تعاطى بعض السوريين خلال زمن الحرب وما زالوا مع ما سماه باحثو دراسة أجرتها جامعة ميشيغان الأميركية "حبوب الطبيعة".
وكشفت الدراسة التي نشرت في دورية "فرونتيرس" العلمية عن أن "المشي في الغابات والمناطق الخضراء أو الطبيعة له مفعول سحري على التوتر والإجهاد وأنه لمدة 20 دقيقة فقط قد يقلل من نسبة هرمون الكورتيزول (هرمون الإجهاد) بصورة واضحة".
بعد الصدمة... إلى المسير در
بعد صدمة الحرب التي نالت من البشر والحجر توجه بعضهم في سوريا بوعي أو لا وعي منهم للانضمام إلى نشاطات كان لها أثر مهدئ ومخفف لوطأة الحرب وآثارها النفسية، إذ عادت الجمعيات والفرق المشائية وتلك الخاصة بالسياحة الداخلية واستكشاف الطبيعة للظهور بشكل واضح ولافت، إضافة إلى إنشاء وترخيص جمعيات وفرق كثيرة تعنى بهذه النشاطات ولاقى معظمها إقبالاً واسعاً وكثيفاً، فمن محاولات الترفيه والترويح عن النفس إلى استكشاف مناطق ما كان يخطر في بال أحدهم زيارتها من قبل.
في سوريا لا تستطيع أن تتحدث عن نشاط المسير والتخييم إن لم تذكر الأب الهولندي فرانس فاندرلخت الذي كان مقيماً في دير الآباء اليسوعيين في مدينة حمص منذ أواخر القرن الماضي وقتل عام 2014 داخل الدير على يد تنظيم "داعش".
وأنشأ هذا الراهب أوائل الفرق المشائية في البلاد وكان هدفه جمع الشعب من كل أطيافه وفئاته للتعرف إلى سوريا وطبيعتها وقراها النائية ولم يخل المسير الذي أصبح تابعاً للاتحاد الرياضي من المحاضرات والمناقشات الروحية والاجتماعية التي قادها الأب فرانس الذي كان يحتل الخط الأول من المسير على رغم تقدمه في السن.
فائدة المسير
وبعد وفاته تابع من كانوا معه هذا النشاط تكريماً لذكراه من جهة ولمساعدة الآخرين في تخطي الحرب لمعرفتهم بما يستطيع هذا النشاط تحقيقه على الصعيدين الاجتماعي والإنساني مع الطبيعة بشكل خاص.
تقول رانيا، إحدى المشاركات، "كنت أذهب قبل الحرب إلى المسير والتخييم باعتباره نشاطاً رياضياً وترفيهياً، لكن بعد الحرب اختلفت نظرتي إليه وعرفت قيمته أكثر، فاستطعت على رغم قصر المدة ثلاثة أيام في الشهر ملاحظة أن وجودي في هذا النشاط يحفزني على العودة لعملي وحياتي الطبيعية بشكل يعطيني القدرة على التعامل مع التحديات والضغوط".
ويشاركها هذا الشعور عمار علوش أحد مسؤولي فريق "سوريا إلى الأمام" الذي قال إن المسير كان يعتبر حال تنفيس عميقة بالنسبة إلى المشتركين، مضيفاً "عندما كنت أسأل عدداً من الشباب في نهاية المسير هل ستكونون معنا في المرة المقبلة، فيجيبونني بالتأكيد"، ويرجع السبب إلى أن "الشخص في هذا النشاط يكون على طبيعته ولا يفكر في أي مشكلة تعترض حياته"، بالتالي فهو يعد نوعاً من الاسترخاء الذي دعا إليه عدد من علماء النفس لمعالجة المشكلات والضغوط.
الطبيعة بيت الدواء
يوضح معالجون بتقنيات العلاج السلوكي أن ذروة الأداء تتحقق بالمشاركة بين الذهن والجسم والاسترخاء يساعد على الانتقال من حال المشكلات الملحة إلى الاستبصار وتحديد الأولويات، فالعقل المنشغل، وهو الذي يدير المشكلة مرات عدة ومن زوايا عدة، وتبدو له مستعصية عن الحل، لذلك فإن كثيراً من أمثلة التفكير الإبداعي تحدث عندما يكون الأشخاص مسترخين بدنياً، فقد كان آينشتاين مسترخياً على كومة من العشب عندما تخيل أنه يقوم برحلة فضائية، وعليه فالاسترخاء ظرف مناسب للإبداع.
يرى مدير البرامج بالجمعية الوطنية لإنماء السياحة في سوريا إيهاب ريحان أن "الراحة النفسية تندرج في مجال الصحة العقلية عبر مجالين، الأول أن المسير والتخييم نشاط رياضي يدفع الإنسان إلى تطوير قوته الجسدية، بالتالي يفتح المجال للشباب بتعلم تقنيات جديدة للتأقلم والتحدي الذاتي، والأخير هو أن المسير والتخييم يستهدفان أماكن جغرافية جميلة وهواءها نقي، فيتناغم الإنسان مع هذه البيئة عبر السباحة بالأنهار أو تسلق الجبال، وهذا كله يندرج في خانة تفريغ الضغوط".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استكشاف سوريا
من مميزات الفرق والجمعيات أنها استطاعت أن تعرف مشتركيها إلى مناطق جديدة في سوريا، خصوصاً تلك الموجودة في أماكن يصعب الوصول إليها إن كان من الناحية الجغرافية كالجبال، أو من الناحية الأمنية كالمناطق التي اعتبرت ساخنة خلال الحرب، فقد وصل فريق الجمعية السياحية إلى حدود إدلب وحماة واستطاع المشاركون رؤية العمليات العسكرية مباشرة، وعن تجربة مناطق ساخنة أخرى قال ريحان "كنا في جولة على بعد أربعة كيلومترات من المسلحين في جبال اللاذقية، تحديداً في قرية سكري، حيث كانت المعارك آنذاك على أشدها".
أما بقية الفرق، فتقصد الأماكن الطبيعية والنائية في سوريا وتسمح للمشاركين بالتعرف إلى أماكن جديدة والحصول على معلومات عنها كانت لزمن قريب مجهولة، وعن هذا تقول شذا، إحدى المشاركات في هذه النشاط، "لقد رأيت وعرفت أن في بلادي أكبر محمية للأرز وذلك في منطقة القدموس بمحافظة طرطوس، كما زرت منطقة المستشفى الذي بناه الفرنسيون للأمراض التنفسية أثناء احتلالهم للبلاد باعتبار أن هذه النقطة في القدموس تتميز بأنقى هواء، وفعلياً شعرت بأن رئتاي انتعشتا بهذا الهواء".
إضافة إلى ذلك استكشف المشاركون أماكن تاريخية وجغرافية سهلة ووعرة، أسهمت في زيادة الروابط في ما بينهم ووثقت العلاقات.
تقبل الآخر والمساعدة
يقول ريحان " في إحدى جولات المسير أردنا تسلق جرف صخري وفي إحدى نقاطه كان قاسياً ومرعباً وكانت معنا آنذاك مشتركة تعاني مشكلات جسدية خلقية، فتملكها الخوف بشكل كبير ولكن بتشجيع الجميع ومساعدتها من خلال إقامة سور بشري على حافة الجرف استطاعت التسلق وظلت تقول بعدها إنها أهم تجربة في حياتها".
أجمع المشتركون والمسؤولون في هذه الفرق على أنه كان لهذا النشاط وما زال أثر واضح في تقبل الآخر، تقول رانيا، "كانت لدي صعوبة سابقاً في تقبل الآخرين وحتى الخوف منهم، لكني اليوم أشعر بأني حرة بالوجود معهم كيفما كانوا وكيفما كنت أنا".
وفي السياق ذاته تحدث عمار "في المسير والتخييم نلتقي أشخاصاً من بيئات وثقافات ومناطق مختلفة، وكنت سابقاً لا أتقبل أفكارهم وأشكالهم وطريقة حياتهم، خصوصاً أني كنت أحكم عليهم عن بعد ولكن بعد التقرب من أحدهم اكتشفت إنساناً مختلفاً كلياً أحترمه ونصبح أصدقاء".
وهذه من النقاط المهمة التي جعلت الشباب السوري في كثير من المفاصل يتعالى على الحرب ومفرزاتها التي كانت تؤدي في كثير من الأماكن إلى رفض الآخر بكل ما للكلمة من معنى هدام ويهدد المجتمع السوري بالتفسخ، فعبر الاختلاط خلال هذا النشاط كان الجميع يقدم المساعدة إلى الجميع، بالتالي خلق بينهم روابط إنسانية قوية.
الوضع الاقتصادي يفرض نفسه
من المعروف في بكل بلاد العالم أن نشاط المسير والتخييم يحتاج إلى أدوات خاصة تساعد المشترك على القيام بمهمته بمتعة وسلامة ولكن هذا لم يكن متوافراً في سوريا، فإما أن يقصد المشترك بلداً قريباً لشراء حاجاته أو أن يلجأ إلى المستعمل منها.
ولم يسلم هذا النشاط من تبعات الأزمات الاقتصادية، بحيث بدأ المسؤولون عن هذه الفرق والمشتركون بالشكوى من ارتفاع الكلف التي أصبحت مرهقة للطرفين.
يقول إيهاب "بالنسبة إلينا كمنظمين بات من الصعب تأمين مستلزمات النشاط كالحبال والخيم ولوجستيات أخرى، كما أن كثيراً من الأشخاص قدراتهم الاقتصادية محدودة، مما يولد لديهم الاستهجان من الأسعار، إضافة إلى الحزن لعدم تمكنهم من المشاركة".