يترقب المصريون من كافة الشرائح سواء في مجتمع المال والأعمال أو المواطنين عدة أحداث اقتصادية متلاحقة تحدد مصير الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي خلال الساعات المقبلة، بعدما اعتادوا في 2022 على التغيرات المفاجئة تارة عبر الجلسات الاستثنائية للبنك المركزي المصري لرفع أسعار الفائدة وما يعقبها من خفض في قيمة العملة المحلية تارة أخرى، ثم ترقب أحوال الأسواق نظراً لارتباط أسعار السلع الأساسية بموقف الجنيه مقابل الدولار، إذ إن القاهرة تعتمد على استيراد أكثر من 80 في المئة من حاجاتها من الخارج معتمدة على العملة الخضراء الأميركية.
"النقد الدولي" ينظر في طلب القاهرة الجمعة
في تلك الأثناء، ينظر المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، الجمعة المقبل الموافق لـ16 ديسمبر (كانون الأول)، في طلب القاهرة الحصول على تسهيل ممتد بقيمة 3 مليارات دولار والحصول على الشريحة الأولى منه لحل أزمة الفجوة التمويلية من النقد الأجنبي، وهو ما يتيح أيضاً للسلطات المصرية الحصول على 5 مليارات دولار من خلال عدد من المؤسسات الدولية والإقليمية التمويلية والتنموية الأخرى، كما يمنحها قدرة الحصول على تمويل إضافي بمليار دولار من خلال صندوق المرونة والاستدامة، الذي تم إنشاؤه حديثاً بصندوق النقد.
وكانت القاهرة قد حصلت على الموافقة المبدئية من الصندوق الدولي للحصول على التمويل وتنفيذ برنامج إصلاحي على مستوى الخبراء في الـ27 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
في غضون ذلك، يترقب مجتمع المال والأعمال في القاهرة اجتماع لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري للبت في أسعار الفائدة مساء الخميس الموافق لـ22 ديسمبر الحالي، وسط تكهنات تُشير إلى استباق "المركزي المصري" الموعد المحدد ضمن جدول الاجتماعات بعقد جلسة استثنائية خلال ساعات قبل اجتماع السلطات المصرية مع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي الجمعة.
تضافر تلك العوامل والأحداث الاقتصادية المتشابكة المتتالية، خيم على الوضع الاقتصادي والمجتمعي في مصر خوفاً من خفض جديد للعملة المصرية أو أن تطلق الدولة العنان لصرف السعر المرن للتحرك في ما يسمى بـ"التعويم الكامل"، ولذلك نقلت "اندبندنت عربية" مخاوف المجتمع من التعويم الكامل للعملة إلى المتخصصين والمحللين للإجابة عن السؤال الأبرز، هل التعويم الكامل للعملة طوق النجاة للاقتصاد المصري كما يُشير صندوق النقد الدولي أم لا؟
التعويم الحر
التعويم علمياً أو تحرير سعر صرف الجنيه، أسلوب في إدارة السياسة النقدية، وذلك يعنى أن يترك البنك المركزي سعر صرف عملة ما ومعادلتها مع عملات أخرى، يتحدد وفقاً لقوى العرض والطلب في السوق النقدية، وتختلف سياسات الحكومات حيال تعويم عملاتها تبعاً لمستوى تحرر اقتصادها الوطني وكفاية أدائه ومرونة جهازها الإنتاجي.
وتضم سياسة التعويم نوعين، الأول هو "التعويم الحر التام"، ويعني أن يترك البنك المركزي سعر صرف العملة يتغير ويتحدد بحرية مع الزمن بحسب قوى السوق والعرض والطلب، ويقتصر تدخل البنوك المركزية في هذه الحالة على التأثير في سرعة تغير سعر الصرف، وليس الحد من ذلك التغير، ويتم الاعتماد على هذا النوع من التعويم مع عملات الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة، مثل الدولار الأميركي والجنيه الاسترليني والفرنك السويسري، لكن لا يكون مجدياً أو يمكن الاعتماد عليه في حالة الدول التي تعاني اقتصاداتها من أمراض مزمنة أبرزها عجز ميزان المدفوعات وتراجع رصيد الاحتياطي النقدي الأجنبي وزيادة الديون السيادية.
النوع الثاني من التعويم هو "التعويم المُدار"، ويقصد به ترك سعر الصرف يتحدد وفقاً للعرض والطلب مع تدخل البنك المركزي كلما دعت الحاجة إلى تعديل هذا السعر مقابل بقية العملات، وذلك استجابة لمجموعة من المؤشرات مثل مقدار الفجوة بين العرض والطلب في سوق الصرف، ومستويات أسعار الصرف الفورية والآجلة، والتطورات في أسواق سعر الصرف الموازية.
مطالب الصندوق
كان العنوان الرئيسي لمفاوضات السلطات المصرية مع مسؤولي الصندوق الدولي منذ الجولة الأولى في مارس (أذار) وفقاً لمطالب الأخير هو الوصول القيمة العادلة أو الحقيقة للعملة المصرية في أسواق الصرف الدولية، إذ يعتبر الصندوق الدولي خفض العملة المصرية هو قارب النجاة للاقتصاد المصري، وهو عبر عنه صراحة في بيان سريع عقب التوصل مع الحكومة المصرية لاتفاق مبدئي على مستوى الخبراء في 27 أكتوبر الماضي مُشيداً في البداية بتوسيع السلطات المصرية لنطاق الحماية الاجتماعية وتنفيذ نظام سعر صرف مرن دائم متوقعاً أن تحفز تلك السياسات حزمة تمويل أكبر لأجل عدة سنوات.
وبعد الترحيب أكد صندوق النقد الدولي في بيانه آنذاك أن "وجود سعر صرف مرن للجنيه المصري سيؤدي إلى تراجع سعر صرف الجنيه مقابل الدولار مما ينتج منه صعوبات اقتصادية، من أبرزها ارتفاع المستوى العام للأسعار، وهو ما يزيد من الأعباء التي تتحملها الطبقات الفقيرة والمتوسطة، غير أن صندوق النقد يرى أن "انخفاض سعر صرف الجنيه سوف يسهم في الحد من الواردات نتيجة ارتفاع أسعارها، وتشجيع الصادرات المصرية، الأمر الذي يسهم في علاج العجز الكبير في الميزان التجاري المصري، وتحقيق الاستقرار للاقتصاد الكلي على المدى الطويل".
معركة محسومة لمصلحة الدولار
ويرى مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، عبد المنعم السيد، أنه "في حالة التعويم الكامل للجنيه سيكون تحديد قيمة العملة محكوماً بقوى العرض والطلب فحسب من دون تدخل من البنك المركزي على الإطلاق"، قائلاً "القاهرة في الوقت الحالي تعاني شحاً في العملة الأجنبية وتحديداً الدولار الأميركي نتيجة حزمة من العوامل السلبية تجمعت في آن واحد من بينها الفجوة التمويلية الناتجة من خروج الأموال الساخنة (استثمارات الأجانب في أدوات الدين السيادية المصرية) بأكثر من 25 مليار دولار منذ بداية 2022 مع رفع الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة بشكل متتالي منذ بداية 2022"، علاوة على أقساط الديون وأعبائها تصل إلى 35 مليار دولار في 2022 و2023، كذلك زياده فاتورة الاستيراد لتصل إلى 87.3 مليار دولار سنوياً نتيجة الحرب الروسية- الأوكرانية.
ويعتقد السيد أن "تعويم كامل للجنيه في الوقت الحالي سيكون معركة خاسرة محسومة قبل أن تبدأ لمصلحة الدولار الأميركي وهو ما يعني انخفاضاً كبيراً للعملة المصرية في ظل عرض محدود وشح في مواجهة طلب كبير على العملة تتعثر البنوك المحلية في توفيره لمصلحة المستوردين من خارج البلاد للوفاء بصفقاتهم الاستيرادية مما يعني مزيداً من البضائع العالقة بالموانئ المصرية وهو ما يعني استمرار الغلاء وارتفاع أسعار السلع في الأسواق بشكل شبه يومي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، أن "التعويم الكامل قد يكون في مصلحة القاهرة في حال توافر العملة الأجنبية وتناسب قوى العرض والطلب عليها، وهو ما ينعكس في النهاية على وجود سعر عادل أو حقيقي من وجهة نظر المستثمرين بالخارج أو مؤسسات التصنيف الائتماني وغيرها من المؤسسات المالية، مما يدعم القاهرة لجذب استثمارات أجنبية مباشرة سريعاً"، وتابع أن "التعويم الكامل من دون سياسات وخطة واضحة لجذب الاستثمارات المباشرة وتشجيع الصادرات والصناعة الوطنية وتوطين التكنولوجيا لتقليل الاستيراد من الخارج، إضافة إلى سياسات نقدية من البنك المركزي المصري تستهدف زيادة الحصيلة الدولارية"، محذراً من التعويم الكامل في ظل تلك الثغرات حتى لا تفشل القاهرة في ذلك مثلما فشلت الأرجنتين في سياسات التعويم التي اتبعتها في حين دولة إندونيسيا من الدول التي حققت نجاحاً من التعويم وخفضت قيمة عملتها ثم نجحت في زياده الصادرات وجذب السياحة".
صندوق خاص لحماية الفقراء
من جهته، قال المتخصص في شؤون الاقتصاد هاني توفيق، إنه "من الناحية النظرية الأكاديمية البحتة يتحدد سعر أي عملة بما يعرف بالقوة الشرائية المتعادلة (Purchasing Power Parity) وهو ما يعني قيمة مجموع سلة من السلع والخدمات التي تشتريها عملة أي بلد مقارنة بقيمة نفس السلة والخدمات في دولة المقارنة"، موضحاً أن "على سبيل المثال، لو اشتريت مجموعة معينة من السلع محددة بأوزان نسبية معينة على أساس علمي في القاهرة بنحو 100 جنيه ثم اشترينا نفس سلة السلع في واشنطن بعشرة دولارات يمكننا القول من الناحية النظرية أن الدولار يعادل عشرة جنيهات".
وتابع أن "من الناحية العملية هناك عوامل أخرى تؤثر في حدود تلك المعادلة مثل نسبة الدعم في تسعير سلة السلع والخدمات وعجز الموازنة، وعجز أو فائض ميزان المدفوعات والمضاربة، وحجم الديون الأجنبية وغيرها مما يجعل سعر العملة يتحدد بتفاعل قوى العرض والطلب، وتوقعات تحرك سعر العملة مستقبلاً"، مؤكداً أن "سعر العملة في أي دولة يُحدد نتيجة تفاعل قوى العرض والطلب وليس بقرارات إدارية".
وأشار توفيق إلى أن "التعويم الكامل من دون وجود صندوق خاص لدعم الاستقرار خطر داهم سيؤثر في معدلات التضخم والشريحة الأكبر من محدودي الدخل والفقراء في مصر".
التعويم التدريجي المرن
في المقابل، قال رئيس البحوث في شركة برايم القابضة عمرو الألفي، إنه "من الأفضل للاقتصاد المصري أن يكون هناك انخفاض مرن وتدريجي للجنيه أمام العملات الأخرى وبالأخص الدولار الأميركي"، موضحاً في تصريحات صحافية، أن "خفض العملة المحلية يدعم الاقتصاد المصري في مواجهة واستيعاب أي أزمات عالمية ممكن أن تحدث"، مستدركاً "لكن التعويم الكامل أو خفض الجنيه في الفترة الحالية لن يجدي لأن القاهرة بحاجة إلى أن تكون لديها قوة تصديرية حتى تستفيد من هذا الانخفاض في سعر صرف عملتها"، مشيراً إلى أن "خفض الجنيه مرة أخرى سيضر أكثر مما يفيد في الوقت الراهن، في حين أن الطفرة السعرية للدولار تأتي نتيجة عدم توافر السيولة في النظام البنكي".
في غضون ذلك، توقع المحلل الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في بنك "بي أن بي باريبا" محمد عبد المجيد، أن يعقد البنك المركزي اجتماعاً استثنائياً هذا الأسبوع، وقال في مذكرة بحثية إن "صانعي السياسة قد يرفعوا أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس قبل اجتماع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي".
وأضاف أن "البنك المركزي سيحتاج على الأرجح إلى التحرك بشكل أكثر حسماً نحو إطار لتعويم العملة قبل أن يوافق صندوق النقد الدولي على صرف الشريحة الأولى من القرض والبالغة 750 مليون دولار"، ولكنه حذر من أن أي تخفيض آخر لقيمة العملة "قد يفشل في تحقيق الاستقرار في السوق".
الدولار بـ37 جنيهاً في 2023
وحول قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، توقع عبد المجيد أن ينخفض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار إلى 33 جنيهاً مقابل كل دولار بنهاية العام و37 جنيهاً مقابل كل دولار خلال الربع الأول من عام 2023، مشيراً إلى أن ذلك "سيؤدي إلى دفع التضخم في المدن إلى ما يزيد على 25 في المئة خلال الربع المقبل وأن يصل إلى 22 في المئة في المتوسط خلال عام 2023".
وخفضت السلطات المصرية قيمة عملتها المحلية مقابل الدولار الأميركي مرتين في 2022 كانت الأولى بواقع 15 في المئة في مارس الماضي عقب اجتماع استثنائي للجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري رفع أسعار الفائدة خلاله بنحو واحد في المئة، ثم جاء الخفض الثاني في نهاية أكتوبر الماضي، بواقع 20 في المئة تقريباً في اجتماع استثنائي أيضاً لـ"المركزي" رفع أسعار الفائدة بمقدار أثنين في المئة.
تجربة المصريين مع "التعويم" بدأت في تسعينيات القرن الماضي عندما قررت الحكومة المصرية في عهد الرئيس الراحل حسنى مبارك تعويم مدار للعملة المحلية ثم مرة أخرى في عام 2003، بينما استحوذ "التعويم" للمرة الأولى على عقول شريحة كبيرة من المصريين منذ 6 سنوات تقريباًـ إذ كان قبل ذلك مجرد مصطلح اقتصادي يتداوله المسؤولون أو المتخصصون في غرف الاجتماعات أو مناقشات السياسة المالية والنقدية للدولة، بعدما تلمس المصريون التداعيات السلبية الاقتصادية بشكل أكبر من سابقتها مع تحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملة الأميركية في عام 2016 مع وصول قيمة الدولار الأميركي لتعادل نحو 20 جنيهاً مصرياً قبل أن تتراجع تدريجاً حتى تستقر عند 15 جنيهاً لمدة لا تقل عن أربعة سنوات كاملة. وكانت تداعيات هذا التعويم الثاني أكثر قوة من الأول وأقل أثراً سلبياً، إذ اتخذت الحكومة المصرية خطوات إصلاحية بتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي على مدار ثلاث سنوات بالتعاون مع صندوق النقد الدولي حصلت بمقتضاه على 12 مليار دولار، بينما في الوقت الحالي يترقب المصريون اجتماع البنك المركزي المصري تزامناً مع اجتماع السلطات مع مسؤولي صندوق النقد الدولي، انتظاراً لموقف عملتهم المحلية والتداعيات السلبية على الأسواق والأسعار.
في تلك الأثناء، ارتفع المعدل السنوي للتضخم الأساس ليبلغ مستوى 21.5 في المئة خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مقارنة بنحو 19 في المئة خلال أكتوبر السابق له، بعدما أعلن البنك المركزي أن الرقم القياسي الأساس لأسعار المستهلكين سجل معدلاً شهرياً بلغ 2.7 في المئة خلال الشهر الماضي، في مقابل معدل شهري بلغ 0.5 في المئة خلال نوفمبر من العام السابق، ومعدل شهري بلغ اثنين في المئة خلال أكتوبر الماضي.