وسط الأزمة الداخلية التي تعيشها إيران جراء الحراك الشعبي المتصاعد بعد مقتل الفتاة مهسا أميني، لا تزال قيادة النظام وأجهزته الأمنية تعيش حالاً من الإنكار لما حدث، ورفض الاعتراف بوجود تحول جدي في المجتمع الإيراني انكسرت فيه كل جدران الخوف والرهبة التي شكلت السلاح والأداة التي استخدمتها للسيطرة وقمع أي خروج على سلطتها، ما دفع هذه القيادة للبحث عن عدو خارجي تحمله المسؤولية عن هذا الحراك، وتركيب خيوط مؤامرة تريد أو تهدف إلى إسقاط النظام والقضاء عليه. وفي الوقت نفسه، تبحث بشكل حثيث عن مخارج وحلول لأزماتها الاقتصادية والمالية التي تساعدها على تهدئة الشارع وتبعدها عن دائرة الخطر الذي يتهددها.
وهي تدرك جيداً أن الطريق لمثل هذه الحلول يبدأ من واشنطن التي تحملها مسؤولية ما يحصل من أحداث في إيران، والتوصل معها إلى تفاهم لإحياء الاتفاق النووي أو أي اتفاق بديل دائم أو مؤقت يشكل خشبة الخلاص والتحرر من العقوبات التي ترزح تحتها، ويخرجها من دائرة الخطر والتهديد الذي تواجهه من الداخل.
لم تتأخر الأجهزة الأمنية في وزارة الاستخبارات وجهاز استخبارات حرس الثورة في تقديم الحيثيات التي سمحت للمرشد الأعلى ببناء سرديته عن الأحداث التي تشهدها إيران، عندما وجهت الاتهام في البيان المشترك الذي أصدرتاه قبل أسبوع إلى الإدارة الأميركية بتمويل الحراك وتدريب قياداته وتحديد الأهداف وآليات تحريك الشارع وكيفية التعامل مع العناصر الأمنية، واستخدام جميع الوسائل والممارسات لإسقاط هيبة السلطة والنظام وتحطيم صورة قياداته، سواء عبر عملاء يعملون مباشرة في المدن أو عبر وسائل الإعلام "العميلة" والممولة من الاستخبارات المركزية الأميركية.
المرشد الأعلى وفي اللقاء الذي تم ترتيبه مع مجموعة من شباب الجيل الجديد بمناسبة الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) وذكرى احتلال السفارة الأميركية، حاول قدر الإمكان الابتعاد عن مقاربة الأحداث الأخيرة بشكل مباشر، ولم يتطرق إليها من قريب أو بعيد على الرغم من أنها كانت حاضرة في خلفية كلامه وموافقه والهجوم الذي شنه على الإدارات الأميركية منذ عام 1952 ودورها في إفشال تجربة محمد مصدق "أميركي الهوى"، مروراً بقانون الحصانة القضائية في عهد الشاه محمد رضا بهلوي عام 1963، ودعم محاولات الانقلاب على الثورة في بدايتها، وصولاً إلى دعم الحركة الخضراء عام 2009.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التصويب والتركيز على اتهام واشنطن بالوقوف وراء ما يحدث في إيران منذ ستة أسابيع قد يصب في إطار التخادم غير المباشر بين الطرفين، وإلا فما معنى أن يخرج الرئيس الأميركي جو بايدن على هامش قمة دول مجموعة السبع (G7) التي استضافتها ألمانيا في الثالث من نوفمبر ويتحدث عن تحرير إيران من النظام الذي يحكمها، وهو الموقف الأكثر علانية ووضوحاً لمسؤول أميركي حول الأحداث الإيرانية الأخيرة، بحيث لم تتردد السلطة الإيرانية في تلقفه وتحويله إلى أداة تسوغ لها ممارسة جميع الأفعال التي تساعدها على قمع التظاهرات والتصدي بعنف للمحتجين، كما ينهض أيضاً دليل دعم لموقف المرشد الأعلى والأجهزة الأمنية بوجود مؤامرة تقودها واشنطن وحلفاؤها والمتعاملون معها في الداخل لقلب النظام والقضاء عليه، واعتبار ما تشهده إيران ليس سوى استكمال للمخطط الأميركي واستمرار للحرب الاقتصادية التي تقودها ضد النظام والإيرانيين من خلال العقوبات المالية والتجارية والاقتصادية والنفطية.
وعلى الرغم من هذا التراشق في التهم بين طهران وواشنطن، والموزع بين السعي إلى إطاحة النظام وممارسة انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان، يبدو أن مساراً مختلفاً ما زال قائماً ومفتوحاً بين الطرفين ويتمتع بكثير من الحرارة والمتابعة. وقد ظهر جلياً من خلال تصريحات المسؤولين الأميركيين والإيرانيين عن ملف المفاوضات لإعادة إحياء الاتفاق النووي، المبعوث الخاص الأميركي روبرت مالي ووزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، إذ يظهر واضحاً أن التهديد والتصعيد الذي برز في مواقف مالي الأخيرة لم يكن الهدف منه قطع ما تبقى من جسور تواصل وحوار– عبر المنسق الأوروبي- بل الهدف هو توجيه رسالة تؤكد أن واشنطن ما زالت بانتظار التجاوب الإيراني مع السقف الأميركي الذي تم التوصل إلى تفاهم حوله في آخر جولات الحوار الثنائي غير المباشر، وعدم طرح مسائل جديدة قد تؤثر سلباً على هذا المسار بعد استئناف الحوار، ما يفرض على طهران الأخذ بدقة موقف الإدارة الأميركية في المرحلة المقبلة، بخاصة إذا أسفرت نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس عن خسارة الديمقراطيين الأغلبية في المجلس. وطهران وقيادة النظام فيها لم تنظر إلى كلام مالي عن "خيارات أميركية موضوعة على طاولة القرار"، بما فيها العمل العسكري، نظرة جدية في ظل ما تعتقد من خوضها حرباً مع واشنطن بأدوات مختلفة عبر عنها المرشد بأنها "مركبة" من الاقتصادية والثقافية والمالية والسياسية والأمنية.
في المقابل، يبدو النظام الإيراني بحاجة ملحة لتحقيق خرق في المفاوضات النووية وما تعنيه من رفع العقوبات الاقتصادية واستعادة الأموال المجمدة في الخارج، وحتى في تنشيط التجارة والاستيراد من الخارج من أجل إعادة تنشيط الأسواق الداخلية التي باتت تفتقد كثيراً من المواد الأساسية المترافقة مع ارتفاع في أسعار المواد الأساسية والمعيشية التي تمس حياة المواطن الإيراني اليومية، بحيث تشكل عاملاً مساعداً للنظام في التخفيف من حدة الحراك الشعبي والحد من اتساع دائرة الاحتجاجات اليومية.
من هنا يمكن فهم الخطوة الإيرانية بإرسال وفد من خبراء منظمة الطاقة الذرية إلى مقر الوكالة الدولية للتفاوض مع مديرها العام رافايل غروسي حول الآلية الإيرانية المقترحة للرد على أسئلة الوكالة المتلعقة بمصادر آثار اليورانيوم مرتفع التخصيب التي عثر عليها في ثلاثة مواقع غير معلن عنها. وهذه الآلية تتضمن تقديم طهران "نصف إجابات" تسمح وتساعد الوكالة على إفقال الملف في مجلس حكام الوكالة مع ضمانات باستكمالها على مراحل بعد إحياء الاتفاق، بالتالي تخرج المفاوضات من دائرة التعليق وتفتح الطريق أمام استئنافها عندما تكون واشنطن على استعداد لذلك. وهي خطوة ما كان النظام الإيراني ليلجأ إليها لو لم يكن يواجه أزمة حقيقية في الداخل نتيجة التهديد الجدي الذي يشكله الحراك الشعبي وإمكانية اتساعه وتحوله إلى تحد وجودي بعد فشل كل محاولات التهديد والترغيب في تهدئته والسيطرة عليه.