في تركيا على أنباء التظاهرات التي خرجت ضد رئيس وزراء إسرائيلي يستمد هو الآخر جسارته من ترمب. فقد احتشد عشرات آلاف المتظاهرين في جميع أرجاء البلاد مساء الأحد الماضي. كما تعالت هتافات "ديمقراطية" مرة أخرى الإثنين الماضي في القدس، تنديداً بإقالة نتنياهو الموظفين الحكوميين المستقلين ورفضه إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين في غزة عبر إنهاء حرب استمرت 17 شهراً.
صحيح أن الإسرائيليين الذين أرهقتهم الحرب وزيادة عنف الشرطة في تعاملها مع التظاهرات، ونجاح نتنياهو التام في تشديد سطوته على النظام السياسي الإسرائيلي، لا ينزلون إلى الشارع بأعداد كبيرة اليوم مقارنة مع حجم مشاركتهم الضخم في تظاهرات عام 2023، في بداية انطلاق خطته الرامية إلى تقييد المحكمة العليا، الجهاز الوحيد الذي يملك صلاحية ضبط السلطة التنفيذية وموازنة عملها. لكن الاندفاع الذي أظهره المشاركون في الاحتجاجات يشير إلى أن دواعي احتجاجهم اليوم أصبحت أكثر إلحاحاً من ذي قبل.
لا شك في أن حالتي نتنياهو وأردوغان تختلفان. فنتنياهو لم يسجن قادة المعارضة، لكن رغبته الشديدة في التمسك بالسلطة بأي ثمن، تماماً كنظيره التركي، جعلته يتخذ خطوات أخرى ينظر إليها إجمالاً داخل إسرائيل على أنها قد تؤدي إلى تقويض - أو حتى "تدمير" - نظام البلاد الديمقراطي.
ويعد هذا الأسبوع مهماً جداً في هذا الإطار، إذ بعد الغضب العارم الذي أحدثه في الساحة السياسية عبر قراره طرد رئيس جهاز الاستخبارات "الشاباك"، صوتت حكومته المنبطحة الأحد الماضي لمصلحة طرد غالي بهراف ميارا، المستشارة القضائية للحكومة والعضو الوحيد الشجاع في حكومته التي اعترضت (من بين أمور أخرى) على قانونية خطوة طرده.
إذ كان نتنياهو، الذي استبقى إلى جانبه أكثر شريكين عنصريين ومتشددين في ائتلافه الحكومي هما إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش لمجرد استئنافه حرباً مدمرة على غزة أودت بحياة أكثر من 50 ألف فلسطيني حتى الساعة، في تحد لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم من طريق التفاوض ورغبة الغالبية في إسرائيل، يأمل في تمرير موازنته المهمة من خلال الكنيست الثلاثاء القادم. وقد يمهد نجاحه في هذه المهمة في البدء بسن تشريعات - على الأرجح بدءاً من الخميس المقبل حتى - تطلق مسار تقييد سلطات المحكمة العليا واستقلاليتها وتسييس النظام القضائي.
وفي معرض حديثنا عن الديمقراطية، تجدر الإشارة إلى نجاح نتنياهو في صد مناشدات جو بايدن للموافقة على ضرورة أن تفضي حرب غزة إلى فتح مسار قيام دولة فلسطينية، إذ إن زعم إسرائيل بأنها ديمقراطية حقيقية في وقت يحرم فيه 5 ملايين فلسطيني يعيشون تحت سيطرتها التامة منذ 58 عاماً من حقوق نعتبرها نحن - كما الإسرائيليون - من المسلمات، أمر مطروح للنقاش. لكن في أي حال، ما عاد هذا الضغط يمارس عليها أساساً بوجود ترمب في البيت الأبيض.
صحيح أن تركيا وإسرائيل مختلفتان أيما اختلاف، لكن في الوقت الراهن، تخوض شرائح واسعة من الرأي العام وحدها في المكانين معركة للحيلولة دون الانزلاق نحو حكم الاستبداد المطعم بالانتخابات. وإن فشلت هذه المساعي، ستكون العواقب وخيمة عليها وعلى الشرق الأوسط وعلى الأنظمة الديمقراطية الهشة في كل مكان.
© The Independent