بعد كل انتخابات أميركية رئاسية أو نصفية تتردد تسمية "البطة العرجاء" على الرئيس الأميركي وحكومته أو على الكونغرس بمجلسيه، ولهذا يطلق على جلسات الكونغرس 117 الحالي بغرفتيه النواب والشيوخ "جلسات البطة العرجاء" بصرف النظر عما يقوم به من أعمال حتى انتهاء ولايته، فمن أين جاءت هذه التسمية؟ وهل يشير التاريخ إلى أنها جلسات غير فعالة أو مهمة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تختلف أنماط التصويت في الكونغرس خلالها؟ وما مشاريع القوانين المطروحة في "جلسات البطة العرجاء" الآن؟
متى يحدث ذلك؟
عندما لا يكون الرئيس الأميركي مرشحاً لخوض الانتخابات بشكل طوعي أو بسبب اكتمال ولايتي حكمه، أو عندما تظهر نتيجة الانتخابات خسارته، يعتبر الرئيس "بطة عرجاء" بعد انتخاب خليفته مباشرة، وتنطبق هذه التسمية أيضاً على أعضاء الكونغرس في ظروف مماثلة أي عندما لا يسعى الأعضاء لإعادة انتخابهم، أو عندما يهزمون في الانتخابات، ويظل كل عضو منهم "بطة عرجاء" حتى موعد الانعقاد الجديد، ووفقاً لإدارة خدمة الأبحاث في الكونغرس، فإن الجلسات التي تعقد بعد انتخابات الكونغرس المقبل ولكن قبل أن يصل الحالي إلى نهاية مدته الدستورية تسمى أيضاً جلسات "البطة العرجاء".
ومنذ عام 1935، بدأت المدة الدستورية للكونغرس في الثالث من يناير (كانون الثاني) من كل عام فردي وتنتهي في الثالث من يناير من العام الفردي التالي، ولهذا فإن أي اجتماع يحدث بين انتخابات مجلسي النواب والشيوخ في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذي الرقم الزوجي، والثالث من يناير التالي، هو جلسة "بطة عرجاء"، سمتها المميزة هي أن المشاركين فيها هم الأعضاء الحاليون في الكونغرس الحالي، وليس أولئك الذين يحق لهم الجلوس في الجديد.
معنى "البطة العرجاء"
يعود استخدام تعبير "البطة العرجاء" إلى القرن الثامن عشر في بريطانيا، حيث كان يطلق على التجار ورجال الأعمال المفلسين، الذين لم يتمكنوا من تمويل تجارتهم أو مشاريعهم بالتالي كانوا يعرجون من الناحية المالية مثل "البطة العرجاء"، أو الطائر الأعرج بعد إصابته برصاص الصياد، وبحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر اتسع استخدام المصطلح ليشمل أصحاب المناصب الذين يكون موعد انتهاء خدمتهم محدداً ومعروفاً للجميع، وهو ما انتقل في الاستخدام الأميركي الحالي إلى الرئيس وأعضاء الكونغرس عندما يصبح لخدمتهم موعد لنهايتها وللإشارة إلى الوقت الفاصل بين انتخاب الرئيس الجديد وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الجدد في الثلاثاء الثاني من نوفمبر وأدائهم اليمين الدستورية في يناير.
وقبل عام 1933 كانت هذه الفترة تستمر نحو ثلاثة أشهر، حيث يستأنف الكونغرس جلساته، يوم الإثنين الأول من ديسمبر (كانون الأول)، ويبدأ الكونغرس الجديد في الرابع من مارس (آذار) من السنوات الفردية، ولم يسمح طول جلسة "البطة العرجاء" بإجراء أعمال ذات مغزى في شأن المسائل المالية، كما تركت السياسيين في أماكنهم من دون أي مسؤولية أمام الناخبين لبضعة أشهر إضافية، وتسبب ذلك في مشكلات هائلة للرؤساء، فعلى سبيل المثال، كان أبراهام لنكولن عاجزاً بعد انتخابه رئيساً في نوفمبر عام 1860 عن التصرف في شأن انفصال سبع ولايات جنوبية عن الاتحاد، بينما لم يفعل رئيس "البطة العرجاء" جيمس بيوكانان سوى القليل لإرضاء الولايات الانفصالية، وبحلول الوقت الذي تولى فيه لينكولن منصبه في مارس 1861، كانت الولايات الانفصالية قد شكلت حكومتها الخاصة وتم تحديد مسار الحرب الأهلية.
لكن التعديل العشرين من الدستور الذي تم التصديق عليه في 23 يناير 1933 ودخل حيز التنفيذ في عام 1935، عالج هذا الخلل وأدى إلى تقصير الفترة بين انتخاب الرئيس وأعضاء الكونغرس وموعد بدء ولايتهم الدستورية، ومنذ ذلك الحين عقد الكونغرس 23 جلسة "بطة عرجاء".
دراما "البطة العرجاء"
وتختلف جلسة "البطة العرجاء" عن الجلسات التشريعية العادية من حيث إن بعض الأعضاء سيكونون قد خسروا مقاعدهم الانتخابية، والبعض الآخر على وشك التقاعد الاختياري، وهو ما يعني لكثيرين أن مجرد وجود هؤلاء هو دليل ظاهر على أن الجلسات غير مرغوب فيها، وبحسب ما يقول بروس أكرمان أستاذ القانون بجامعة "ييل" الأميركية، فإنه من غير الديمقراطي تماماً أن يشرع النواب المرفوضون القوانين باسم الشعب الأميركي، غير أن قوة هذا النقد تضعفه حقيقة أن الغالبية العظمى من الأعضاء يفوزون بإعادة انتخابهم، فمنذ عام 1962 خسر ستة في المئة فقط من النواب و13 في المئة من أعضاء مجلس الشيوخ إعادة انتخابهم، وفي المتوسط يتقاعد نحو خمسة في المئة فقط من الأعضاء.
وعلى رغم تسمية "البطة العرجاء" التي توحي بالعجز فإن بعض جلساتها على مر التاريخ لم تفتقر إلى الدراما، ووفقاً للمركز الوطني للدستور فقد سجلت جلسات "البطة العرجاء" نقاشات وقرارات حاسمة، فقد اجتمع الكونغرس عام 1940 ليقرر كيفية مواجهة تهديد الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1950 دخلت القوات الصينية الحرب الكورية خلال جلسة "البطة العرجاء"، وناقش الكونغرس استخدام الأسلحة النووية في الصراع، وبعد أربع سنوات اجتمع مجلس الشيوخ في جلسة "بطة عرجاء" للنظر في توبيخ السيناتور جوزيف مكارثي الذي قاد حملة ضد المثقفين والسياسيين الذين يشتبه في ميولهم اليسارية.
وفي عام 1974 وافق الكونغرس على ترشيح نيلسون روكفلر لمنصب نائب الرئيس خلال جلسة "البطة العرجاء"، وبعد فوز الرئيس رونالد ريغان عام 1980 توافق كونغرس "البطة العرجاء" من الحزبين لتمرير قرارات الميزانية التي تم تأخيرها خلال عام الانتخابات، وفي عام 1998 وافق مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون على بنود مساءلة الرئيس بيل كلينتون تمهيداً لعزله في قضية جنسية مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي.
ماذا يفعل رؤساء "البطة العرجاء"؟
لكن رؤساء "البطة العرجاء" الذين يتمتعون بالصلاحيات نفسها التي يتمتع بها باقي أعضاء إدارتهم يمكنهم إصدار أوامر تنفيذية واتفاقيات، ويمكنهم إصدار أوامر لبقية السلطة التنفيذية، ومع ذلك فإن المشكلة التي تواجه الرئيس في هذا الوضع هي أنه في كثير من الأحيان لا يكون الفرع التنفيذي موجوداً بسبب تفضيلهم الاستمتاع بما تبقى من إجازاتهم أو بسبب رغبتهم في الابتعاد عن السلطة في الأيام الأخيرة لولايتهم.
وتعد إحدى الصلاحيات الأخيرة للرئيس التي غالباً ما يتم التذرع بها في عصر "البطة العرجاء" هي سلطته الحصرية في منح العفو، فقد تعرض الرئيس المنتهية ولايته بيل كلينتون لانتقادات واسعة لإصداره 140 عفواً رئاسياً في نهاية فترة ولايته، ولا يزال الجدل القانوني والدستوري قائماً حول ما إذا كان بإمكان الرئيس العفو عن نفسه خلال جلسة "البطة العرجاء"، لأنه لم يتم طرح هذا السؤال في المحاكم بعد.
كيف يتعامل كونغرس "البطة العرجاء"؟
رسمياً، تنتهي جلسة الكونغرس عندما يتم رفع الجلسة إلى أجل غير مسمى أي من دون يوم محدد للعودة، وهذا من شأنه أن يغلق اليوم الأخير من الجلسة التشريعية حتى اليوم الذي يحدده الدستور لعقد دورته التالية في يناير، لكن بموجب التعديل العشرين من الدستور يمكن أن تعقد جلسات "البطة العرجاء" نتيجة لإجراءات محددة اتخذها إما الكونغرس المنعقد بالفعل بشكل مسبق من خلال قانون أو من قبل الرئيس.
وقد تنعقد الجلسة أيضاً عندما تستخدم قيادة مجلس النواب أو مجلس الشيوخ السلطة الطارئة لإعادة عقد المجالس المعنية إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك، ومن بين أسباب استدعاء القيادة للكونغرس مرة أخرى هو منع تعيينات الرئيس كبار موظفي إدارته خلال فترة العطلة، أو للنظر في اقتراحات توجيه المساءلة، أو من أجل الحيلولة دون استخدام الرئيس ما يسمى "فيتو الجيب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وينص الدستور على أنه إذا استخدم الرئيس حق النقض ضد مشروع قانون أثناء انعقاد جلسة الكونغرس، فيجب عليه إعادة مشروع القانون الذي تم نقضه حتى يحاول الكونغرس تجاوز حق النقض بغالبية الثلثين في المجلسين، ومع ذلك إذا تم تأجيل الجلسة العادية الأخيرة إلى أجل غير مسمى فلن يتمكن الكونغرس الذي أقر مشروع القانون من الانعقاد لتجاوز حق النقض، بالتالي يصبح حق النقض نهائياً بشكل تلقائي، وفي هذه الظروف يخول الدستور للرئيس منع مشروع القانون من أن يصبح قانوناً بمجرد عدم إعادته لأن الكونغرس غير منعقد، ويطلق على هذا الإجراء "نقض الجيب"، ومع ذلك ركزت معظم جلسات "البطة العرجاء" في السنوات الأخيرة على تشريعات الاعتمادات المالية وتفويض الوكالات الفيدرالية.
أنماط تصويت أعضاء "البطة العرجاء"
وفقاً لدراسة أجراها مركز "ميركاتوس" بجامعة "جورج ميسون" الأميركية، فإن حوافز التصويت لدى عديد من أعضاء الكونغرس الذين يتقاعدون أو يخسرون إعادة انتخابهم تتغير لعدد من الأسباب، إذ يشعرون بأنهم أقل التزاماً بخدمة مصالح ناخبيهم لأنهم لم يعودوا بحاجة إلى دعمهم لإعادة الانتخاب، وينتج عن ذلك تصويتهم في جلسات "البطة العرجاء" على أساس المبادئ والأيديولوجيا وليس على أساس الالتزام الحزبي، إذ يتمتع المشرعون المغادرون بحرية تجاهل أي صفقات سياسية أبرموها مع زملائهم الأعضاء أو مع قادة الأحزاب.
وتجعل بيئة "البطة العرجاء" بعض المشرعين أكثر عرضة للتصويت للمصلحة العامة بدلاً من المصالح الخاصة، مما يجعلها نافذة زمنية مهمة يكون فيها إصلاح السياسات ممكناً في بعض الأحيان، وعلى سبيل المثال وافق مجلس الشيوخ على جولة أوروغواي للاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات الجمركية "الغات" خلال جلسة عام 1994، مما أدى إلى تعزيز التجارة الحرة على رغم أن المجلس رفض خلال الدورة العادية في ذلك العام الاتفاقية نفسها، لكن أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين الذين لم يكونوا مستعدين للتصويت لصالح مشروع القانون خلال الجلسة العادية، تعرضوا لضغوط أقل لدعم الإجراءات الحمائية للصناعات المحلية.
وفي حين أن جلسة "البطة العرجاء" يمكن أن تكون الوقت المثالي لتمرير التشريعات التي تخدم عامة الناس بدلاً من المصالح الخاصة، إلا أن هناك استثناء مهماً لهذه القاعدة، فقد يكون أعضاء الجلسة الذين سيدخلون القطاع الخاص بعد المغادرة مدينين بالفضل لمصالح صاحب العمل التالي وهو ما تحقق عملياً في السابق، إذ أيد مشرعو "البطة العرجاء" بغالبية ساحقة اقتراح الرئيس وارن هاردينغ المثير للجدل لدعم بناء السفن التجارية الأميركية، وبعد تركهم لمنصبهم كافأ هاردينغ عديداً منهم بالتعيينات الإدارية.
كونغرس "البطة العرجاء" الحالي
بحسب موللي رينولدز كبيرة الباحثين في معهد "بروكينغز" في واشنطن، من المحتمل أن تكون هناك مسألتان ماليتان محط تركيز رئيس في الأسابيع الأخيرة من الكونغرس الحالي، وهما إنجاز مشروع قانون شامل للإنفاق وتقرير ما إذا كان سيتم التعامل مع سقف الدين الأميركي أم لا، فمن ناحية ينتهي الإجراء الحالي لتمويل البرامج الفيدرالية في 16 من الشهر المقبل، مما يتطلب تجنب الإغلاق الجزئي للحكومة واتخاذ إجراء قبل هذا الموعد النهائي، بعد أن ضغط الجمهوريون في مجلسي النواب والشيوخ في سبتمبر (أيلول) الماضي من أجل إقرار إجراء موقت حتى يناير 2023 تحسباً لغالبية جديدة لها أولويات إنفاق مختلفة.
وبالنظر إلى الغالبية الجمهورية الضيقة في مجلس النواب سيحتاج الديمقراطيون أيضاً إلى تقرير ما إذا كانوا سيحاولون معالجة سقف الديون في جلسة "البطة العرجاء" أو تركه على جدول الأعمال للعام المقبل، وبخاصة مع ضرورة معالجة حد الدين في وقت ما في الربع الثالث من عام 2023، بينما تشير الدروس المستفادة من التحول الأخير إلى غالبية مجلس النواب الجمهوري في ظل رئيس ديمقراطي إلى محاولة جمهورية لعقد صفقة بخفض الإنفاق الحكومي مقابل رفع سقف الدين وهو ما قد يؤدي إلى مواجهة.
وفي حين تظل القضايا المالية في الصدارة لا يزال عديد من البنود التشريعية الأخرى جاهزاً لاتخاذ مزيد من الإجراءات، منها ما تم إقراره في جلسة "البطة العرجاء" مثل تقنين الاعتراف الفيدرالي بزواج المثليين، ومنها ما ينتظر مثل إصلاحات قانون العد الانتخابي، وتقديم مساعدات إضافية لأوكرانيا، وتمويل مكافحة جائحة "كوفيد-19" المستمرة وتمديد الأحكام الضريبية المنتهية الصلاحية.