في وحدة تحسين سلامة المرضى أعطي دروساً لطلاب الطب في السنة الثانية، فأروح أتحدث طويلاً حول الإبلاغ عن الأخطاء المرتكبة ورفع الصوت بجرأة وصراحة وعدم السكوت، وأشرح الأسباب وراء الأهمية التي يكتسيها هذا السلوك والحاجة إلى الطب باعتباره مهنة لاستقاء الدروس من الأخطاء وتحسين الرعاية الصحية، كما أتطرق إلى آليات التحدث بجرأة وفضح المخالفات والإبلاغ عنها باكراً.
استحدثت "حرية التحدث إلى القيمين" في مختلف مراكز "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" عام 2016، وجاء ذلك في أعقاب الأهوال التي خلفتها فضيحة موظفي الفئة المتوسطة، حرصاً على أن يجد الموظفون دائماً شخصاً يسعهم أن يتواصلوا معه في شأن مخاوف تعتريهم متصلة بسلامة المرضى، أو ممارسة كانوا شهدوا وقوعها، حتى إنني أساير هؤلاء الطلاب كي أبين لهم الطبيعة العادية لرفع الصوت، بل والمرحة أيضاً، قرأت لهم مقطعاً من الكتاب الرائع بقلم آدم كاي "هذا سيؤلم" This Is Going To Hurt، حول زوج عنيد من ملاقط الجراحة، والأهمية الكبيرة التي يكتسيها اعترافك عندما تكون أنت، الطبيب، قد أخطأت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أغوص في التفاصيل شارحة كيف أن هذا النظام مصمم على نحو يمنع ثقافة اللوم ويحمي المبلغين عن المخالفات، حتى إنني أسأل طلابي أن يلعبوا الأدوار بينما يتحدثون عن حادثة تتعلق بالسلامة كي يتعلموا العبارات ويكتسبوا خبرة حول كيف يمكن للناس أن يكونوا دفاعيين نوعاً ما، أو حتى محتدين عند التحدث عن أخطاء وقعت.
كل دروسي مصممة من أجل تطوير قدراتهم على تحديد المشكلات التي تتعلق بالسلامة بهدوء وعقلانية، وتوجيه انتباههم إلى الشخص المعني الذي في يده حل هذه المشكلات، ومن ثم الحفاظ على المستويات العالية لأفضل الممارسات الطبية التي يتوقعها ويستحقها مرضى "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" ("أن أتش أس" NHS).
وعندما أنتهي من تلك الدروس كافة أخبرهم كيف أنها تجدي نفعاً فعلاً، وأخبرهم عن التسلسلات الهرمية البالية التي لا تزال موجودة في مراكز كثيرة، وعن الصعوبات التي يواجهها صغار الموظفين (سواء في الأقدمية أو الرتبة المتصورة، كالأفكار العتيقة التي يعرفها الأطباء أفضل من الممرضات) في التحدث جهاراً عن الأخطاء أو الحوادث التي يرون أن كبار الموظفين يرتكبونها.
أنبههم إلى أنهم كطلاب طب حريصين، فإنهم في الواقع أكثر ميلاً، مقارنة مع من يمارسون هذه المهنة منذ سنوات، إلى رصد الأخطاء أو الشذوذات في الممارسة الطبية العملية، لأنهم مجموعة عيون جديدة متصلة بدماغ يفيض بأحدث المعارف الطبية.
أخيراً أخبرهم أن الصعاب مكدسة ضدهم، ولقد أودت بنا تلك السنوات من التقشف ونقص موارد "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" إلى سيناريو مرعب من نقص الموظفين وتراكم أعمال الصيانة وفجوة في القوى العاملة تحوي أكثر من 100 ألف وظيفة شاغرة، مما يعني أنه في أحد الأيام وقريباً جداً لن يشهدوا خطأ واحداً وحسب، بل سيكونون من يرتكب هذا الخطأ.
في نهاية الحصة أخبرهم كم أني أتمنى لو كنت مخطئة، وأتمنى لو أن حال هذه المنظومة كانت أفضل، ولو أن السياسات كانت تعمل كما يلزم.
كان هذا الحديث الصريح طبيعياً وبريئاً تماماً على غرار ملء جداول الأجنحة، ولكن قبل الليلة الماضية لم تكن لدي أدنى فكرة عن مدى علاقة ذلك بي.
برهبة وخنوع تلقفت الصعوبات التي واجهها موظفو مستشفيات برمنغهام الجامعية (UHB) إذ أرادوا أن يعملوا بطريقة آمنة في المؤسسة، رهبة لأن طلابي يعملون هناك ويتعلمون المهارات السريرية والجماعية في تلك البيئة، ولقد علمتهم كيف يخرجون عن صمتهم في تلك البيئة عينها التي عرفت الآن أنها ربما تكون معادية، بل وحتى منطقة عدو.
أما الخنوع فيرجع لأنه من دون استثمار كبير فإن "هيئة الخدمات الصحية الوطنية"، أياً كان المركز أو المؤسسة، عرضة جداً لأن تكون قادرة على تقديم أفضل رعاية صحية ممكنة، وليس أفضل ممارسة سريرية فعلاً، والتي تعتبر المعيار الذهبي للطب.
يذهب بنا هذا الواقع إلى أن الخروج عن الصمت صار أكثر من أي وقت مضى جزءاً بالغ الأهمية من مستقبل الطب، ولما كانت "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" بلغت مكرهة حالاً صارت عندها عاجزة عن تقديم الممارسات السريرية الأفضل لمرضاها، فعلى المؤسسة برمتها أن تكون إيجابية في تبني نظام التعبير عن الآراء بصراحة، باعتباره الوضع الطبيعي الجديد للممارسة الطبية.
يبدأ ذلك بترسيخ السلامة النفسية، أي الإيمان بأنه يسعك التصريح برأيك حول شاغل ما من دون خوف من العقاب، داخل صفوفها.
ونظراً إلى الاحتمال المتزايد لعدم تقديم أفضل الممارسات الطبية أحياناً، يحتاج موظفو "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" إلى أن يشعروا بأن في مقدورهم وضع الإصبع على المشكلات من دون أن يقف لهم العقاب في المرصاد، ولا بد من أن يشعروا أن الإدارة العليا يهمها أن تسمع المشكلات صراحة كي تتعامل معها وتعالجها.
الاستغلال المزعوم لإحالات "المجلس الطبي العام" (GMC) كسلاح من جانب كبار موظفي مستشفيات برمنغهام الجامعية يمثل تحديداً نوع القصاص غير النافع الذي إذا كان صحيحاً فسيقف سداً في طريق الحفاظ على "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" آمنة خلال أحلك أوقاتها.
عوض التعنت ورص الصفوف حان الوقت لأن تعرف الهيئة الصحية الوطنية إخفاقاتها وتعترف بها على المستوى الوطني، وعليها أن تواجه مشكلاتها مباشرة وتبلغ بنفسها الناس بالمخالفات المتصلة بها، فتسلط الضوء على القيود التي تعمل في ظلها حالياً وما تطرحه من عواقب تعوق قدرتها على تقديم مستوى عال من الرعاية.
تماماً كما أُعلّم طلابي، على "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" الآن أن تثبت أنها تتسم بالصدق والنزاهة والقوة من أجل الدفاع عن سلامة المرضى، وليس غض بصرها، أو أسوأ من ذلك السعي إلى كم أفواه من يرغبون في تحديد أوجه القصور أو السعي إلى تشويه سمعتهم، فقد حان وقت فضح المسكوت عنه.
الدكتورة أليكسيس باتون محاضرة في علم الأوبئة الاجتماعية وعلم اجتماع الصحة لدى "جامعة أستون"، وهي أيضاً رئيسة اللجنة المعنية بالمسائل الأخلاقية في مجال الطب في "كلية الأطباء الملكية" Royal College of Physicians، وأمينة "معهد أخلاقيات الطب" Institute of Medical Ethics.
© The Independent