ما بين أرقام رسمية سلبية، وتضخم يواصل الارتفاع، وشركات كبيرة تقترب من الإفلاس، ومعدلات ديون وقروض خارجية تسجل مستويات تاريخية، وناتج محلي يتراجع، ووكالات تصنيف عالمية ترى أن هناك مشكلة حقيقية، جاء محافظ البنك المركزي التركي "المعزول" ليتحمل وحده حصيلة كل هذه الأزمات التي تؤكد جميع النظريات الاقتصادية أنه ليس سبباً فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما بين ادعاءات بتحقيق قفزات اقتصادية، وقدرة على تجاوز العقوبات والتحديات الخارجية، غالباً ما يتحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يدعي أنه "خبير اقتصاد"، لتأتي نتائج انتخابات بلدية إسطنبول الأخيرة وتؤكد أن الدعم الشعبي لحزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه أردوغان أصبح "وهماً" لا يزال يعيش فيه الرئيس التركي وحده، الذي استيقظ على مجموعة كبيرة من الأزمات الاقتصادية، ربما تكتب نهايته السياسية.
وتسود حالة من القلق في الأوساط الاقتصادية، ويتوقع المستثمرون بقاء العملة التركية في قائمة أكثر عملات العالم من حيث عدم الاستقرار بعد الخسائر العنيفة التي تكبدتها منذ بداية العام الماضي.
ركود اقتصادي صعب وبيانات رسمية سلبية
الأرقام والبيانات الرسمية تشير إلى أن تركيا دخلت بالفعل في مرحلة الركود الاقتصادي للمرة الأولى منذ عام 2009، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3% خلال الربع الأخير من عام 2018 مقارنة بنفس الفترة من العام 2017.
المكتب الوطني للإحصاءات، أشار في بيانات حديثة، إلى أنه خلال الربع الثالث من 2018، كان الناتج المحلي الإجمالي قد تقلص بنسبة 1.1%، وهذا يعني أن تركيا دخلت في مرحلة من الركود الاقتصادي للمرة الأولى منذ عام 2009.
ويعود هذا الركود بدرجة كبيرة إلى تضخم كبير شهده الاقتصاد على خلفية أزمة الليرة التركية نتيجة التوتر الدبلوماسي بين أنقرة وواشنطن، فضلا عن عدم ثقة الأسواق بالسياسات الاقتصادية، التي تعتمدها الحكومة التركية.
وخسرت الليرة التركية عام 2018 ما نسبته 30% من قيمتها، لكنها استقرت منذ بداية العام الحالي. فيما يستقر التضخم عند مستوى 19.67% منذ فبراير (شباط) الماضي.
يأتي نشر هذه البيانات، فيما بلغت الحملة لانتخابات 31 مارس (آذار) البلدية ذروتها، ومن شأن هذه الأرقام أن تضر بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في ظل الاهتمام البالغ للأتراك بحالة الاقتصاد.
كيف يرد الخبراء على تصريحات "مستقزة" لوزير تركي؟
وزير المالية برات البيرق، الذي من المؤكد أنه يشرف على أكثر الملفات التركية الساخنة المتعلقة بالديون والتضخم يرى أن "الأسوأ بات خلفنا"، وأرجع هذه الأرقام السيئة إلى "المضاربات" وتباطؤ الاقتصاد العالمي.
لكن الخبير الاقتصادي الدكتور أحمد رفعت، أكد "أن هذه التصريحات (مستفزة) ولا يمكن أن تخرج على لسان مسؤول، تعاني بلاده كل هذه المشاكل والأزمات الاقتصادية، سواء فيما يتعلق بالانهيار الذي تواجهه العملة التركية أو انخفاض حجم الناتج المحلي الإجمالي، وأيضاً مستوى الديون الذي أصبح يمثل نسبة كبيرة مقابل الناتج المحلي الإجمالي الهزيل".
وأشار لـ"اندبندنت عربية"، إلى "أن تدخل الرئيس التركي في السياسة النقدية لبلاده ربما تعد سابقة لم تحصل كثيراً على مر التاريخ"، وتساءل: "إذا كان الرئيس التركي يجيد إدارة ملف الاقتصاد والسياسة النقدية للبلاد، فلماذا قام بتعيين محافظ جديد للبنك المركزي خلفاً للمحافظ المعزول قبل أيام".
وأوضح "أن جميع التوقعات والدراسات تشير إلى أن العملة التركية سوف تواجه أزمات كبيرة خلال العام الحالي، ولم يكن الحل في إقالة المحافظ الذي لم يكن سبباً مباشراً في كل الأزمات الاقتصادية التي تواجهها تركيا في الوقت الحالي".
كيف جاءت ردود الأفعال على قرار العزل؟
في تقرير حديث، وصفت وكالة "بلومبيرغ"، الإطاحة بمحافظ البنك المركزي التركي مراد تشتين قايا بأنها "صادمة"، ويمكن أن تثير مجدداً قلق المستثمرين إزاء استقلال البنك، وربما يعرقل صعود قيمة الليرة الذي بدأ في 9 مايو (أيار) الماضي.
ويأتي القرار بعد أيام من ارتفاع سعر الفائدة الحقيقي في تركيا إلى مستوى عالمي تجاوز 8.3% في الوقت الذي تباطأت فيه وتيرة معدل التضخم بأكثر مما كان متوقعا، مما أعطى صناع السياسة مساحة للشروع في دورة لخفض سعر الفائدة.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي انتقد وعلى نحو متكرر البنك المركزي، لأنه أبقى على تكاليف الاقتراض مرتفعة، لم يلتفت إلى النظريات الاقتصادية التي ترى أن سعر الفائدة يستخدم في حالة ارتفاع التضخم إلى مستويات مرتفعة، وأن الأهم من توسيع دائرة قروض الشركات هو الحفاظ على سوق أكثر استقراراً، على عكس ما يسببه خفض الأسعار من توفير سيولة ضخمة في السوق.
وحين تتوفر سيولة ضخمة مع موجة تضخم مرتفعة، فإن ذلك يقود إلى العديد من الأزمات الاقتصادية، وهذا ما لا يدركه الرئيس التركي الذي وصف نفسه أمام مؤيديه بأنه "خبير اقتصادي".
ولطالما دعت وكالات التصنيف الائتماني والمحللون، البنك إلى رفع أسعار الفائدة، وأثار رفضه اتخاذ هذه الخطوة، أسئلة حول استقلاله.
وخلال الشهر الماضي، خفضت وكالة "موديز" التصنيف الائتماني لتركيا من "بي إيه 3" إلى "بي 1" وأبقت على توقعاتها السلبية، مشيرة إلى المخاوف بشأن "شفافية واستقلال" البنك المركزي التركي.
بماذا يبرر أردوغان فرار عزل المحافظ؟
أما مبررات عزل محافظ البنك المركزي السابق فقد ساقها أردوغان في أن المحافظ "المعزول" رفض مطالب الحكومة المتكررة بخفض أسعار الفائدة.
وقال الرئيس التركي: "أبلغناه مرارا خلال اجتماعات اقتصادية أنه ينبغي خفض أسعار الفائدة. أبلغناه أن خفض سعر الفائدة سيسهم في خفض التضخم. لم يفعل ما كان ضروريا".
وفي رده على سؤال حول الأزمات التي يشهدها الاقتصاد التركي، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تصريحات سابقة، "إنه المسؤول عن اقتصاد بلاده"، في إشارة لمزيد من الضغط على البنك المركزي لخفض معدلات الفائدة على الرغم من تسارع التضخم وتراجع العملة المحلية.
وتابع أمام تجمع لمؤيديه "أنا المسؤول عن الاقتصاد التركي، من هو على رأس الدولة الآن؟ إنه رجب طيب أردوغان إلى جانب 14 وزيراً". وأوضح أن حكومته سوف تبدأ سريعاً في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية لدعم الاقتصاد بعد الانتخابات المحلية المقرر لها الأحد المقبل.
وجدد أردوغان وقتها، هجومه على قيادات البنك المركزي التركي وقال إن القضية الرئيسية هي معدلات الفائدة، ومع خفضها سيتباطأ التضخم، مضيفاً "أنا أيضاً خبير اقتصادي".
مخاوف من تطبيق رؤية أردوغان الاقتصادية
وفقاً لوكالة "بلومبيرغ"، قال خبراء "إن قرار عزل المحافظ يذكّر المستثمرين من المسؤول الفعلي عن السياسة النقدية في تركيا، ويجدد المخاوف بشأن رؤية أردوغان غير التقليدية في الاقتصاد، خصوصا فيما يتعلق بخفض سعر الفائدة وتأثيره على التضخم".
ورجحوا "سقوط الليرة التركية خلال الفترة المقبلة، ما يزيد من مخاوف المستثمرين بشأن استقرار الليرة"، وأشارت الوكالة إلى "أنهم كانوا ينتظرون بصبر على الهامش، حيث ارتفعت الليرة بنحو 8% منذ أوائل مايو (أيار) الماضي".
كريستيان ماجيو، رئيس استراتيجية الأسواق الناشئة في شركة تي دي سيكيورتيز في لندن، قال "إن الفترة المقبلة سوف تشهد بالتأكيد رد فعل سلبي على الليرة، من الواضح أن هذه محاولة لخفض أسعار الفائدة، وإلا فإن أردوغان ما كان ليستبدل (جتينقايا) قبل عام من انتهاء ولايته".
وأضاف: "ربما تنخفض أسعار الفائدة في ظل سياسة تخفيف القيود أكثر مما كان متوقعا بالفعل، لكن معدلات أسعار الفائدة على المدى الطويل ربما تتحرك في الاتجاه المعاكس، وسيؤثر هذا سلبا على الأسهم".
الليرة التركية تنافس على لقب "الأسوأ في العالم"
دراسة حديثة أعدها مركز الإمارات للدراسات والأبحاث المتقدمة تحت عنوان "إلى أين تتجه الليرة التركية في عام 2019؟"، رجحت أن تشهد الليرة التركية مزيداً من الضغوط خلال العام الحالي، حيث بدأت رحلة الهبوط منذ العام 2016، بيد أن التراجع الأكبر لليرة كان في عام 2018، وتحديدًا في 13 أغسطس (آب)، عندما هبطت إلى مستوى 6.88 ليرة مقابل الدولار، وذلك كنتيجة للتوتر الشديد في العلاقات بين أنقرة وواشنطن آنذاك مع احتجاز الأولى للقس الأميركي آندرو برونسون.
لكن على مدار العام 2018 فقدت نحو 40% من قيمتها مقابل الدولار، لتعد من بين الأسوأ في العالم من ناحية الأداء بجانب عملات مثل البيزو الأرجنتيني والراند الجنوب أفريقي. ومنذ بداية عام 2019، حافظت الليرة على استقرارها نسبيا وعند مستوى تراوح بين 5.30 و5.50 ليرة مقابل الدولار.
لكن لم تلبث الليرة أن تعرضت لضغوط قوية مرة أخرى في مارس (آذار) الماضي، حيث تراجعت بنسبة 5.4 إلى 5.7% مقابل الدولار، وهو أدنى مستوى لها منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، على خلفية تزايد مخاوف المستثمرين من احتمال تدهور العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة مجدداً.
وتطرقت الدراسة إلى تصاعد مخاوف المستثمرين المحليين والأجانب من تفاقم الأوضاع الاقتصادية في البلاد نتيجة ضعف الأساسيات الاقتصادية وعدم فعالية السياسات الحكومية في مواجهة مشكلات مثل انخفاض النمو الاقتصادي وتراجع العملة وتزايد الدين الخارجي، فضلاً عن الضغوط التي مارسها الرئيس أردوغان على البنك المركزي لخفض سعر الفائدة.
وللمرة الأولى منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، اتجه الاقتصاد نحو الركود في العام الماضي، كما تواجه تركيا مستويات مرتفعة من الدين الخارجي بلغت نحو 453.42 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الحالي، وبما يعادل 60.7% من الناتج المحلي الإجمالي، ويتحمل القطاع الخاص منها نحو 305.8 مليار دولار. وبحلول يوليو (تموز) الحالي، يُستحق على تركيا سداد نحو 179 مليار دولار منها نحو 146 مليار دولار على القطاع الخاص، وفق بيانات أصدرها بنك جي بي مورغان الأميركي.
الدولار يقفز إلى 7 ليرات تركية قريباً
وتوقعت الدراسة أن تتعرض الشركات التركية لضغوط مالية كبيرة في الأشهر المقبلة، لا سيما مع تدهور قيمة العملة بما يقرب من 50%، حيث عليها تخصيص مزيد من الأموال بالليرة لدفع الدين المقوم بالعملات الصعبة. وفي الوقت نفسه، قد يؤدي هذا الوضع إلى استنزاف الاحتياطيات الرسمية من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي لسداد مستحقات الديون الأجنبية، فضلاً عن الواردات.
وترجح العديد من التحليلات أن تشهد الليرة مزيداً من الضغوط الشديدة في الفترة المقبلة، لتهبط إلى ما بين 6 و7 ليرات مقابل الدولار الواحد بنهاية العام الحالي. ولا شك أن تقلبات الليرة سيترتب عليها نتائج وخيمة على الاقتصاد، ينصرف أهمها إلى حدوث مزيد من ارتفاع مستويات التضخم في البلاد، علماً بأن التضخم بلغ ذروته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بنسبة 25.2% قبل أن ينخفض إلى مستوى أقل من 20% في الوقت الحالي.
هذا إلى جانب مواجهة الشركات التركية أعباء مالية إضافية في الفترة المقبلة، حيث قد يتسبب تدهور العملة في تعثرها في سداد ديونها، وبما قد يتسبب في ارتفاع نسبة القروض المتعثرة لدى المصارف إلى ما بين 7 و9% من إجمالي القروض بحلول نهاية عام 2019، من مستوى 4% حالياً.
وتوقع تقرير حديث لشركة "كابيتال إكونومكس" الاستشارية، أن تتعرض الليرة لضغوط جراء انكماش اقتصادي متصاعد ومخاطر ارتفاع كبير في معدلات التضخم، وفجوة واسعة في ميزان المدفوعات، ووجهة نظر "قاتمة" للبنوك الوطنية التي تواجه تراكمات متصاعدة من القروض المعدومة.