لم يكن المخرج السينمائي لويس بونويل فرنسياً وما كان العدد الأكبر من أفلامه فرنسياً. لكن واحدة من ميزاته الأساسية في حياته المهنية كمنت في أن فيلميه اللذين افتتحا مساره الإبداعي كانا فرنسيَين خالصَين؛ وكذلك كانت حال فيلميه الأخيرين اللذين اختتم بهما ذلك المسار، وهو لم يكن في حاجة إلى أكثر من ذلك كي يُعتبر جزءاً، إن لم يكن من السينما الفرنسية، فعلى الأقل جزءاً من الحياة الثقافية في هذا البلد أولاً خلال مرحلة العصر الذهبي وانتشار التجديد الإبداعي الفرنسي في أوروبا والعالم، ثم ثانياً خلال مرحلةٍ كان الفعل الإبداعي الفرنسي قد بدأ يبحث عن آفاق جديدة له بعد استشراء "الموجة الجديدة" وكوزموبوليتها.
وهكذا لئن حقق بونويل فيلميه الأولين "الكلب الأندلسي" و"العصر الذهبي" في أواخر سنوات الثلاثين كإشارةٍ إلى دخول الفن السابع الزمن السوريالي، فإن "غرض اللذة الغامض" و"شبح الحرية" كانا فيلميه الأخيرين اللذين ختم بهما سينماه قبل ختامه حياته بعد ذلك بما يقرب من نصف قرن. فإذا حسبنا في هذا السياق فيلماً سابقاً لذلك هو "يوميات وصيفة" المأخوذ عن رواية فرنسية لجورج برنانوس والمعتبر فيلماً فرنسياً خالصاً، كما حال تحفته الفرنسية الخالصة الأخرى "حسناء النهار"، سنجدنا أمام متن سينمائي متكامل هو ما يجعل سينما بونويل فرنسية ولو جزئياً.
ختامها حرية
كان "غرض اللذة الغامض" آخر فيلم روائي طويل حققه لويس بونويل قبل رحيله. لكن هذا الفيلم، الذي سيعاد اكتشافه مرات ومرات، بعد ذلك الرحيل، لم ينل إجماعاً حين عُرض وتحدث كثر من النقاد عن "تراجع ملحوظ" في أداء ذلك الفنان السينمائي الإسباني الكبير. وقال النقاد إن سابقه "شبح الحرية" كان أفضل، لأنه دنا أكثر من الهموم التي كانت تشغل الناس في ذلك الحين (1974). وهنا لا بد من القول إن "شبح الحرية" وكذلك "غرض اللذة الغامض" سجلا علامتين أساسيتين في مرحلة أخيرة من حياة بونويل ومساره المهني، تُعتبران نوعاً من العودة منه إلى بداياته، بمعنى أن المرحلة الأخيرة فرنسية الإنتاج والأجواء، تماماً كما كانت مرحلته الأولى. وبين المرحلتين كان بونويل قد تنقل بين إسبانيا والمكسيك، ليحقق المتن الأساس من عمله الإجمالي، ضمن إطار السينما الفرنسية في شكل نهائي، حتى وإن اشتركت إيطاليا حيناً وإسبانيا (بلده الأصلي) في إنتاج أو إلهام هذا الفيلم أو ذاك من أفلامه. والحال أن "شبح الحرية" يعتبر الأكثر فرنسية بين أفلامه، وليس من حيث المناخ والإنتاج والممثلين فقط، بل من حيث الروحية أيضاً.
دور كاتب كبير
كعادته خلال تلك المرحلة الأخيرة من مساره المهني، استعان بونويل في هذا الفيلم بكاتب السيناريو جان كلود كاريير، الذي يمكن القول الآن إنه كان مسؤولاً عن الفيلم بقدر مسؤولية بونويل عنه. ذلك أن مشاهدة هذا الفيلم مرات ومرات ستقول لنا إن السيناريو هو العنصر الأساس فيه. ومن المعروف أن كاريير اعتاد، حين يكتب سيناريو لمخرجين كبار، أن يضع على الورق تفاصيل التفاصيل، ما يجعل عمل المخرج، مجرد مشاركة عملية في تنفيذ ما هو على الورق، ناهيك باختياره الخلاق لزوايا الكاميرا، وتعامله مع الشخصيات. فعما يتحدث هذا السيناريو الذي اعتُبر الفيلم المأخوذ عنه، في ذلك الحين، فاتحة حقيقية لتيار ما بعد الحداثة في السينما؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حكايات من دون رابط وسقف
"عن الحرية" كما يقول عنوانه، أو بالأحرى عن شبح هذه الحرية. وذلك من خلال سلسلة لقاءات عابرة، وغير المتوقعة من النوع الذي كان السورياليون، في الفن التشكيلي (بخاصة ماغريت دي كيريكو) يستسيغونه. وهذه اللقاءات العارضة، إذ تمثل فصول الفيلم واحداً بعد الآخر، تتم بين أناس من طبقات ومجتمعات ومهن، وحتى أزمنة مختلفة، وذلك في لعبة تصاعدية يصعب معها تصور وجود أي علاقة حقيقية بين لقاء ولقاء أو بين فصل وفصل. وقد كانوا على صواب كل أولئك النقاد والدارسين الذين قالوا دائماً إن من الصعوبة بمكان تلخيص هذا الفيلم وإسناده إلى حكاية معينة. فالحقيقة أن ليس ثمة وجود لأي حكاية هنا. بل إن مبدأ الفيلم في الأساس يقوم على نقض مواثيق الحكي والسينما السردية - الخطية. صحيح أن هناك لقاءات وأحداث ومواقف وحوارات وصراعات حتى... لكنها هنا تبدو متفرقة، في نهاية الأمر لا يجمعها جامع بل في الحقيقة أيضاً ليس ثمة ما يجمع بين الحكايات وعنوان الفيلم... إذ لا حديث عن الحرية هنا ولا عن شبحها على الإطلاق، إلا إذا فهمنا الفن كله، والفن السوريالي بخاصة فعل تحرر.
زمن يمر متعرجاً
يبدأ الفيلم في مدينة توليدو الإسبانية عند مفتتح القرن التاسع عشر، حيث القوات الفرنسية بقيادة نابوليون تغزو المدينة وتحتلها وتبدأ في إعدام المقاومين بالجملة. غير أن هذا الفصل لا يؤدي الى أي مكان، ذلك أن الفصل الذي يليه مباشرة ينقلنا إلى فرنسا المعاصرة حيث تطالعنا مجموعة أطفال وبين أيديهم صور غريبة ومثيرة أعطيت لهم كي يتمعنوا فيها. أما والد هؤلاء الأطفال، فإننا سرعان ما نراه قاصداً طبيبه، فيما الممرضة التي تعمل مع هذا الطبيب تقود سيارتها في الشارع في طريقها إلى زيارة والدها المحتضر.
كل هذه المشاهد المتعاقبة هنا، تعد بأن ثمة أحداثاً ستقع قد تكون لها علاقة بهذا كله... ولكن هذا لن يحدث، لأن الممرضة ستوقف سيارتها أمام نزل، نلتقي نحن في داخله بمجموعة من الناس تتألف من قساوسة وأناس لا نعرف عنهم شيئاً سوى أن بعضهم سادي والبعض الآخر معتوه، فيما البعض الثالث يمارس كل أنواع الموبقات. وعند الصباح تغادر الممرضة النزل باكراً في سيارتها وقد اصطحبت معها، لتوصله إلى المدينة التي تقصدها، أستاذاً نفهم أنه يدرّس في أكاديمية الشرطة.
وإذ تواصل الممرضة طريقها، تبقى الكاميرا مع الأستاذ الذي يلقي بعض الدروس على عدد من المجندين في سلك الشرطة. وإذ يصغي إليه هؤلاء بكل تبجيل وانتباه، نراهم في مشهد تالٍ يوقفون سائق دراجة بخارية كان يقود دراجته بسرعة مدهشة. بعد ذلك نبقى مع سائق الدراجة الذي نرافقه في زيارته لطبيبه. وهناك في عيادة هذا الطبيب يعلم السائق أنه مصاب بسرطان الكبد.
وإذ ينتقل السائق من العيادة إلى منزله، يكتشف هناك أن ابنته اختفت فيما كانت مع رفاقها الصغار في المدرسة. ويقطع المشهد هنا، مع مشهد قناص يعتلي طابقاً مرتفعاً في بناية ويطلق الرصاص من هناك مردياً بعض المارة. في تلك الأثناء نشاهد ضابطاً كبيراً في الشرطة وهو يتوجه إلى مكان احتفالي لمشاهدة أخته الميتة. وهو ينتقل من هناك إلى مكتب قيادة الشرطة حيث يطالعه ضابط كبير آخر يصطحبه إلى حديقة الحيوان في المدينة لمواجهة مجموعة من الأفراد المتظاهرين. وهنا، إذ تعلو في خلفية الصورة عبارات تصرخ "فلتسقط الحرية"، نسمع الكثير من الطلقات النارية قبل أن ينتهي الفيلم على لقطة كبيرة لرأس نعامة.
تسلسل غريب
كان هذا هو تسلسل "أحداث" هذا الفيلم. وبونويل حين سُئل عنه في ذلك الحين قال إنه يعتبره أفضل أفلامه، وأنه لا ينصح أحداً بأن يحاول أن يفهم، فمثل هذا الفيلم "ليس فيلماً يُفهم، بل هو فيلم يشاهَد". ثم، على سبيل إعطاء بعض الأمارات، قال بونويل: "أعتقد أنني أردت أن أقول هنا إن الصدفة هي التي تحكم كل شيء. أما الضرورة التي لا تتسم بالنقاء نفسه الذي تتسم به الصدفة، فإنها تأتي بعد ذلك (...) وأنا أعتقد أن هذا الفيلم يحاول أن يتحقق انطلاقاً من هذه الفكرة، حتى وإن كان دارسون ونقاد سيقولون لاحقاً، إن مشاهد ومواقف عدة في هذا الفيلم تبدو وكأنها مستقاة من فصول مرتبطة بحياة بونويل نفسه، وأحياناً بفصول من مشاريع سيناريوات كان كتبها في الماضي محاولاً تحويلها أفلاماً فلم يفلح. فجاء هذا الفيلم ليربط بينها هذا الربط الذي رآه البعض خلاقاً والبعض الآخر مجانياً في ذلك الحين.
أما لويس بونويل (1900 - 1983)، فإنه سيعتبر "شبح الحرية" وصيته الفكرية والسينمائية، وخاتمة عقود طويلة من العمل السينمائي (ما لا يقل عن ستة عقود) طبعتها سيرة سينمائية متجولة، وأفلام يعتبر بعضها علامات أساسية في تاريخ الفن السابع مثل: "فيرديانا" و"ناثاران" و"سيمون الصحراء" و"الملاك المبيد" و"درب الحليب" و"تريستانا" و"الموت في هذه الحديقة"...