أفرزت الحرب السورية نوعين من السينما، منهما واحدة هاجرت إلى الغرب، يؤيد معظم أحرار العالم مضمونها السياسي، أفلامها تحكي عن المأساة التي تعرض لها أصحابها مباشرةً أو من خلال تجارب الآخرين. هذه الأفلام حملتها التظاهرات السينمائية الغربية على الراحات ونالت جوائز دولية، أما السينما الثانية، فيتم إعدادها في مطابخ النظام قبل أن تتناولها مهرجانات كالإسكندرية وقرطاج وغيرهما، بعدما أقفل العالم كله أبوابه في وجه سوريا لفترة طويلة، وهناك نوع ثالث، يندر وجوده، يتمثل في فيلم مثل "رحلة يوسف" المعروض في مسابقة آفاق السينما العربية داخل مهرجان القاهرة السينمائي في 13 نوفمبر (تشرين الثاني)2022، ففي هذا الفيلم يأتي المخرج جود سعيد برؤيته الخاصة عن النزوح السوري، انطلاقاً مما يعرفه عن هذا النزوح وعما يريد القول عنه، كشخص لم ينزح ولم يلجأ إلى دول أوروبية كزملاء له، بل فضل البقاء، لأسباب بعيدة من شأننا هنا، هذا الخيار أكان بكامل الإرادة أو مفروضاً، يصنع تلقائياً سينما أخرى، فهو ابن نزوح آخر، من الذات للذات، ولا يمكن التغاضي عن هذا أيضاً، مهما يكن رأينا في النظام السوري وجرائمه.
هذه السينما الثالثة إذا صحت تسميتها هكذا، التي تقف في منتصف الطريق بين الأشياء لها منطق سينمائي آخر، يختلف عن ذلك الذي نتج جراء الغضب على النظام السوري، الذي وصل إلى حده الأقصى أخيراً
مع أفلام بدت كأنها تقوم على ذاكرة أصبحت بعيدة في وجدان أصحابها. "رحلة يوسف" يقوم على سينما لا تريد شيئاً ولا ترفع القبضات في وجه المشاهد، لا تهمل البعد السياسي كلياً، ولكن تتركه خلف الأذن وتتعامل معه بذكاء، فهو حاضر وغائب في آن واحد، هذا كله لتحكي عن أحوال النازحين وأوضاعهم وفي النهاية لا حاجة لخوض المحظور، فالذكي من الإشارة يفهم!
تهجير ومخيمات
أيمن زيدان في ثالث تعاون مع سعيد يضطلع بدور شخص نجهل خلفيته، وهذا ما يحوله مادة مثيرة جاعلاً منه صفحة بيضاء، لا نعرف ماذا يفعل في الحياة ولا يفصح كثيراً عن توجهاته السياسية، ونكتشف في مطلع الفيلم بأنه يحاول إنقاذ الأرواح في قرية تتعرض للقصف ويسيطر عليها المسلحون، هناك عائلتان تعيشان في بيتين متلاصقين، عائلتان لم تبقيا عائلتين حقيقيتين فكل منهما فقدت أفراداً خلال الحرب، وبقيت في العائلة الأولى سيدة وابنة شقيقتها، وفي العائلة الثانية يوسف وحفيده، قصة حب بريئة تجمع الحفيد زياد بابنة الشقيقة هاجر، إلا أن أحد المسؤولين الكبار في صفوف المسلحين يطلب من يوسف تزويجه هاجر، على رغم أنها لم تبلغ بعد، ويتمرد يوسف على هذا الطلب، على رغم ما يترتب عليه من تداعيات خطرة وبمساعدة صديق يقرر الفرار من القرية إلى أحد المخيمات على الحدود اللبنانية.
هذه هي الأجواء التي يدور فيها الفيلم، أحوال اللجوء والتهجير والمخيمات الواقعة في عري الطبيعة، حيث لا أمان ولا سقفاً يحمي أحداً، ناس تركوا لمصيرهم يدفعون ثمن مطالبتهم بالحرية، فباتوا بلا مرجعية يتدبرون أمورهم كيفما اتفق، وفي المخيم يعيش هؤلاء فصلاً جديداً من المأساة السورية يتجسد في استقواء بعضهم على البعض الآخر، والاستغلال على أنواعه.
وتتوالى الفصول ولا يتغير الكثير، إنها فصول الحياة الأربعة التي يأتي كل منها بسؤال محدد، في الشتاء يسأل الفيلم "إلى أين نذهب يا جدي؟"، وهي اللحظة التي يقرر فيها يوسف أن يبدأ رحلته، ومع ختامها يزهر الربيع الذي يحمل عنوان "سأبقى أحب لأجل عبد الهادي"، والأخير هو اسم الشخص الذي ضحى بحياته كي تنمو قصة الحب بين زياد وهاجر، ثم مع حلول الصيف نكتشف موهبة زياد الكروية والأمل الذي يمده للناس الذين من حوله، أما الخريف فيأتي بالسؤال الآتي، إلى أين ستذهب يا ولدي؟
يعتني جود سعيد جيداً بالجانب البصري، حركات كاميرا وتكوينات وغيرها مما يجعل أي فيلم يستوفي شروط سينما أنجزت لتشاهَد داخل صالة، وذلك منذ لقطة الافتتاح في الثلوج التي لا بد أن تذكّرنا بـ"درسو أوزالا" لأكيرا كوروساوا، إلى مشاهد المخيم التي يتم تصويرها بعيداً من أجواء البؤس. هناك بؤس في طبيعة الحال، لكنه لا يتمظهر على نحو مرئي واضح، وبمفردات رخيصة تحاول شحذ العواطف، بل البؤس هنا في داخل الشخصيات وفي طريقة تعاملهم مع بعضهم بعضاً، فالمخيم حيث تدور معظم أحداث الفيلم التي تتطور بشكل تصاعدي لتفضي إلى دراما غير متوقعة يغدو مسرحاً لخلافات وصراعات تأتي بصورة واقعية عن هذا الوطن الموقت الذي حشر فيه السوريون، فيبدون كما لو أنهم لا يملكون لا ماضياً ولا حاضراً ولا مستقبلاً، يأتون من مجهول ليذهبوا إلى مجهول آخر، هذا وحده كاف لإدانة كل الذين تسببوا بمأساتهم.
مع "رحلة يوسف"، تبدو الأمور أبسط مما نعتقدها، على رغم تعقيداتها الكثيرة، يصور الفيلم بساطة الحالة الإنسانية من دون أن يبسطها بالضرورة.
يتحول المخيم لقطة بعد لقطة مكاناً كلوستروفوبياً، على رغم فضائه المفتوح وسط الطبيعة، وحدة الدراما الممزوجة ببعض المحاولات الكوميدية تنسينا التدقيق في التفاصيل لفصل الواقعي عن المتخيل، إذ إن الأولوية هي معاناة الكاراكتيرات وهي في طريقها إلى الأصعب، ويقول يوسف في أحد المشاهد "أنا مخنوق، حاسس كل المخيم مترين بمتر"، معبراً عن هذا الاختناق الذي يعيشه هؤلاء الذين على الحد الفاصل بين الحياة والموت، لا هم راحلون ولا هم مقيمون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أيمن زيدان في دور يوسف يسحق كل الشخصيات الثانوية التي من حوله، حضوره يدوس على كل شيء، وفي المقابل يتحمل جزءاً من بلوغ الفيلم هذا المستوى من الدراما وحتى الإيقاع، "من يوم ما طلعنا من بلدنا تغيرت أحلامنا"، يقول الرجل الذي يمكن أن يستغني عن أسطر بنظرة واحدة، وهي دائماً تحمل قدراً من الحيرة والالتباس والتحدي، يستخدمه المخرج على مستويين، ضمن سياق روائي محض، وآخر أقرب إلى الوثائقي، حيث تنتقل الشخصية من كونها يوسف إلى كونها أيمن زيدان.
ينطلق "رحلة يوسف" من داخل واقع سوري يحتاج إلى مئات الأفلام من المفترض أن ينجزها مَن هم في داخل سوريا ومَن يقيم خارجها، هو إنتاج مشترك سوري - سوري، لا يجامل ولا ينافق ولا يتملق، على رغم أن الصورة ليست كاملة وشاملة، ولكن دعونا نحاسبه على ما يرينا لا على ما يتركه خارج الكادر، واللافت أن بعض العناصر في الفيلم تتقاطع مع ما يحتويه عدد من الأفلام السورية والعربية التي عرضت أخيراً، مثل "نزوح" لسؤدد كعدان، الذي يتشارك معها في ظهور فجوة في الجدار يتواصل عبرها الحبيبان، أما مكب النفايات في المخيم حيث ينبش الأطفال عما يمكن استغلاله، فهو أيضاً مسرح أحداث الفيلم العراقي "جنائن معلقة" لأحمد ياسين الدراجي، يمكن التعامل مع "رحلة يوسف" باعتباره حكاية هؤلاء الذين لم يبقوا تماماً ولم يرحلوا تماماً.
هذه حكاية الناس الذين لم ينجوا ولم يحققوا أحلامهم التي تتجاوز البقاء على قيد الحياة، وذلك على نقيض المصير الذي كتب للأختين السوريتين سارة ويسرى مارديني، اللتين صورهما فيلم آخر عُرض في مهرجان القاهرة بعنوان "السباحتان"، وإذا كان لكل مأساة وجهان، وجه حتمي ووجه خلاصي، فـ"رحلة يوسف" يرد الاعتبار إلى المنسيين كي لا يظلوا منسيين إلى الأبد.