لي صديق شاعر، في مجالسنا الليلية، يهيم به الشعر، ذات مرة أصابه الرعب مما يجري في البلاد، فكتب قصيدة رددها علينا في كل ليلة دهماء وما أكثرها. القصيدة لم تنشر، زد على ذلك أنني لست من الحفاظ، لكن أذكر المعنى وإن غاب المبنى: الرعب المخيم على البلاد بات فانتازيا سوداء، فالزعيم بعد أن منع كل شيء، بات في حيرة مما لم يمنعه. جاءه خاطر شيطاني يسعى، فقرر منع الأوكسجين السائب، وتحويله إلى حصص، فكر أن يوزعه برميلاً لكل مواطن، لكن هذا كثير، فكر: أنبوبة لكل مواطن، لكن هذا أيضاً كثير، ثم تحصحص الأمر عن زجاجة لكل مواطن. صديقي الشاعر الواقع في أسر قصيدته، فطن أن الفكاك من الأسر، يستدعي ضامناً، لهذا سعى أن يكفل الحصول على الزجاجة. غاب عنا زمناً، حتى جاءنا خبر أن الشاعر بات سكرتير رئيس أمن البلاد. تلك القصيدة الغائبة باتت حقيقة، فثمة زعيم مقتدر، خطر في باله أن يكون فاوست، الذي باع نفسه للشيطان، وأن يخلق فرانكشتاين الذي أطلقه يعبث بأوروبا، الذي قفل أنبوب أوكسجينها/الغاز، فصارت ترتعد في انتظار الجنرال الثلج، لسان حالها يردده "استراغون"، بطل مسرحية في انتظار غودو: لا مجال لفعل شيء.
أوروبا أمست فجأة، مرعوبة من انقطاع الغاز الروسي، والثمن الباهظ الذي فرضته شريكاتها وشريكات حليفها الأميركي، لبرميل الوقود الأحفوري. بدافع ذاك الرعب تراجعت عن دعواتها لإنقاذ الأرض، وعن اعتبارها للوقود الأحفوري مفسداً للمناخ. ونتج من التراجع أنها تكالبت لتخزين أكبر كمية متوافرة من البترول والغاز، وتعاركت على إحياء الطاقة النووية. وعلى رغم أن الغرب قد تحصن ضد الجنرال الثلج، لكن التباكي الغربي لم ينقطع، وبطريقة ما نسجوا قماشتهم على منوال ترمب الرئيس الأميركي السابق، الذين وقفوا ضده حين اعتبر أن مسألة المناخ مفتعلة، ولا هي مسألة من المسائل، التي قاد بها حزبه من المحافظين في الانتخابات النصفية، للسيطرة على الكونغرس كخطوة تمهيدية لكرسي الرئاسة.
لكن متى بدأت مشكلة الاحتباس الحراري؟ يوضح مجدي علام، أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب "أن أول تسجيل لظاهرة الاحتباس الحراري كان في عام 1850، ثم تزايدت حدة المشكلة مع الثورة الصناعية وحرق الوقود الأحفوري". ومع الثورة الصناعية في أوروبا، برز فلاسفة ضد العجل الذهبي لأوروبا/الآلة، والدين الجديد العلم، واعتبرت رؤيتهم تلك رومانطيقية، حيث لم يفهم مغزاها بحسب الفيلسوف الكندي تشارلز تايلر، لكن نتائج تلك الهيمنة استفحلت، حتى غدت مهمة التكنولوجيا السيطرة على الطبيعة، ومن ثم أصبح صبح العالم الاستهلاك، ما اعتبره هربرت ماركوز منتج "الإنسان ذو البعد الواحد"، من الرخاء معنى وجوده، في الغرب أولاً ثم من أثر هيمنته في العالم، وطريقته، وطريقه إليه الاستهلاك. وخلال القرن الماضي ومطلع الألفية، أجمع فلاسفة ومفكرون كثر في الغرب والشرق أيضاً، أن مسألة المسائل تدمير الطبيعة وإهدار الموارد.
موقفنا من ذلك وضحته الباحثة أودري بورسكي، في مقالها "فيلسوف نهاية العالم"، أي الفيلسوف الألماني أندر (1902-1992)، المنشور في مجلة الثقافة العالمية العدد 211: "في ضوء الأزمة البيئية، التي تحوم في الأفق وعبادتنا المتزايدة لمجتمع استهلاكي بلا روح، المبنية على الهدر والاستغلال، والطبيعة الوسيطة بشكل متزايد. يظل تحليل أندر صائباً بشكل لافت للنظر. فعلى رغم تمثيل وسائل الإعلام المتزايد لهذه التهديدات، إلا أننا نعيش في ما سماه أندر: عصر عدم القدرة على الخوف. فلا نزال سلبيين في مواجهة هذا التطور، حتى عندما نكون مدركين موضوعياً للأخطار المرتبطة بأزمة المناخ، وانهيار التنوع الحيوي وتناقص الموارد، نفضل الاستمرار في مجرد الكلام عنها، على المواجهة المباشرة لها. نحن نلجأ إلى التجاهل حتى في الاستهلاك المفرط المستهتر، ثم في مواجهة احتمال انقراضنا غير البعيد كثيراً. فهل كما يتحدانا أندر: نملك الحق في الجلوس إزاءها متكاسلين؟ هل الجاذبية المهلكة لمستقبلنا تفويض مطلق بالكسل؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا توجد حدود على الغلاف الجوي مثل الأرض، لكن على رغم عالمية الغلاف الجوي، فإن العلماء يملكون من الأدوات، ما يمكنهم من تتبع مصدر هذه الغازات، ومن مسبب الاحتباس الحراري. ومع انطلاق فعاليات "كوب 27"، المنعقد بشرم الشيخ في مصر، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن "البشرية أمامها خياران: التعاون أو الهلاك، إزاء الاحترار المناخي وتداعياته المتسارعة، وأن يختار العالم بين التضامن أو الانتحار الجماعي". وفي "كوب 27" وقبلها، كثيراً ما اختار الغرب ودوله المشاركة في الانبعاث الحراري، التضامن، لكن التضامن من أجل تغيير الهدر والاستغلال للطاقة الأحفورية والغاز، إلى هدر واستغلال نوعي آخر.
إذاً القادرون على الهدر والاستغلال يذهبون في غيهم يعمهون، حيث إن البلاء الذي بح فلاسفة ومفكرون في التحذير منه، ليس مهمة ضرورية وعاجلة، فالرخاء من لزوم ما يلزم وتابعه بالضرورة الاستهلاك، ولحماية المجتمع الاستهلاكي، لا بد من الاستهلاك في السلاح وأهمه النووي، ما جعل الفيلسوف أندر يرى أن: "ليس لدى أحد منا معرفة متناسبة، مع ما يمكن أن تكونه حرب نووية، ما يعني أن لا أحد في هذا المجال، يتمتع بالصلاحية، ولذلك فإن نهاية العالم، بين يدي غير المؤهلين".
الطبيعة الغاضبة هي ما صدعت رأس الغرب، وليس أطروحات العقل الناقد الغربي، الذي حدد أن الاحتباس الحراري، مبعثه المركزي الهدر والاستغلال للموارد ولطاقة الكرة الأرضية، هذا وجع الطبيعة وليس ثقب الأوزون فحسب، هكذا نحى الغرب وتوابعه إلى حصر وجع الأرض في الغلاف الجوي، لتنحية دورهم الأهم في استنفاد كل الموارد واستغلالها، فاستهلاكها المفرط المستهتر. وإن نجحنا في استبعاد الوقود الأحفوري، فكثير من منتجيه ليسوا مستهلكين له أساساً، ولهذا فإنه سلعة تقوم شركات الغرب باستكشافها وإنتاجها وبيعها، وحصر مرض الأرض في هذه السلعة، كمن "يمشي على جسر لا يؤدي إلى أي مكان" بحسب عبارة آل غور الخبير البيئي ونائب الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وهكذا انفلتت الوسائل بعد أن أضحت الغايات غير محددة وغير يقينية، في عصر الحداثة السائلة كما وضح الفيلسوف باومان. وفي الأخير يبدو أن السوق على حال: زجاجة أوكسجين لكل مواطن، وليس القصيدة الكابوسية لصديقي الشاعر، التي تنبأت بالحاصل على رغم "27 كوب/COP".