في أعقاب الانتخابات النصفية الأخيرة التي خيبت آمال الجمهوريين، بعد الفشل في استعادة مجلس الشيوخ والفوز المتواضع بمجلس النواب، توجهت الأنظار إلى دونالد ترمب، الذي حضر ليوم الانتخاب بدعوة مقربيه إلى قصره في فلوريدا، حيث نصب عدداً من شاشات التلفزيون في قاعة ضخمة لمشاهدة النتائج.
أوحت تجهيزات تلك الليلة بأن ساكن مارالاغو لم يكن يترقب غير فوز يعيد تقديم نفسه إلى أميركا، ويؤكد مكانته كصانع للملوك في حزبه المنقسم، إلا أن النتائج لم تبتسم له، فالموجة الحمراء التي كان الجمهوريون يؤملون أنفسهم بها صارت حلماً مؤجلاً، وعدد من الولايات المتأرجحة التي تنافس عليها الحزبان، ابتلعها المد الديمقراطي الأزرق واحدة تلو الأخرى، ليجد ترمب نفسه في مرمى نيران بعض الجمهوريين الذين حملوه مسؤولية الأداء المخيب.
الجميع يستحق اللوم
دافع هؤلاء الجمهوريون عن رأيهم حول دور ترمب "المدمر" للحزب، قائلين إنه دعم مرشحين غير مؤهلين فقط لأنهم يتبنون طرحه حول سرقة الانتخابات، وإنه لم يعد ترمب 2016 الذي أراد إعادة الحزب إلى قلب المنافسة بل هو المرشح الخاسر في 2020 الذي بات لا يرى غير نفسه ولا يريد إلا استعادة كبريائه المكسور، بعد هزيمته أمام رجل ما زال لا يعترف بأحقيته ولا أهليته.
وكما كان متوقعاً استنكر أنصار ترمب من النخب وخارجها لعبة اللوم هذه على نطاق واسع، إلا أن اللافت أن معارضين للرئيس السابق نفسه، عدوا لوم بعض القادة الجمهوريين له وتحميله مسؤولية الهزيمة الأخيرة كاملة "تهرباً" من مواجهة الحقيقة المتمثلة في أنهم طرف في خسارة الانتخابات النصفية الماضية، كما كانوا طرفاً في فوز ترمب نفسه بالرهان الرئاسي الأول.
أحدهم ديفيد فروم، كاتب خطابات جورج دبليو بوش السابق، الذي يزعم أن الحزب الجمهوري في مأزق لا طريق للخروج منه غير أن يتحلى قادته بالشجاعة لحسم موقفهم حيال ترمب. يرفض فروم تصوير الرئيس السابق بأنه المسؤول الوحيد عن خسارة الانتخابات النصفية، قائلاً إن جميع الجمهوريين يستحقون قدراً من اللوم، كونهم كانوا قادرين على الامتناع عن تأييد المرشحين الذين دعمهم خلال الانتخابات الداخلية.
هذا ناهيك بفشل الحملة الانتخابية لاستعادة مجلس الشيوخ التي قادها ريك سكوت السيناتور الجمهوري الذي جمع أكثر من 180 مليوناً من دون عوائد سياسية ملموسة للحزب في الانتخابات الأخيرة. في ضوء دور سكوت المحوري، يتساءل فروم من الأكثر استحقاقاً للوم، ترمب أم سكوت الذي دفع نحو تقليص الإنفاق على برامج الأمن الاجتماعي والرعاية الصحية؟
ويعدد فروم جمهوريين آخرين لم ينالوا نصيباً كافياً من اللوم على الرغم من دورهم المؤثر، كالسيناتور ليندسي غرام، الذي اقترح حظر الإجهاض على المستوى الوطني، من دون مراعاة أثر ذلك على حظوظ الحزب، خصوصاً أنه أدلى بتصريحاته بعد قرار المحكمة العليا الذي ألغى حق الإجهاض قبل أشهر قليلة من الانتخابات النصفية، ورسخ القضية في قائمة أهم ثلاث قضايا تشغل بال الناخب الأميركي.
ومن هذا المنطلق، اعتبر الكاتب في مجلة "ذا أتلانتك" حجة الحزب الجمهوري للوقوف في وجه ترمب بأنه كان ناجحاً في السابق إلا أن الحزب اليوم بحاجة لوجه جديد، غير مقنعة. وقال، "إذا كان الجمهوريون يعتقدون أن ترمب كان ناجحاً، وما زال قادراً على الترشح مجدداً، فلم لا يدعموه؟" وعوضاً عن هذه الحجة الضعيفة على حد رأيه، اقترح أن تكف النخبة الجمهورية عن الاختباء والتهرب، وتواجه ترمب إذا كانوا يرون أنه غير صالح للترشح من جديد، مختتماً مقالته بالقول، "إما القتال أو الاستسلام، إذ أراد الجمهوريون نتيجة مختلفة فعليهم تغيير سلوكهم، إذ لا يمكن حل هذه المعضلة عبر نهج جبان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ترمب المرشح المفضل
رغم ذلك، ما زال ترمب هو المرشح المفضل لدى غالبية الجمهوريين، إذ أظهر استطلاع لـ"مورننغ كونسلت" أن مؤيدي ترمب بلغوا نحو 48 في المئة من إجمالي الناخبين الجمهوريين بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، مقابل 26 في المئة لصالح منافسه المحتمل رون دي سانتيس، حاكم فلوريدا الشاب الذي يخشى ترمب من تمرده، في حين رفض 26 في المئة الاصطفاف مع أي منهما.
ومن المحتمل أن تمثل هذه الإحصاءات عقبة أمام الجناح الجمهوري الراغب في إزاحة ترمب، وفتح صفحة جديدة من دون الرئيس السابق الذي أقلق قادة الحزب بأسلوبه غير التقليدي. في المقابل، لن يكون ترشح ترمب مرة أخرى حدثاً عابراً للديمقراطيين، الذين انتزعوا منه مفاتيح البيت الأبيض بصعوبة في عام 2021 بعد انتخابات فاز فيها مرشحهم جو بايدن بهامش ضئيل.
لكن الاستطلاع الأخير ليس في صالح ترمب على إطلاقه، فهو يظهر تراجع مستوى تأييده خلال السبعة أشهر الماضية من 54 في المئة إلى 48 في المئة، مع ارتفاع ملحوظ في شعبية دي سانتيس، الذي أعيد انتخابه حاكماً لفلوريدا بعد فوز كاسح في الانتخابات بفارق 20 نقطة عن أقرب خصومه، دفعه إلى تحدي الرئيس السابق ضمناً، قائلاً "إننا لم نفز فقط في الانتخابات، بل أعدنا كتابة الخريطة السياسية"، الأمر الذي أجبر ترمب على تحذير دي سانتيس من شق الصف الجمهوري، وتهديده بالكشف عن معلومات تضع مستقبله السياسي على المحك.
لهجة أكثر تحفظاً
وعلى الرغم من أن ترمب ما زال يحتفظ بشعاره الرائج "أميركا أولا"، فإن أحاديث بعض الجمهوريين حول رغبتهم في وجه جديد يعيد الهدوء والاتزان إلى الحزب يبدو أنها لقت آذاناً صاغية لدى الرئيس السابق الذي أظهر بحسب مراقبين خلال إعلانه الأخير للترشح للرئاسة عام 2024 درجة نادرة من الانضباط الذاتي، فوفق ديفيد فروم، تحدث ترمب باحترام نسبي عن الأقليات العرقية والنساء، ولم يكرر مزاعمه حول سرقة الانتخابات، التي رددها طوال العامين الماضيين، كما خصص جزءاً من كلمته للإشادة بزوجته وعائلته وأنصاره.
لكن ليس من الواضح بعد ما إذا كان هذا التحول كافياً لينجح ترمب في رهانه الرئاسي بينما تتكالب عليه المعارك القانونية، بدءاً من التحقيق في دوره في اقتحام الكونغرس يوم السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي، ووصولاً إلى قضية احتفاظه بوثائق حكومية سرية في منزله في فلوريدا. وفي حال اعتمد الجمهوريون على الرئيس السابق، فمن الممكن ألا تؤثر تبعات هذه المعارك سلباً في ترمب وحده، بل قد تضرب حظوظ الحزب بأكمله.
وحتى مع "الانضباط الذاتي" الذي لاحظه البعض على ترمب في الآونة الأخيرة، وتجلى في تجنبه العودة للتغريد عبر "تويتر"، فإن عواصف الجدل تأبى إلا أن تلاحق الرئيس السابق، خصوصاً بعد لقائه نيك فوينتيس وكانييه ويست المتهمين بمعاداة السامية، ما أثار ردود فعل منددة من الجمهوريين قبل الديمقراطيين، وفي مقدمتهم زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتشل ماكونيل، ونائب الرئيس السابق مايك بنس الذي طالب ترمب بالاعتذار.