"لا توجد طوابع"... عبارة باتت تتصدر واجهات وكالات بيع الطوابع المالية والمكتبات في لبنان، إذ يحاول الباعة من خلالها اختصار الطريق على الزبائن، فيما تؤرق هذه المشكلة الجديدة المواطن الذي يجهد لإنجاز معاملاته اليومية.
ويعكس غياب الطوابع المالية عمق الأزمة التي تعيشها الإدارة العامة في لبنان وتأثير الانهيار المالي والاقتصادي، فمن جهة تبرز الأزمة عجز مؤسسات الدولة عن تأمين أبسط الخدمات المالية للمواطنين، ومن جهة أخرى فإنها تحرم الخزانة العامة من جزء كبير من مواردها، ناهيك عن عدم قدرة الأجهزة الرسمية على ضبط السوق السوداء المتنامية.
البحث عن طابع
تحول الطابع المالي إلى هاجس يؤرق المواطن في لبنان، فقد دخل عالم السوق السوداء على غرار مختلف السلع الأساسية التي يحتاج إليها المواطن بصورة يومية في حين بات "طابع الـ1000" عملة نادرة صعبة المنال.
تروي إحدى السيدات اللبنانيات رحلة المعاناة التي تكبدتها في معرض البحث عن طوابع لإتمام عقد إيجار سكني، فقد طلبت منها المحامية طوابع مالية بقيمة 280 ألف ليرة لبنانية وهو رقم هائل في المرحلة الحالية ويصعب العثور عليه في ظل الأزمة.
وتضيف السيدة "لم أتخيل أنه سيكون علي اللجوء إلى العلاقات العائلية والصداقات لتحصيل بعض الطوابع وكنت أطلب بين الفينة والأخرى من الأصدقاء تأمينها لي"، واصفة الأمر بـ"المهمة المضنية".
الحال نفسها تنطبق على طالبي "السجل العدلي" المشهور بـوثيقة "لا حكم عليه"، وطلاب الجامعة اللبنانية لإتمام إجراءات التسجيل وغيرها من المعاملات ذات الصبغة الرسمية، وتتكرر القصص على ألسنة المواطنين لتؤكد أن حقوق المكلفين والخزانة الرسمية مهددة لمصلحة تجار أحسنوا قواعد اللعبة وجني الأرباح الخاصة على حساب الخير العام في غياب رقابة الدولة.
الاحتكار سيد الموقف
غابت الطوابع المالية عن المتاجر الشرعية وحضرت كسائر السلع الأساسية في السوق السوداء وبلغ سعر الواحد منها "عشرين ضعف" سعره الرسمي، بحيث يحاول هؤلاء التجار مجاراة ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي في السوق الموازية. وحل الاحتكار مكان التعامل الحر والحق في الحصول على الخدمة التي تقع على كاهل السلطة العامة. وفطن تجار السوق السوداء إلى أهمية الطوابع فأخفوها عن الزبائن وجعلوها رهن طلب "الزبون المضطر للغاية".
وفي حين تغيب طوابع الـ1000 ليرة عن المنافذ، تتوافر بصورة أفضل طوابع من فئات الـ250 ليرة والـ10 آلاف ليرة، وعليه يضطر المكلف إلى تكييف معاملاته الرسمية وفق ما هو متوافر في السوق حالياً.
وتكاد الشكوى من انقطاع الطوابع تأخذ طابع العمومية وتتكرر على لسان كل مواطن لبناني، إذ تدخل في صلب طلباته اليومية كونها من أساسيات الشروط الشكلية لإتمام المعاملات الرسمية من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشكو رئيس "رابطة المخاتير" في طرابلس فتحي حمزة من اختفاء الطوابع لدى الوكالات المرخصة رسمياً من وزارة المالية، متسائلاً "كيف تختفي من المؤسسات الرسمية وتحضر في السوق السوداء؟"، ويضيف حمزة "خلال إجراء معاملة رسمية احتجنا إلى 20 طابعاً، قيمة الواحد منها وفق التسعيرة الرسمية 1000 ليرة لبنانية، فيما طلبت مني إحدى المكتبات التي تحتكر الطوابع 400 ألف ليرة لبنانية بدلاً من 20 ألفاً".
يتطرق حمزة إلى جذور المشكلة، قائلاً "بعد وقوع الخلاف بين وزارة المالية اللبنانية ووكيل الطباعة الأصلي للطوابع المالية، برز التوافق مع الجيش اللبناني من أجل طباعتها مباشرة من قبل المؤسسة العسكرية لمنع تجدد الأزمة، لكن مشكلة اختفاء الطوابع المالية لم تنته بل آخذة في التصاعد".
ويبدي حمزة دهشته متسائلاً "طوابع الـ250 ليرة متوافرة في حين تبقى طوابع الـ1000 ليرة هي المقطوعة. وما دامت هناك إمكانية لطباعة الأوراق منخفضة الكلفة، فما السبب في عدم تأمين الطوابع من الفئة الأساسية؟"، ويضيف "تقدمنا لجهاز أمن الدولة من أجل التحقيق في اتساع نطاق السوق السوداء للطوابع المالية التي تعتبر مورداً أكيداً للخزانة بعد أن تحولت في الحقيقة إلى مصدر ربح للمحتكرين وبعض الوكلاء بأضعاف مضاعفة".
صورة عن الانهيار
تعتبر أزمة الطوابع المالية جزءاً من مشهد عام ويجزم حمزة أن "المشكلة لا تقتصر على احتكار الطوابع، بل تتجاوزها إلى أزمة إخراج القيد بشكل عام"، لافتاً إلى أنه "لا توجد أوراق لمنح إخراجات قيد جديدة للمواطنين، بالتالي بات متعذراً منح وثائق التعريف الرسمية للبنانيين".
واجتمعت عناصر الأزمة بين فقدان الطوابع من جهة وأوراق إخراجات القيد من جهة أخرى، فأدت إلى تراجع كبير في قدرة الدوائر الرسمية على إنجاز المعاملات، ويعطي فتحي حمزة مثالاً على ذلك بالقول "في طرابلس يتم تقديم 3000 طلب لإنجاز وثائق القيد، فيما لا تتوافر الإمكانية لأكثر من 1000 وثيقة رسمية صادرة عن دائرة النفوس يومياً، مما يشي بتراجع القدرة على إتمام المعاملات بمعدل الثلثين".
ويضع حمزة المشكلة في إطار عام، إذ إن دائرة الانهيار اتسعت ولم تعد هناك إمكانية لاستمرار مؤسسات الدولة اللبنانية في إنجاز الحد الأدنى من المهمات لأنه "في الدوائر الرسمية لا تتوافر الأوراق والحبر أو حتى خدمات التصوير، والموظفون غير قادرين على الوصول إلى دوائرهم، فيما تتراجع هيبة الدولة ويسود الاحتكار في سوق الخدمات".