كشفت الاحداث التي تشهدها إيران حجم الضعف الذي تعيشه وتعانيه السلطة التنفيذية، وتحديداً رئيسها إبراهيم رئيسي الذي وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه ولا يتنماه له أي عدو، عندما اصطف بوجهه أصدقاء الأمس في جبهة باتت ترى فيه جزءاً من الأزمة، ليس فقط في بعدها القائم والحالي وما فيها من تظاهرات واحتجاجات، بل في تعقيد المشهد الذي يسعون إلى رسمه وترسيمه بما يتناسب مع طموحاتهم ومشروعهم للإمساك بالسلطة ومفاصل القرار في النظام، وصولاً إلى امتلاك الكلمة الفصل في تحديد المرشد المقبل وخليفة المرشد الأعلى.
عملية تسقيط
يمكن القول إن رئيسي يتعرض لعملية تسقيط حثيثة من داخل التيار الذي أوصله ودفع به إلى سدة رئاسة الجمهورية وقيادة السلطة التنفيذية من خلال تحميله مسؤولية الفشل في وضع علاجات عملية للأزمات التي تعانيها إيران، سواء على الصعيد الاقتصادي أو المالي أو المعيشي، وأن الشعارات التي رفعها كبرنامج لحكومته لم تتحول إلى خطوات عملية وملموسة، ولم يستطع الوفاء بأي من الوعود التي قدمها في طريقه إلى الرئاسة والتي كان من المفترض أن تضع التيار المحافظ ومنظومة السلطة الحاكمة في موقع المنقذ للمجتمع الإيراني من الأزمات التي يعانيها، وأن يقدم نموذجاً في الإدارة والسياسية يعيد ترميم صورة هذه القوى اجتماعياً ويعيد تقديمها على أنها الخيار الأمثل لقيادة إيران وإحداث التنمية المطلوبة، بعد فشل الخيارات الشعبية التي جاءت بالرئيس السابق حسن روحاني إلى قيادة الحكومة بكل مستوياتها.
وعود رئيسي التي انسجم فيها مع الجناح المتشدد الذي تمثله جماعة "الثابتون – پایداری ها" في أزمة المفاوضات النووية ومساعي إعادة إحياء اتفاق عام 2015 مع السداسية الدولية، أصابت المعنيين بالإحباط منذ البداية مع اختيار أحد مساعديه في السلطة القضائية عندما كان رئيساً لها، علي باقري كني، وتكليفه مهمة المفاوضات التي وضعها بدوره في إطار "التفاوض من أجل إلغاء العقوبات الاقتصادية" نتيجة الصعوبة التي يعانيها مع جناحه السياسي في الاعتراف بالاتفاق أو إمكان العودة له كنتيجة للمسار التفاوضي الذي بدأ تحت رعاية وتوجيهات المرشد الأعلى، والتي بذل كل سعيه لعدم ترجمتها على رغم أن المرشد أعطى الضوء الأخضر للتفاوض وإعادة إحياء الاتفاق بما يضمن المصالح الإيرانية.
تكذيب المواقف
ولعل المؤشر الأبرز على تخبط رئيسي وحكومته وغيابها، أو بتعبير أدق تغييبها عن القرارات الاستراتيجية وما يمكن أن تتركه من أثر في موقع إيران داخل منظومة المجتمع الدولي والعلاقة معه، هو التخبط الذي عاشه حسين أمير عبداللهيان وزير خارجية رئيسي في التعامل مع أزمة الطائرات المسيرة التي تستخدمها روسيا في حربها على أوكرانيا، فبعد نفيه أية علاقة أو حصول عملية بيع هذه الطائرات إلى روسيا، عاد واكتشف أن الجهات المسؤولة عن هذه النوع من السلاح قد قامت، بعيداً من أي تنسيق مع المؤسسة السياسية والسلطة التنفيذية، بتزويد موسكو بكميات من هذه الطائرات، مما اضطره إلى التراجع وتكذيب تصريحاته السابقة ليقول إن إيران زودت روسيا بهذا السلاح قبل بدء الحرب على أوكرانيا وبكميات محدودة، وقد يضطر لاحقاً إلى تكذيب مواقفه خلال المرحلة المقبلة في شأن ما تسرب من معلومات حول تزويد بلاده للجانب الروسي بصواريخ باليستية على الأقل من نوع "فاتح" و"قادر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سلسلة تنازلات
وعلى رغم كل التنازلات التي قدمها رئيسي لأقطاب وأجنحة التيار المحافظ على حساب موقع ودوره وسلطته على رأس السلطة التنفيذية، إلا أن هذا الأداء تحول ورقة في يد معارضيه داخل جماعته السياسية.
وإلى جانب تحميله مسؤولية الفشل الاقتصادي نتيجة اختياراته غير الموفقة للفريق الذي يدير الأزمة، والذي جاء به نتيجة صفقات سبق ولحقت الانتخابات الرئاسية ومن باب ترضية بعض المرشحين والفرقاء، دفعت الجناح المتشدد (الثابتون) أكثر من مرة إلى التلويح بإمكان استجوابه في البرلمان لإجباره على تقديم مزيد من التنازلات، وظهر ذلك من خلال تصويب هذه الجماعة على أداء معاونه الاقتصادي محسن رضائي ونائبه الأول محمد مخبر ووزير النقل والإسكان رستم قاسمي، واتهامهم بالفشل والكذب والفساد مما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والسير على حافة الانهيار والعجز عن تقديم حلول عملية خارج دائرة الشعارات.
انفصال عن الواقع
رئيسي الذي يصر على شعار معالجة الأزمة الاقتصادية وأزمة العقوبات المرتبطة بالمفاوضات النووية يبدو أنه يعيش بعيداً من الواقع والحقائق، بخاصة في الجهد الذي يبذله للانسجام مع رؤية المرشد التي دعا فيها إلى بناء اقتصاد خارج العقوبات، مما فاقم أزمته ودفع أطرافاً عدة في الداخل إلى فتح باب الجدل في الكواليس حول إمكان طرح الثقة فيه أمام البرلمان، وإمكان الذهاب إلى انتخابات رئاسية باكرة.
وعلى رغم صعوبة تنفيذ هذا المشروع لما يشكله من تحد مباشر للمرشد الذي من الطبيعي أن يتصدى له ويرفضه، ليس دفاعاً عن رئيسي وإنما دفاعاً عن خياراته على غرار ما حصل إبان رئاسة الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، إلا أن الحديث عن طرح الثقة يشكل ضربة قاسية لأحلام رئيسي، لأنها تضع قدراته الإدارية والسياسية في دائرة التشكيك والتساؤل.
الحقيقة التي قد يخرج بها رئيسي نتيجة ما يتعرض له من انتقادات داخلية محافظة، أنه قد يكون الخاسر الأكبر في السباق المفتوح على منصب المرشد الأعلى وخلافة الولي الفقيه في المستقبل، وأن كل الجهود التي يبذلها للتوازن والإمساك بزمام الأمور لم تنجح في إبعاده من دائرة الخطر، ولعل الأزمة الأخيرة التي تشهدها إيران والحراك الشعبي والاحتجاجات المعترضة في كل أنحاء البلاد قد عززت مفهوم هذه الخسارة لدى رئيسي بعدما تركته كل الأجهزة والمؤسسات العسكرية وحيداً في مواجهة الشارع ومحاولات السيطرة عليه، وذلك عندما عهدت إلى الشرطة ووزارة الأمن كمؤسسات تخضع للسلطة التنفيذية بمهمة التصدي للمتظاهرين وقمعهم.
وإذا ما ساعدت هذه المعطيات في اعتبار رئيسي خاسراً في السباق على الخلافة، فإن هذه الشروط والأوضاع قد تجعل منه الرابح أيضاً لإمكان حصول صفقة بين المؤسسة العسكرية المتربصة بالأوضاع ورئيسي، أي أن عامل الضعف الذي يضعه خارج السباق قد يجعل منه عامل قوة في تعزيز هذه الحظوظ، فالمؤسسة العسكرية المتريثة حتى الآن في الدخول على خط قمع الحراك الشعبي وتعمل على إخضاع محافظات الأطراف ذات القوميات المختلفة، قد تبادر في اللحظة المفصلية وعندما تتكون لديها قناعة بأن هذا الحراك قد يتحول إلى ثورة أو انقلاب يطيح بالنظام إلى التدخل والسيطرة، وبالتالي ستكون بحاجة إلى شخصية لا تطمح إلى الشراكة معها في القرار لتكون على رأس هرم السلطة، كغطاء لها ولسلطتها يضمن لها تمرير مصالحها وسياساتها.