في الوقت الذي تبذل فيه الحكومات والدول جهودا كبيرة في سبيل جذب الاستثمارات الأجنبية، تحولت تركيا إلى بلد طارد للاستثمار بفعل السياسات الاقتصادية التي تنتهجها إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان.
البنك المركزي التركي، وفي بيانات حديثة، أكد أن استثمارات بنحو 5.2 مليار دولار انسحبت من تركيا في شهر أبريل (نيسان) الماضي، فيما أعلن تقرير لبنك "أفرو آسيا" أن نحو 4 آلاف مليونير نزحوا من تركيا خلال العام الماضي.
وكشفت بيانات حديثة أعلنتها وزارة التجارة التركية، عن إغلاق أكثر من 15 ألف شركة محلية وأجنبية في تركيا خلال عام 2018. وقبل أيام، كان اتّحاد الغرف التجارية والبورصات التركي قد أشار إلى ارتفاع معدل إغلاق الشركات في البلاد، خلال مايو (أيار) الماضي، بنسبة 20.94 %، مقارنة بشهر أبريل (نيسان) الماضي.
وأوضح اتحاد الغرف والبورصات التركية أنه تم إغلاق 878 شركة، وانخفض عدد الجمعيات التعاونية بنسبة 36%، وعدد الشركات التجارية التابعة لأشخاص بنسبة 5.85%، وعدد الشركات المؤسسة بنسبة 0.34%.
فيما تراجع مؤشر الثقة بالاقتصاد التركي بنسبة 11% على أساس سنوي، خلال يونيو (حزيران) الماضي، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، متأثراً في ذلك بهبوط عديد من القطاعات الاقتصادية بسبب أزمة الليرة.
هروب القطريين ينفي ادعاءات "أردوغان"
وفيما يبرر الرئيس أردوغان وأعضاء حكومته حالة الهروب التي ترفعها الاستثمارات الأجنبية بأنها تأتي في إطار نظرية "المؤامرة" على تركيا التي يرى "أردوغان" أنها تواجه حرباً اقتصادية تقودها أميركا ودول الربيع العربي، جاءت التحركات الأخيرة للمستثمرين القطريين بسحب استثماراتهم من تركيا لتكشف أن ما يسوقه "أردوغان" ما هو إلا مبررات بعيدة تماماً عن الحقيقة، وأن الاقتصاد التركي يواجه مشاكل كبيرة فعلاً.
قبل أيام، تناولت وسائل إعلام عربية ودولية تقارير عن إقدام مستثمرين قطريين على سحب استثمارات بقيمة 4.6 مليار ليرة (807 ملايين دولار) من بورصة إسطنبول خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي.
وخلال شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي بلغ حجم المحفظة الاستثمارية الخاصة بالمستثمرين القطريين 14.745 مليار ليرة (2.586 مليار دولار)، غير أنها تراجعت في شهر مايو (أيار) الماضي بنحو 30.95% لتسجل 10.181 مليار ليرة (1.786 مليار دولار).
وفي منتصف العام الماضي، أعلن أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، عقب لقائه مع نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، عن استثمار بلاده نحو 15 مليار دولار في تركيا لدعم الاقتصاد. وعقب توقيع الاتفاق، أقدم البنك المركزي التركي على توقيع اتفاقية مقايضة ثنائية مع البنك المركزي القطري.
رؤوس الأموال الأجنبية تواجه تهديدات كثيرة
وفي ظل التهديدات التي تتعرض لها رؤوس الأموال الأجنبية في تركيا بسبب الانهيار الاقتصادي، اضطر عدد كبير من المستثمرين إلى اللجوء للخروج الآمن من السوق التركية متكبدين أقل خسائر، وهو الوضع الذي يثير علامات الاستفهام حول الوضع المتردي لمستقبل الاستثمارات في تركيا تحت وطأة حكم رئيسها الحالي رجب طيب أردوغان.
تقرير سابق أعدته صحيفة "زمان" التابعة للمعارضة في تركيا، أشارت إلى أن الارتفاع السريع في سعر الدولار والفائدة والديون يضيّق الخناق على الاقتصاد في تركيا، فمنذ مطلع العام الماضي يتعمّق بمرور الوقت التدهور المنعكس في المؤشرات الاقتصادية، موضحة أن التراجع العنيف في قيمة الليرة وتجاوز العجز الجاري حاجز الـ57 مليار دولار هذا العام وديون الشركات تسبب في هروب الكثير من الاستثمارات من السوق التركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً لدراسة أعدها مركز الهجرة الدولية للثروات، فإنه من بين 90 دولة، احتلت تركيا المرتبة الثانية ضمن أكثر الدول انكماشا للثروات بعد فنزويلا، التي سجلت تراجعا سنويا بلغ 25%، حيث تصدر كل من كراكاس وإسطنبول على التوالي، قائمة أسوأ الاقتصاديات بالعالم، كما تراجعت أسواق الأصول التركية خلال العام الماضي إلى مستويات قياسية بلغت 23%.
ودفعت المخاوف بعد قرار إعادة انتخابات إسطنبول، المستثمرين للهروب برؤوس أموالهم من السوق التركية، حيث يتسبب قرار إعادة الانتخابات في حالة من عدم التيقن بشأن خطة تركيا لإعادة التوازن والاستقرار إلى الاقتصاد.
كما أسهم قرار البنك المركزي التركي بتعزيز احتياطاته من النقد الأجنبي بمليارات الدولارات عبر الاقتراض قصير الأجل، في إثارة مزيد من القلق لدى المستثمرين من أن البلاد تبالغ في قدرتها على حماية نفسها، حال وقوع أزمة جديدة لليرة.
خبير: سياسة أردوغان وراء الأزمة الحالية
خبير الاقتصاد الكلي، الدكتور حسني إبراهيم، أكد أن "الأوضاع في تركيا أصبحت طاردة بالفعل للاستثمار بخاصة مع الأزمات التي يفتعلها الرئيس التركي، سواء فيما يتعلق بملف دعم الجماعات المتطرفة التي تقود دول العالم حرباً عليها، أو بسبب العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة والتي تفرض عقوبات على أنقرة بين فترة وأخرى".
وأوضح أن "الفترة الماضية شهدت محاولات كثيرة من جانب الحكومة التركية لجذب الاستثمارات الأجنبية، وكانت تعتمد في ذلك على علاقتها الخاصة ببعض الدول التي توافقها على سياستها مثلما حدث مع النظام القطري الذي أعلن استثمار 15 مليار دولار لدعم الاقتصاد التركي، لكن المؤشرات السلبية الكثيرة التي بدأت تظهر في تركيا دفعت إلى أن يتعامل المستثمرون بحذر وترقب والاتجاه إلى سحب استثماراتهم تخوفاً من خسائر كبيرة تنتظر الشركات. وبالفعل واجهت الشركات العاملة في تركيا خسائر عنيفة خلال العام الماضي، بخاصة مع خسائر الليرة مقابل الدولار، ومع وجود أسواق مستقرة وآمنة في المنطقة بدأ عدد من المستثمرين سحب استثماراتهم من تركيا والاتجاه بها إلى المناطق الأكثر أمناً في منطقة الشرق الأوسط".
ارتفاع التضخم يفاقم أزمات المنتجين والمستهلكين
ووفق استطلاع أجرته وكالة "بلومبيرغ"، توقع خبراء اقتصاد أن يشهد الاقتصاد التركي أزمة كبرى، حيث ترتفع أسعار المواد الاستهلاكية بوتيرة أسرع للشهر الثاني على التوالي، إلى جانب ارتفاع معدل التضخم السنوي بنسبة 20.4%.
وفي ظل هذه التوقعات، تصبح مسألة التخفيضات على أسعار الفائدة أمرا لا مفر منه رغم تحذير محافظ البنك المركزي "المعزول"، من احتمال تطبيق المزيد من التشديد النقدي، والذي أشار إلى أنه "قد يتم تطبيق تشديد إضافي على أسعار الفائدة لتحسين المشهد الاقتصادي".
وقال الخبير الاقتصادي في "دويتشه بنك"، كوبيلاى أوزتورك، إن "هناك فرصة لصعود مفاجئ للتضخم مدفوعا بتنامي أسعار المواد الغذائية، وهو ما قد يؤخر قضية تخفيضات أسعار الفائدة"، مضيفا "بمقدور التضخم السريع أن يؤثر سلبا على سلوك التسعير وتشكيل توقعات المستهلكين".
ورغم هذا الأداء السلبي، أبقى البنك المركزي التركي توقعاته الخاصة بالتضخم من دون تعديل لهذه السنة والسنة المقبلة، عند حدود 14.6 و8.2% على التوالي، ومن العقبات التي تحول دون تراجع التضخم في تركيا وفق خبراء اقتصاديين، فشل الحكومة في مراقبة أسعار المواد الغذائية وضبطها رغم الكثير من التهديدات والغرامات التي طبقتها على المخالفين، إذ تضخمت أسعار تلك المواد في الربع الأول من العام الحالي لما يقارب 30%، أي ما يمثل تقريبا ضعف تقديرات البنك المركزي.
تراجع عنيف في حجم الاستثمار الأجنبي
وفي بداية العام الحالي، سجل الاستثمار الأجنبي في تركيا تراجعاً بنسبة 22% في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي مقارنة بنهاية عام 2017. وقال البنك المركزي التركي إن مؤشر وضع الاستثمار الأجنبي الذي يرصد الفرق بين الأصول والالتزامات، سجّل أقل من 357.5 مليار دولار في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، مقارنة بنحو 462 مليار دولار في نهاية عام 2017.
وارتفعت الأصول التركية في الخارج بنسبة 0.4%، لتصل إلى 233.8 مليار دولار، في حين بلغت الالتزامات الخارجية 591.2 مليار دولار، ما يشير إلى تراجع بنسبة 14.9% خلال الفترة نفسها.
وتراجعت أصول الاحتياطي بنسبة 15.5% لتصل إلى 91 مليار دولار، في حين بلغ مجموع الاستثمارات الأخرى 90.9 مليار دولار، بزيادة بلغت نسبتها 18.9%.
"المركزي التركي" أكد أن العملة وودائع البنوك، وهي أحد البنود الفرعية للاستثمارات الأخرى، بلغت 47 مليار دولار، ما يشير إلى زيادة بنسبة 34.4% مقارنة بنهاية العام 2017. كما ذكر البيان أن الاستثمار المباشر بلغ في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي 129.5 مليار دولار، بانخفاض نسبته 33.9% عن نهاية عام 2017.
وانخفض إجمالي رصيد الديون الخارجية للمقرضين إلى 83.1 مليار دولار في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بتراجع 12.4% مقارنة بنهاية عام 2017. وبلغ إجمالي رصيد القروض الخارجية للقطاعات الأخرى 110.1 مليار دولار بزيادة 1.6%.
مبيعات عنيفة في عقارات تركيا
وبحسب هيئة الإحصاء التركية، تصدرت إسطنبول قائمة الولايات التركية الأكثر بيعاً للعقارات بـ235 ألفاً و55 وحدة سكنية، كان نصيبها 17% من إجمالي مبيعات قطاع العقارات خلال 2018.
وجاءت العاصمة أنقرة في المرتبة الثانية بـ131 ألفاً و161 وحدة سكنية، بنسبة 9.5% من إجمالي المبيعات في أنحاء البلاد، واحتلت ولاية إزمير المرتبة الثالثة في قائمة الولايات الأكثر بيعاً للوحدات السكنية، حيث بيع فيها 75 ألفاً و672 وحدة سكنية، بنسبة 5.5%.
وارتفعت كذلك نسبة مبيعات القطاع من الوحدات السكنية إلى الأجانب خلال العام الماضي 78.4%، مقارنة مع مبيعات عام 2017. وبحسب الإحصائية، بلغ عدد الوحدات السكنية المبيعة للأجانب العام الماضي 39 ألفاً و663 وحدة.
خليجياً، تفاقمت خسائر عقارات الكويتيين في تركيا، مع خسائر الليرة التركية، لتصل إلى نحو 150% من قيم شراء العقار، لمن اشترى قبل ثلاث سنوات، وذلك جرّاء تراجع قيمة الليرة التركية فقط، دون حساب أرباح أو خسائر العقار، فضلا عن إلغاء أو تجميد عشرات المشروعات الإنشائية في الأشهر الأخيرة.
وذكرت تقارير صحافية أن بعض المستثمرين الكويتيين وجدوا أنفسهم ضحية لتعثر شركات عقارية تركية، بينما تكافح العشرات منها لأجل دفع ديونها بالعملات الأجنبية، بعد انهيار العملة المحلية، في حين اضطرت العديد من الشركات إلى بيع ما لديها من وحدات بأقل من تكاليف البناء، في ظل تضخم عدد المنازل المتراكمة في السوق إلى نحو مليوني منزل، وهو ما يكفي لتغطية أربعة أضعاف متوسط المبيعات السنوية الجديدة في تركيا.
وربط البعض بين هذه الخسائر وبين المرسوم التركي الذي قضى بمنع إبرام عقود بيع العقارات وتأجيرها بالعملات الأجنبية، والذي كان له انعكاسات سلبية على ملاك العقارات الأجانب في تركيا، بخاصة أن ملاك العقارات الكويتيين كانوا يراهنون على بيع عقاراتهم بالعملة الأجنبية، لتعويض خسائر الليرة.