سنوات طويلة مرت على تحقيقه لفيلمه الأول "ليالي ابن آوى" -1989، منذ ذلك الوقت عرفت سينما عبد اللطيف عبد الحميد بخصوصيتها الريفية، وميلها نحو بساطة السرد والتكوين البصري، وشخصياتها الفطرية المرحة، مع الحفاظ على الاشتباك مع الواقع من دون إزعاج مباشر للسلطة.
مخيلة طفل لطالما استلهم منها المخرج السوري 15 فيلماً روائياً كتب جميع سيناريواتها بنفسه، مستوحياً أحداثها من سيرته الذاتية بما عرف بموجة "سينما المؤلف" التي يشكل عبد اللطيف مع محمد ملص وأسامة محمد أبرز أسمائها.
تبرز موجة سينما المؤلف في سوريا انزواء كل مخرج بتصوير بيئته القادم منها، فعبد اللطيف عبد الحميد وأسامة محمد قدما أفلامهما عن بيئة الساحل السوري، ومثلهما غسان شميط ورياض شيّا حققا أفلاماً عن بيئة جبل العرب، فيما قدم محمد ملص أبرز أفلامه عن مدينته القنيطرة. هكذا بدت سينما المؤلف في معظمها عبارة عن أفلام تروي قصصاً ومذكرات من مناطق مخرجيها، بينما تغيب سينما سوريا جامعة، إلا ما قدمه نبيل المالح في فيلمه "الفهد" عن رواية لحيدر حيدر، وسمير ذكرى في فيلمه "حادثة النصف متر"، وما استطاع كل من باسل الخطيب وجود سعيد ومحمد عبدالعزيز تحقيقه أخيراً في أفلامهم المنتجة في العقد الثاني من الألفية الراهنة.
جائزة قرطاج
في تجربته الأخيرة ترك عبدالحميد هذه الشراكة مع نفسه، لينجز بالتعاون مع الكاتب الراحل عادل محمود (1946-2022) سيناريو فيلمه الجديد "الطريق" (جائزة أفضل سيناريو في مهرجان قرطاج السينمائي)، لا يشي عنوان الروائي الطويل (المؤسسة العامة للسينما) بأفلام سينما الطريق (رود موفي) التي أصبحت أقرب إلى تيار فني في السينما العربية والدولية، فالفيلم لا قرابة له بهذا النوع من الأشرطة التي اتخذت "الطريق" عنواناً ومكاناً رئيساً لأحداثها، فلا حل ولا ترحال في (طريق) عبد اللطيف كما هي الحال مثلاً مع رائعة المخرج التركي- الكردي يلماز كوناي (1937-1984) التي حملت العنوان نفسه وانتزعت السعفة الذهبية في مهرجان "كان" 1982، ولا مع فيلم "الطريق"- 1964 للمصري حسام الدين مصطفى عن قصة بالعنوان نفسه لنجيب محفوظ.
يجعل عبداللطيف عبدالحميد "الطريق" موضوعاً لصالح الطفل (غيث ضاهر) الذي سوف تجمع الهيئة التدريسية على أنه غير صالح للتعلم بسبب مشكلات إدراكية لديه، ونعرف ذلك من خلال رسالة توجهها إدارة مدرسة القرية لجده صالح (موفق الأحمد- جائزة أفضل ممثل في مهرجان قرطاج السينمائي).
يخفي الجد الرسالة التي تلقاها من حفيده الذي يعيش معه بعد وفاة والدته، وهجرة أبيه (ماجد عيسى) للعيش والعمل في حقول رميلان النفطية شمال شرقِ (وليس شرقي – هذا خطأ) سوريا. تبدأ أحداث الفيلم ببيع الجد لقطعة أرض وبناء مدرسة خاصة لحفيده الصغير، بعد أن يوهمه بأن الرسالة التي تلقاها من إدارة المدرسة تقول عنه بأنه طفل عبقري، وهذه العبقرية تحتاج إلى مدرسة يدرس فيها وحده، وإلى معلمين استثنائيين له في اللغة العربية والرياضيات والفيزياء والعلوم كي يجاروا عبقريته.
الرحلة الطويلة
هكذا تبدأ رحلة الجد مع حفيده الذي يتطور بشكل مطرد في استيعاب دروسه، لا سيما بعد أن يكلف الجد حفيده بتدوين كل ما يحدث على طريق القرية على دفتر صغير، هنا يلجأ عبد اللطيف إلى بعد رمزي من خلال الشخصيات التي تظهر أو تمر ملوحة على طريق القرية. فهناك المرأة (رباب مرهج) التي باع زوجها أرضه للزواج بأخرى، والرجل المريض بالبواسير (مأمون الخطيب) بعد إخفاق طبيبه بإجراء عمل جراحي له، والمربية (تماضر غانم) التي تكفلت برعاية الطفل صالح بعد موت أمه وإرضاعه من عنزتها الشامية، والشاعر (أحمد كنعان) الذي يلقي قصائد لسعيد عقل وعمر أبو ريشة وعنترة.
هذه المجموعة من الشخصيات الثانوية تصبح خطوطاً سردية في رواية "الطريق" التي سوف يقوم الجد بتحريرها وتنقيحها وطباعتها باسم حفيده بعد أن يعود من دراسة طب الأعصاب في فرنسا، مستفيداً مما دونه صالح في صغره عن الطريق، ويجمع الجد أهالي القرية للاحتفال بحفيده، ويكشف على الملأ حقيقة الرسالة التي تلقاها من إدارة مدرسة صالح قبل سنوات طويلة، وليصبح الحفيد الشريد الذهن والفاقد التركيز ذلك الطبيب الناجح في مقاربة لقصة المخترع الأميركي توماس أديسون (1847-1931) الذي ترك المدرسة في سن مبكرة بعد أن قال عنه معلموه بأنه غير صالح للتعلم.
ثنائية الجد والحفيد في الفيلم أبعدت الصيغة التقليدية للعائلة السورية، وابتعدت عن دور الأب والأم في حياة الأبناء، في إسقاط على أم ميتة وأب مهاجر نتابع قصة حب مع فتاة (راما زين الدين) من عمر صالح، تهديه أرغفة الخبز وتكشف حقيقة أمره وقصوره عن فهم دروسه، لكن هذه العلاقة لا تلبث أن تتطور من ثمانينيات القرن الفائت وصولاً إلى زمن غير محدد، ويبدو أن عبداللطيف حاول الهروب في عدم تحديد زمن القصة من مقاربة أية أحداث سياسية مرت بها البلاد، معتمداً مجموعة من رجال القرية الذين يذهبون ويجيئون على الطريق طيلة زمن الفيلم للعراك مع أهالي قرية مجاورة، لكن دونما جدوى في تحقيق ولو نصر واحد على خصومهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إشارة قوية لحروب ذات البين السوري من دون الدخول في تفاصيل أو توضيحات جعلها فيلم "الطريق" تتكرر مرات عدة، كناية عن حروب وهزائم عاشها الإنسان السوري، وما يزال يعايشها منذ قرن ونيف.
حدث كل هذا باستخدام لقطات وزوايا لكاميرا (باسل سراولجي) حاولت توظيف أماكن التصوير (ريف طرطوس) في تتابع زمني جهد في الإفادة من غابات بلدة الدريكيش (غرب سوريا) وبناء صيغة بصرية رحبة في التعبير عن جماليات العمارة الريفية وأشجار الزيتون والدلب والسنديان. لكن مع إغفال الحيز الزمني للفيلم بدا كل هذا وكأنه يحدث في زمن واحد، وبلا تدفق للأحداث نحو الأمام، إلا من حيث تغيير أدوار الأطفال بأدوار الكبار، كما في شخصية الحفيد ورفيقته الطفلة في المدرسة التي يقع في حبها، أو مما حاول الإخراج تعويضه في لقطات عامة وشاقولية عبر كاميرا طائرة الدرون، لكن بلا طائل، فظلت هذه اللقطات والمشاهد ذات حركة عادية لا تشي بالتحولات والتغيرات الزمنية التي تمتد في الفيلم على ثلاثين سنة على أقل تقدير.
من هنا بدت الصورة المكونة للرؤية الكلية لفيلم "الطريق" متعثرة في مراكمة الصور وتفاعلها الإيقاعي الناجم عن خلل في التنامي الزمني المستمر طوال فترة العرض (100 دقيقة)، فالأشياء والأحداث والشخصيات تم تكوينها عبر اقتطاعات مكانية وزمانية مبهمة، وتكاد تكون متداخلة، وهذا ما أعاق إمساك المخرج بقالب سمعي بصري متوازن في سرده المرئي، وغير منساق لخطاب مباشر في التربية الحديثة، بحيث يلتقي جيل الأجداد بجيل الأحفاد على "طريق" لا وجود للآباء والأمهات فيه، ويفسح المجال واسعاً للتلقين والوعظ في الوقت الذي قدم فيه أصحاب الفيلم أنفسهم على أنهم ضد هذا وذاك.