ملخص
بعد توقفه العام الماضي نتيجة العدوان على غزة والتضامن الشعبي معها، عاد مهرجان "أيام قرطاج السينمائية" ليبصر النور مجدداً في دورته الـ35 التي تستمر حتى الـ21 من الشهر الجاري. لمرة جديدة، يحتضن المهرجان أنشطته في "مدينة الثقافة" بقاعاتها الجميلة والعصرية وباحاتها الواسعة، إلى جانب دور السينما المنتشرة في مختلف أنحاء وسط المدينة.
يُعدّ مهرجان "أيام قرطاج السينمائية" الأعرق عربياً، وقد أسسه الطاهر الشريعة عام 1966 ليكون منبراً للسينما العربية والأفريقية، ولطالما تميز بتفاعله المباشر مع الجمهور، في بلد يمتلك تاريخاً حافلاً وشغفاً كبيراً بالسينما، تشكل من خلال انتشار نوادي السينما في الستينيات والسبعينيات. وكثر من النقّاد لا يزالون يتذكرون الأفلام العربية التي شاهدوها وأجواء دخلوا فيها عند مشاركتهم في المهرجان خلال الثمانينيات.
منذ ساعات الظهيرة الأولى، تمتلئ القاعات بالجمهور الذي يأتي من مختلف الأعمار والخلفيات الاجتماعية، مما يخلق مشهداً حيوياً وحماسياً. وبعض العروض يصعب الدخول إليها بسبب نفاد التذاكر، مما ينسحب خصوصاً على الأفلام التونسية التي تحظى بشعبية كبيرة واهتمام واسع، على رغم عدم وجود صالات تجارية كثيرة في تونس تطيل من عمر تلك الأفلام.
غني عن القول إن المهرجان يتجاوز حدود النخبوية. هنا، السينما ليست شأناً خاصاً بالنقّاد أو بعض المحظوظين، إنها جزء من الحياة الثقافية لأناس يرغبون في الاكتشاف، مدفوعين بالفضول وحب المشاهدة. وهذا كله يجعل من "أيام قرطاج السينمائية" حدثاً متجذراً بعمق في الأرض التونسية. حدث شعبي بامتياز ينجح في استقطاب محبي السينما من الداخل والخارج من دون أن ينعزل عن الناس العاديين. إنه تجربة فريدة تجمع بين الاحترافية والبساطة، وتعكس شغف شعب كامل بالسينما كفن وثقافة.
في تونس المكبلة سياسياً تحت حكم الرئيس قيس سعيد، فلسطين ليست مجرد اسم، بل هي حضور دائم يلمسه كل من يتجول في شوارع تونس العاصمة. هناك جدار قرب إحدى المدراس، رُسمت عليه أعلام فلسطينية عدة مع شعارات تدعو إلى المقاومة. أما الكوفية، فتزين أعناق بعض ممن يشاركون في المهرجان الذي يعرض عشرات الأفلام من العالم العربي وأفريقيا. وفلسطين، بطبيعة الحال، ليست غائبة عن الشاشة الكبيرة أيضاً، علماً أن ضيفي الشرف هذا العام هما الأردن والسنغال. فالأفلام والكلمات التي ألقيت في حفلة الافتتاح حملت معها روح النضال الفلسطيني الذي يشغل التوانسة منذ عقود، وكأنه قضيتهم المركزية الأولى. وحتى في الاحتفالات التي عمّت الشوارع لمناسبة ذكرى الثورة أمس الثلاثاء لم ينسَ بعضهم علم الدولة الفلسطينية.
وكان المهرجان افتُتح بلحظات حملت فلسطين إلى الصدارة، مع عرض مقطع مصور يعكس مسيرة السينما الفلسطينية وارتباطها الوثيق بالنضال ضد الاحتلال. بعدها، اعتلت المغنية الفلسطينية دانا صالح المسرح وقدمت أغنيتين، لتؤكد أن فلسطين ليست حاضرة على الشاشة فحسب، بل كذلك في الموسيقى والأصوات التي تهتف من أجلها.
حتى فيلم الافتتاح جاء به المهرجان من فلسطين "ما بعد…" للمخرجة الفلسطينية مها الحاج (من فلسطينيي الداخل) الذي سبق له أن حصد جائزتين في مهرجان لوكارنو، ثم قُدِّم في كثير من المهرجانات الدولية قبل أن يجد طريقه إلى قرطاج. ينقلنا الفيلم إلى عالم هادئ ظاهراً لكنه مشحون بالأسئلة والقلق والريبة. ونتابع يوميات سليمان ومنى (محمد بكري وعرين العمري)، هما زوجان يعيشان في عزلة، بعيداً من إيقاع الحياة الحديثة، وبين الاعتناء بالطبيعة وأحاديثهما المتكررة عن أبنائهما الذين لا يظهرون البتّة، يزرع الفيلم فينا شعوراً بالشك والتساؤل. لكن تتبدل أجواء الفيلم بصورة مفاجئة مع مجيء صحافي شاب (عمر حليحل)، يسعى إلى التحدث مع الزوجين. عندها يأخذ الفيلم منعطفاً جديداً، فتُفتح الأبواب على حقائق أعمق، ويتحول الهدوء الظاهر إلى حال من الترقب والبحث عن إجابات وسط المجهول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"ما بعد…" انعكاس دقيق لمشاعر الخسارة، تلك المشاعر التي تتراكم بصمت داخل الإنسان، من دون أن يجد لها سبيلاً للتعبير. الألم هنا ليس وليد لحظة عابرة بل نتيجة تجارب وجودية تتعارض مع سنّة الحياة. للأسف، لا يمكن الافصاح عن الكثير في الفيلم، تجنباً لحرق المفاجأة التي تعتبر جزءاً مهماً من متعة المشاهدة. وعلى رغم الصراع الفلسطيني المستمر منذ الأزل والذي قد يتوقع بعضهم أن يهيمن على المشهد، فلا شيء من هذا كله، إذ إن الشعارات تغيب تماماً. لحظة صمت واحدة كافية أحياناً لالتقاط مأساة أجيال بأكملها. هذا الهدوء الخادع هو ما يميز أسلوب المخرجة مها الحاج التي عوّدتنا منذ أول أفلامها على الابتعاد من المباشرة السياسية، حتى لو لم يرُق هذا الأسلوب لبعضهم، فهي تختار أن تتجنب السينما التلقينية لتغوص عميقاً في الذات الفردية بعد عزلها عن مصيرها الجماعي. إنها سينما ترفض الحلول الجاهزة والردود السهلة المكررة، وتفضل الالتفاف حول الواقع بتوظيف الخيال لطرح الأسئلة، وهذا الالتفاف وهذه المسارات المتعرجة مما يمنح الفيلم جمالياته الخاصة.