لنتخيل بداية عملاً فنياً يحمل بضعة أسماء براقة آتية من التاريخ الأكثر مجداً للثقافة في القرن العشرين وما قبله، في حلقة تدور من حول آخر كتاب الأوبرا الكبار في الأزمنة الحديثة، الروسي إيغور سترافنسكي. أسماء تبدأ بالرسام الإنجليزي الساخر هوغارث ولا تنتهي بالشاعر أودن وديفيد هوكني والمخرج المسرحي والسينمائي إنغمار برغمان وكبيرة مغنيات القرن العشرين إليزابيث شوارتزكوبف ناهيك بآندي وارهول وغيره. وكانت الأوبرا بالإنجليزية على غير عادة الموسيقي الروسي، وتحمل عنواناً يتسم بشيء من الغموض ويفتقر إلى الجاذبية.
أوبرا أميركية خالصة مع أن جذور حكايتها إنجليزية، لكنها قدمت للمرة الأولى في البندقية بإيطاليا ليتأخر تقديمها الأميركي ما لا يقل عن عامين يسبقه تقديم فرنسي في "الأوبرا كوميك" لا يحقق أي نجاح يذكر لينتهي الأمر بالعمل كله في مهب النسيان غير قادر على أن يحقق لملحنه أي مجد إضافي يراكم نجاحاته الكبرى السابقة وحتى اللاحقة. فالأوبرا قدمت للمرة الأولى في عام 1951 وكان لا يزال أمام سترافنسكي عشرون عاماً أخرى يعيشها ويبدع خلالها، بل يمضي وقتاً طويلاً يدافع فيه عن تلك الأوبرا السيئة الحظ. والتي لعل عنوانها كان أسوأ ما فيها، كان العنوان "تقدم ريك" فهل سمع أحد به؟ ربما عرضته مدن عديدة في الأعوام التالية لعروضه الأولى بما فيها ستوكهولم، لكنه غاب في النسيان بعد ذلك صاغراً أمام نتاجات سترافنسكي الكبيرة من "عصفور النار" إلى "تطويب الربيع" و"حكاية جندي" و"بتروشكا" و"أعراس" وغيرها من أعمال تمكنت خلال النصف الأول من القرن العشرين من إعادة خلق الأوبرا الكلاسيكية بلغة معاصرة.
نسيان جائر
ومع ذلك لا بد من القول إن "تقدم ريك" لم تستحق مثل ذلك المصير. كل ما في الأمر أن موضوعها لم ينل شعبية تكفي لتحقيق نجاح تستحقه. ولسوف يقر سترافنسكي بذلك فهو الذي كان يحب أن يحكي دائماً عن عدوى الحماس الذي نقله إليه الشاعر أودن يوم خطرت في بال هذا الأخير تلك الفكرة الجريئة وهما يشاهدان في نيويورك معاً في خريف عام 1947، معرضاً ضم ثماني لوحات للرسام هوغارت بنفس العنوان الذي ستحمله الأوبرا لاحقاً. لقد افتتن أودن بالمعرض الساخر إلى درجة أنه أمضى مع صديقه الموسيقي كل تلك العشية يحدثه عن أبعاد ذلك العرض وانبهاره باللوحات والحكاية الكامنة خلفها، واستعداده لكتابة نص يمكن لسترافنسكي أن يموسقه في استلهام من أحدث أساليب موسيقى الجاز وما كان سائداً في نيويورك تلك الحقبة من تجديدات في فن الأوبرا.
"اقتنعت في نهاية الأمر"، سيروي سترافنسكي لاحقاً، و"بدأت العمل على المشروع منذ اليوم التالي". وهكذا ولدت تلك الأوبرا التي تحكي حكاية توم روكويل الذي وجد نفسه يتخلى عن حبيبته آن وولروف في الحاضرة الأميركية ليتبع هواه وبداوته وشغفه بالفن وملذات الحياة كما كانت تمثلها لندن التي انتقل إليها حيث سيسقط وتسقط معه كل تطلعاته تحت أوهام لذة العيش والخواء الفكري.
روعة التفاصيل
لم يكن الموضوع مهماً ولم يكن يحمل أي أبعاد أوبرالية حقيقية، لكنه كان مزدحماً بالإشارات والعناصر المقتبسة من شتى أنواع الفنون. وكأنه كان يلخص حياة فنية بأسرها موزعة بين مدينتين. وتلك كانت أهمية الحكاية في نهاية الأمر. أوبرا عن الفن والانغماس عبر الفن في لذائذ العيش. ومن هنا فإن أهمية العمل كانت في التفاصيل، وفي العلاقات التي تترى أمام المتفرجين بين الحياة والفن. ويقيناً أن هذا ما سحر نوعية خاصة من الجمهور في عمل نادر من نوعه. عمل ليس فيه لا لحظات درامية ولا حتى لحظات كوميدية فاقعة، بل شخصيات تتحاور حول الفن والتجديد في الفن وتعيش، كريكويل نفسه، وهو بالطبع الشخصية الأساسية، الأكثر تواتراً بين اللحظات الكبيرة ولحظات السقوط المؤسسية. وهو نفس ذلك التواتر الذي عرف هوغارث في الأصل كيف يعبر عنه في لوحاته ذات البعد الاجتماعي الخلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونعود هنا إلى سترافنسكي طبعاً. لنبدأ حديثنا عنه بالقول عن القرن العشرين إنه، على الرغم من امتلائه بالموسيقى من أوله إلى آخره، لم يكن عصر الموسيقى الكبيرة، أي عصر التأليف الموسيقي بالمعنى الذي يحمله التأليف الموسيقي كما حين نتحدث عن مؤلفين من طينة موتسارت وفاغنر وبيتهوفن وهايدن؟ وهل يمكن أن نستطرد لنقول إن القرن الثامن عشر كان آخر العصور الذهبية للموسيقى، على الرغم من وجود مؤلفين كبار في القرن العشرين؟ إنها نظرية تجد دعماً لها لدى عديد من الباحثين الذين حتى حين يذكرون ديبوسي ورافيل وجورج غيرشوين كبعض أبناء القرن العشرين، لا يفوتهم أن يذكروا بأن بعض أهم أعمالهم إنما كانت تلك التي كتبت بتأثير من موسيقى القرن السابق، وباعتبارها امتدادها. ولعل مسيرة إيغور سترافنسكي المهنية تكفي وحدها لتأكيد هذه النظرية، فهذا المؤلف الكبير الذي بدأ حياته روسياً وأنهاها أميركياً، مع مرحلة فرنسية حاسمة وأساسية تتوسط مسار حياته، هذا المؤلف الكبير تكاد مسيرته تختصر وحدها ما يوصف عادة بأنه "الانحدار الكبير الذي عاشه التأليف الموسيقي في القرن العشرين".
من الشمال الروسي إلى الشمال الأميركي
صحيح أن سترافنسكي، المولود عام 1882 في بلدة أورانينبادم القريبة من سانت بطرسبرغ في الشمال الروسي، لم يكن إلا في الثامنة عشرة من عمره حين أطل عليه القرن العشرون، وأن مؤلفاته الموسيقية الكبرى إنما ظهرت اعتباراً من 1910 وهو في الثامنة والعشرين، لكن صحيح أيضاً أن تلك الأعمال الكبرى، التي كتب معظمها بناء على تكليف من فنان الباليه الروسي الكبير دياغيليف، إنما كتبت كامتداد للكلاسيكية الرومانسية الروسية وبتأثير مباشر من رمسكي كورساكوف الذي يعرفه المستمعون العرب بقصيدتيه السيمفونيتين الكبيرتين "شهرزاد" و"عنتر" اللتين أعمل فيهما الموسيقيون العرب سلباً ونهباً ولا يزالون يفعلون حتى اليوم! إذاً، انطلاقاً من هذا الاعتبار يرى كثيرون أن إيغور سترافنسكي إنما كان من "آخر عباقرة القرن التاسع عشر" على الرغم من أنه أمضى 71 سنة من حياته في القرن العشرين.
بكل بساطة يمكن القول، إن كل ما كتبه سترافنسكي طوال القرن العشرين لا يضاهي بأي حال من الأحوال أعماله الأساسية الأولى من باليه "عصفور النار" الذي كتبه لدياغيليف، حيث طلب منه هذا كتابة الباليه له بعد أن أدهشته حفلتان كان قدمهما تحت رعاية رمسكي كورساكوف. وعندما كتب سترافنسكي "عصفور النار" كان لا يزال شاباً ومجهولاً، لكن هذا العمل وضمانة دياغيليف له كانا كافيين لأن يضفيا عليه شهرة كبيرة. وهكذا انفتحت الأبواب واسعة أمام المؤلف الشاب الذي كتب على الفور ثلاثة أعمال أخرى لدياغيليف هي "بتروشكا" و"تطويب الربيع" و"أعراس" التي تأخرت كتابتها بعض الشيء لكن جذورها تعود إلى تلك الفترة وتنتمي صراحة إلى الكلاسيكية الرومانسية الروسية.
بداوة فنية حقيقية
طوال عقود بعد ذلك، وبخاصة خلال إقامته في سويسرا ثم في فرنسا ثم استقراره في أميركا الشمالية، كتب سترافنسكي عشرات الأعمال. ومع ذلك لا يزال اسم هذا المؤلف وحتى يومنا هذا، مرتبطاً بتلك الأعمال التي ذكرناها، التي استوحى منها الشعراء والمسرحيون والسينمائيون والأدباء بشكل عام. هذا، لأن سترافنسكي كان في بداياته روسياً أصيلاً، تأثر بالروس الكبار، من بورودين إلى تشايكوفسكي مروراً برمسكي كورساكوف. وتلك اللمسة الروسية في موسيقاه هي التي أضفت على أعماله الأولى سحرها، لكنه بعد ذلك، وبحسب تعبير الشاعر السويسري راموز الذي تعاون معه ذات فترة، صار "سويسرياً في سويسرا، وفرنسياً في فرنسا، وأميركياً في أميركا" مما أفقد موسيقاه طابعها الأصيل، وجعل سمعته إلى الأبد تنحصر في أعماله الأولى على الرغم من أن "خزانه" يحتوي على أعمال كبيرة نسبياً. وعبر مثل هذه الأعمال -على أي حال- طبع سترافنسكي موسيقى القرن العشرين بطابعه، لكن محبيه كانوا يفضلون له على الدوام أن يظل أصيلاً في روسيته، وألا يقع -كما فعل- في فخ طلائعيي الموسيقى الحديثة فأضاع وقته، ومات في عام 1971 دون أن تكون له سوى قيمته المتحفية وذكرى أعماله الأولى.