ساد القلق الدولي في شأن الأسلحة النووية بعد تهديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدامها في الحرب الأوكرانية. وعادت الأنظار للتوجه نحو المعاهدات المنظمة للحد من الانتشار النووي التي تلزم أطرافها عدم إنتاج أسلحة نووية. وبينما ترتبط واشنطن وموسكو اللتان تستحوذان على نحو 90 في المئة من الأسلحة النووية بالعالم بمعاهدات ستارت 1 و2 الخاصة بتفكيك الأسلحة النووية فإن الدول المعنية ترصد المليارات لتحديث ترساناتها.
فرنسا كشفت عام 2018 عن خطة لإنفاق نحو 37 مليار يورو لصيانة ترسناتها النووية وتحديثها بين عامي 2019 و2025، أي أكثر من 10 في المئة من كلفة الموازنة العامة في ما يتعلق بقانون التخطيط العسكري على مدى السنوات السبع.
ووفق تقارير سابقة فإن الولايات المتحدة ستكون أنفقت نحو 600 مليار دولار بحلول عام 2030 لتحديث ترسانتها النووية ضمن خطة أطلقتها في 2014، ووفقاً لباحثين في اتحاد العلماء الأميركيين فإن "جميع الدول المسلحة نووياً لديها برامج طموحة لتحديث أسلحتها النووية. ويبدو أنها تهدف إلى إطالة العصر النووي إلى أجل غير مسمى".
بحسب معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام تمتلك تسع دول هي الولايات المتحدة وروسيا والصين وإسرائيل والمملكة المتحدة وفرنسا والهند وباكستان وكوريا الشمالية معاً حوالى 13400 سلاح نووي، وأشار التقرير السنوي للمعهد إلى أن "كل هذه الدول إما تطور أو تنشر أنظمة أسلحة جديدة أو أعلنت عزمها على ذلك"، فكل من الولايات المتحدة وروسيا تنفقان أكثر وتعتمدان بشكل أكبر على الأسلحة النووية في التخطيط العسكري المستقبلي وتسعى الصين إلى اللحاق بهما. كما تواصل كوريا الشمالية إعطاء الأولوية لبرنامجها النووي العسكري وتجري اختبارات "صواريخ باليستية" متعددة.
أنتجت معظم الأسلحة النووية الموجودة في مخزون الدول النووية، بخاصة روسيا والولايات المتحدة خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. في وقت إنتاجها الأصلي لم تكن الأسلحة النووية مصممة أو يقصد لها أن تدوم إلى أجل غير مسمى، ومن ثم باتت تعمل القوى النووية على عمليات تحديث دورية لضمان بقاء ترساناتها فاعلة وآمنة. فما هي عملية التحديث هذه التي تكلف الحكومات المليارات وهل هناك تاريخ صلاحية للأسلحة النووية؟
صيانة أم إحلال؟
في الولايات المتحدة جزء من الحفاظ على مخزون الأسلحة النووية الأميركي آمناً وفاعلاً يشمل التعاون بين الإدارة الوطنية للأمن النووي ووزارة الدفاع من خلال مجلس الأسلحة النووية بهدف الحفاظ على كمية الأسلحة اللازمة لحاجات الأمن القومي ونوعيتها.
تدير وزارة الدفاع الأنظمة والمنصات التي تنقل الرؤوس الحربية والقنابل النووية مثل الغواصات والطائرات ذات القدرات النووية وأنظمة الصواريخ وأنظمة القيادة والسيطرة والاتصالات النووية، فيما تُعنى الإدارة الوطنية للأمن النووي، وهي جزء من وزارة الطاقة، عملية تحديث الرؤوس الحربية والقنابل النووية، فضلاً عن البنية التحتية والقدرات اللازمة لإنتاج هذه الأسلحة وصيانتها وتستثمر الأخيرة مليارات الدولارات في البنية التحتية اللازمة للحفاظ على المخزون النووي وتحديثه، بما في ذلك المرافق الجديدة والمعدات الحديثة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على مدى نصف القرن الماضي حافظت واشنطن على ترسانتها التي يبلغ قوامها 5400 رأس نووية عن طريق استبدال الأجزاء البلاستيكية والمطاطية التالفة، لكن الجزء الأكثر أهمية من الرأس الحربي (قلبه المشع المتفجر) يتحلل بشكل طبيعي بمرور الوقت. ووفقاً لتقرير يعود لعام 2006 صادر عن "جاسون" وهي مجموعة استشارية علمية مستقلة للحكومة الأميركية فإنه يمكن الاعتماد على الرؤوس الحربية تلك حتى عام 2091، ومن ثم فإن النوى المتحللة للرؤوس النووية ستترك الترسانة النووية الأميركية ضعيفة. ومنذ ذلك الحين يضغط الخبراء على الكونغرس لتمويل بدائل للرؤوس الحربية القديمة.
قبل أعوام قليلة تنبه مسؤولو الدفاع الأميركيون إلى أن التحديث النووي الأميركي متخلف عن تطوير روسيا لثالوثها النووي، إذ أكد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الحاجة إلى ضمان أن تكون الترسانة النووية الأميركية "سابقة خطوة". وبالفعل منحت وزارة الدفاع في أغسطس (آب) 2017 شركتي "بوينغ" و"نورثروب غرومان" عقدين منفصلين لمواصلة أعمال التطوير لمنظومة الصواريخ "مينيتمان 3" الباليستية العابرة للقارات المتقادمة، كما منحت شركتي "لوكهيد مارتن" و"رايثيون" عقدين منفصلين بقيمة 900 مليون دولار لمواصلة العمل لاستبدال الصاروخ "إيه جي إم - 86 بي" الموجه النووي الذي يطلق من الجو. وأفاد تقرير نشره مكتب الموازنة في الكونغرس آنذاك بأن صيانة الترسانة النووية الأميركية على مدى الـ30 عاماً المقبلة سيكلف أكثر من 1.2 تريليون دولار.
استبدال أنظمة
بالنسبة إلى روسيا، يشير معهد استوكهولم إلى أنه في إطار برنامج تحديث خططه موسكو بين 2011-2020 خضعت الصواريخ الباليستية الروسية العابرة للقارات لتحديث كبير شمل استبدال أنظمة قديمة تعود للحقبة السوفياتية بأخرى حديثة من طرازات "أر إس-12-إم1" و"إم2 توبول-إم" المصنفة باسم "إس إس-27 مود1" من قبل منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ثم صاروخ "أر أس-24 يارس" أو "إس إس-27 مود2"، فما مجموعه 102 من النظام الأخير كان في الخدمة بحلول أوائل عام 2018. كما جرى تحديث الغواصات الاستراتيجية النووية. وفي 2018، اعتمد برنامج تسليح روسي جديد يمتد حتى عام 2027، يشمل الحصول على صواريخ باليستية عابرة للقارات من طراز "أر أس-24" وصاروخ جديد متعدد الرؤوس ليحل محل آخر مع استمرار تحديث وتطوير صواريخ أخرى تعود للحقبة السوفياتية.
بيد أن الأمر لا يتعلق بالتنافس بين الولايات المتحدة وروسيا فحسب، فبينما استهدفت إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن تقليص مخزون الأسلحة النووية، فإنه سرعان ما عدلت الإدارة عن قرارها وسط تقديرات استخباراتية أميركية تفيد بتوسيع الصين مخزونها من الأسلحة النووية.
ونشرت مجلة "تايم" الأميركية في وقت سابق من العام الحالي تحقيقاً بعنوان "داخل مهمة الـ100 مليار دولار لتحديث الصواريخ النووية الأميركية المتقادمة"، نقلت فيه عن مسؤول في إدارة بايدن قوله، "عندما تراقب الصين وهي تتوسع بسرعة وتتطلع إلى مضاعفة عدد الأسلحة التي تمتلكها ثلاث مرات، لا يبدو من المناسب أن تسعى الولايات المتحدة من جانب واحد إلى خفض (ترسانتها) في هذه المرحلة الزمنية" وتعزز هذا الرأي بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.
وقال وزير الدفاع السابق والسيناتور الجمهوري عن نبراسكا تشاك هاغل إنه إذا قررت الولايات المتحدة أنها بحاجة إلى الاحتفاظ بصواريخها الأرضية، فعليها أن تمول سلاحاً جديداً بدلاً من الاستمرار في ضخ المليارات بالأسطول الحالي، مضيفاً، "تحتاج الأمة إما إلى استبدال هذه الأنظمة أو التخلص منها".
وترفض بكين الانضمام إلى واشنطن وموسكو في أي معاهدة نووية، وقبل عامين رد سفير الصين لدى الأمم المتحدة تشانغ جون على مطالب الولايات المتحدة لبلاده بأن تكون طرفاً في معاهدة نزع الأسلحة النووية، قائلاً "أعتقد بأن الجميع يعرف أن الصين ليست على المستوى ذاته للولايات المتحدة والاتحاد الروسي في ما يتعلق بالأسلحة النووية". وبحسب معهد استوكهولم ففي حين تمتلك كل من الولايات المتحدة وروسيا حوالى 1550 سلاحاً منتشراً طويل المدى، فإن الصين تمتلك حوالى 300 قطعة وتقف في منتصف عمليات تحديث مهمة لترسانتها النووية، بحيث تعمل على تطوير ما يسمى "ثالوثاً نووياً" يتكون من صواريخ برية وبحرية جديدة وطائرات قادرة على حمل الطاقة النووية.
وبينما يتضح أن الدول لا تسعى فقط إلى صيانة ترساناتها النووية بل تحديثها بإحلال المتقادم بما هو أكثر تطوراً في ما يشبه سباق تسلح خفياً، تقول دورية "نشرة علماء الذرة" العلمية الأميركية إنه في حين يؤمن دعاة نزع السلاح بأن هذا التحديث يتعارض بالأساس مع الهدف الرامي إلى القضاء على الأسلحة النووية تجادل الدول الحائزة الأسلحة النووية بأنه ما دامت توجد أسلحة نووية فلا بد من تحديث هذه الترسانات من أجل الحفاظ على سلامتها وأمنها وفاعليتها.