بات واضحاً أن "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) حسمت أمرها في شأن طريقة إدارتها أكثر المعارك الحاسمة بالنسبة إلى وجودها، وذلك في ظل العملية البرية المزمع شنها من قبل الجيش التركي على الشمال السوري. وذهبت "قسد" إلى أبعد من التحضير لصد الهجوم التركي، وفجرت مفاجأة تمثلت بوقف نشاطها وتعاملها مع "التحالف الدولي" وسحبت نفسها من كونها رأس حربة في معركة مكافحة فلول "داعش" في شمال شرقي سوريا.
الانشغال بجبهة واحدة
وعزا قائد "قوات سوريا الديمقراطية"، مظلوم عبدي، وقف التنسيق مع التحالف إلى ما تتكبده قواته ومناطق السيطرة الكردية شمالاً، جراء قساوة الهجمات التركية المتواصلة التي منعت "قسد" من ملاحقة التنظيم المتشدد. وأضاف "يمكننا القول إن عملنا مع التحالف ضد داعش قد توقف، لأننا منشغلون بالهجمات التركية".
ويعني تصريح القائد العام لقوات "قسد" أن الباب بات مشرعاً أمام التكهنات بإعادة إحياء "داعش"، أكثر التنظيمات التي قاتلت على الأراضي السورية والعراقية منذ عام 2014 تشدداً، حتى سقوط آخر معاقلها في الباغوز، شرق دير الزور.
الخلايا النائمة والنشيطة
ويرى مراقبون بأن هذا التطور الجديد سيدفع بالتنظيم المتطرف ليطل برأسه من جديد ولن يخلو الأمر من نشاط له في شرق البلاد وجنوبها ووسط البادية السورية، حيث تركز خلالها خلاياه على حرب "كر وفر"، وتستخدم أساليب متنوعة منها الاعتماد على الأكمنة واستخدام المتفجرات والاحتماء بمخادع وأنفاق تحت الأرض. وأفادت مصادر قريبة من المجموعات المتطرفة عن تركز قياداتها في إدلب شمالاً وفي ريف درعا جنوباً حيث جرت معارك للإجهاز على أحد أمراء "داعش"، يلقب بـ"أبو طعجة"، وصادرت السلطات الأمنية مخابئ أسلحة ومتفجرات معدة للاستخدام.
في الأثناء، يتوقع اتباع خلايا "داعش" النائمة سيناريوهات عدة، بعد استئناف نشاطها وتوفر البيئة الداعمة لذلك، لا سيما الهجوم التركي. وستكون أولى خطواتها في هذا الشأن شن هجوم على السجون والمعتقلات لتحرير الآلاف من قيادييها وعناصرها المعتقلين. وهذا لن يحدث إلا في ظل هجمات تركية قاسية واجتياح يشغل "قوات الحماية الكردية" عن تأمين هذه المواقع الحساسة ويضع المعتقلات في مهب الريح.
وقد يتدفق مسلحو "داعش" من شرق البلاد إلى وسطها وجنوبها لمساندة ومؤازرة المجموعات التي تقاتل في أرياف درعا، بعد عملية خاطفة لجيش النظام السوري أنهى فيها الفلتان الأمني الذي عاشته المدينة في عدد من أحيائها أخيراً. ومهما كان المخطط أو السيناريو القادم، فإن من شبه المؤكد أنه سيعطي متنفساً لخلايا وعناصر متشددة تعيد تنظيم نفسها رويداً رويداً، لكنها وجدت نفسها اليوم في سباق مع الزمن لتغيير تكتيكها الميداني.
"داعش إلى زوال"
إزاء هذه الاحتمالات سارعت أنقرة التي لم يتوقف قصفها الصاروخي والجوي منذ تفجير إسطنبول الإرهابي في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، إلى ضبط سبعة عناصر من "داعش"، بينهم قياديون في مدينة جرابلس بريف حلب الشرقي، ما اعتبره مراقبون بمثابة رسالة لمن يود قراءتها تشير إلى قدرة الجيش والاستخبارات التركيين على تتبع خطر التنظيم، من دون التعويل على الفصائل الكردية المسلحة في ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، استبعد الباحث في شؤون الجماعات المتطرفة عمر رحمون أن يكون "داعش" قادراً على العودة في المنطقة من جديد. ورأى أنه "في أضعف صوره بل سيواجه نهاية وشيكة لا محالة"، كما اعتبر رحمون أن تصريحات قائد "قسد" مظلوم عبدي "تأتي من باب لفت النظر إلى الدور الذي تقوم به قواته، وأيضاً إلى أن التهديدات التركية ستحيي أخطار عودة داعش وتمنحه قبلة الحياة". وأردف أن "هذه لا تتعدى وخزات إبر مخدرة لم تعد تؤثر لا من قريب ولا من بعيد، داعش انتهت حكايته وباتت من الماضي، ويبدو أن واشنطن أعطت الضوء الأخضر لتركيا بشن هجومها".
مقابل ذلك، طالبت الولايات المتحدة عبر وزير خارجيتها أنتوني بلينكن بوقف فوري للتصعيد. وجاء على لسان الناطق باسم الخارجية، نيد برايس، في 24 نوفمبر الحالي، أن واشنطن تتفهم المخاوف الأمنية التركية المشروعة في ما يتعلق بالإرهاب، "لكننا في الوقت ذاته عبرنا باستمرار عن مخاوفنا الجدية إزاء تأثير التصعيد في سوريا، ومواجهة تنظيم داعش، على المدنيين على جانبي الحدود".
وفي معرض رده تطرق رحمون إلى المواقع الحساسة كالسجون والمعتقلات، والتي ستعطي رافداً لعودة قوية لـ"داعش"، فجزم بأن "الأمر متوقف حول ما تقتضيه المصلحة الأميركية، "فالسجناء يمكنهم تشكيل قوات إضافية تسعى لضرب مواقع الجيش النظامي أو المصالح الروسية في الشرق أو الجنوب، لذلك قد يكون هناك تمثيلية لإطلاق عناصر داعش، وفي غير ذلك ليس لأميركا مصلحة بإحياء التنظيم من جديد. مشروع إنشاء كانتون كردي بدأ بالتصدع ولن يستمر".
مواقع مدنية
في غضون ذلك، تشهد المنطقة توتراً غير مسبوق، مترافقاً مع شلل الحركة التجارية والمعيشية. وبدأت المخاوف من الحشد التركي للعملية البرية، مدعوماً بقوات من "الجيش الوطني السوري" المعارض، حيث تشي المعلومات الأولية باكتمال التحضيرات للتقدم براً بعد استكمال تحقيق الضربات الجوية أهدافها ومن المرجح الانطلاق من عدة محاور منها عين العرب ومحور ثان باتجاه تل رفعت.
يأتي كل ذلك بالتوازي مع تسيير طائرات من دون طيار، قصفت إحداها قاعدة للتحالف الدولي في شمال محافظة الحسكة تشرف عليها الولايات المتحدة. وتحتضن القواعد العسكرية في شرق سوريا قرابة 900 جندي أميركي.
وأعلن المتحدث باسم القيادة المركزية الأميركية الكولونيل جو بوشينو عن معارضة بلاده أي عمل عسكري يزعزع استقرار الوضع في سوريا. وقال "هذه التصرفات تهدد أهدافنا المشتركة ومن بينها قتالنا المستمر ضد تنظيم داعش".
في المقابل استهدف الجيش التركي 116 قرية وبلدة في سائر مناطق شمال وشرق سوريا وارتكب مجازر جماعية، وفق بيان صحافي لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، جاء فيه أن "الاحتلال التركي ارتكب جريمة حرب دولية باستهدافه البنية التحتية، وقدم الدعم لداعش الإرهابي من خلال الطائرات، التي تحاول إخراج مرتزقته من السجون والمخيمات، وقد تأكد ذلك من خلال الهجوم على مخيم الهول وسجن جركين".
وبالنتيجة فإن توقف "التحالف الدولي" و"قوات سوريا الديمقراطية" عن ملاحقة فلول "داعش" سيمنح التنظيم الفرصة السانحة لالتقاط أنفاسه، والبحث عن خطط بديلة غير تقليدية، وينهي الاختباء بجحور البادية هرباً من الملاحقة، وقصف الطائرات الروسية وقوى التحالف الدولي، ومن المتوقع أن يتغلغل بالمدن والمناطق المأهولة بالسكان للاحتماء من الضربات الجوية من جهة، وممارسة حرب شوارع من جديد من جهة ثانية.