قد لا تكون اللغة الفرنسية التي كتب بها فرانسوا فيون، أول شعراء القضايا الاجتماعية الفرنسية، القسم الأعظم من أشعاره، لغة حديثة تتناسب مع التطور الذي طال هذه اللغة خلال العقود التالية لعصر التنوير، لكن البعد النضالي الاحتجاجي في تلك القصائد وبخاصة منها قصيدته الأشهر "أغنية المشنوقين" تبدو بادية الحداثة والقوة التعبيرية. تبدو وكأنها كتبت في القرن الـ20، زمن الاحتجاجات الكبرى كما زمن القيم الإنسانية. وهي في الأحوال جميعاً تبدو معبرة، ليس فقط عن ذات الشاعر وغضبه على ما يدور من حوله، بل كذلك عن ارتباطه بقضايا المجتمع دفاعاً عن المظلومين في وجه سلطات جائرة تذيقهم العذاب ليس دائماً لأنهم ارتكبوا جرماً معيناً يحاكمون عليه، بل غالباً خوفاً من أن يرتكبوا هذا الجرم. هو نوع، كما يرى فيون، من العقاب الاستباقي الذي لئن كان قد طاله شخصياً بحسب ما تشي قصيدته الكبرى وحتى قصائد عديدة أخرى له، فإن الشاعر يؤكد لنا أنه طال كثراً.
أصل الحكاية
ومن ناحية حدثية باتت كالمسلمات لكثرة ما جرى تداولها وباتت أشبه بالمسلمات في التاريخ المدون للشعر الفرنسي. تقول الحكاية إن فرنسوا فيون كتب "أغنية المشنوقين" بوحي من فترة حكم عليه فيها بالإعدام، بعد أن أودع السجن من جديد في عام 1462 وهو كان قد أودع فيه مراراً وتكراراً أحياناً بسبب جرائم أو حتى موبقات صغيرة اقترفها– ونراه يبررها ويفسر ظروف ارتكابه لها في أشعاره– ولكن غالباً على سبيل الاحتراز من قبل سلطات كانت قد اعتادت في مناسبات عامة أن تسجن عدداً كبيراً من "المجرمين" والمتمردين المسجلين لديها كمشبوهين، لمجرد أن تحمي المجتمع من وجودهم ولو لفترة، ثم يحدث أن تنساهم وأحياناً حتى رحيلهم عن عالمنا فتفوح رائحة جثامينهم ما يستدعي إخراجها من الزنازين والأقبية، وهو أمر تحدث عنه المفكر الفرنسي ميشال فوكو في زمننا المعاصر طويلاً وحلله سياسياً كم حلله عيادياً. ومن المؤكد أن فيون وأشعاره كانوا في بال فوكو وهو يشتغل على تحريره لكتب له مثل "المراقبة والمعاقبة" أو "الجنون في العصر الكلاسيكي". أما بالنسبة إلى فرانسوا فيون الذي اعتبر في زمننا الراهن نسخة مسبقة عن جان جينيه فإنه ومن دون أن يكون منظراً، كتب معظم أشعاره لا سيما "أغنية المشنوقين"، وسط تأمله حاله كما حال رفاقه في السجن من البائسين الذين رأى الشاعر مبكراً في ذلك الزمن، أن أحوال المجتمع هي التي قادتهم إلى الجريمة، هذا إن كانوا قد اقترفوا من الجرائم ما يبرر العقاب الذي كان ينزل بهم... ولم يكن عقابهم مجرد نزول من السلطات "عند رغبة الأقدار وحدها".
الشرط الإنساني
والحال أن قراءة "أغنية المشنوقين" بصورة خاصة، تبديها لنا وقد انطبعت بدرجة عالية من الحزن والواقعية، ناهيك بكونها - من ناحية الموضوع - تتجاوز كثيراً، الحكي عن السجن والحكم بالإعدام، لتطال الشرط الإنساني في صميمه، ويأس الإنسان وعجزه، أمام ذلك الشرط. في الأصل، كان فيون جعل عنوان قصيدته "شاهدة قبر فيون"، غير أن ناشري القصيدة بعد ذلك غيروا العنوان إلى "أغنية المشنوقين" لأنهم رأوا أن هذا يناسبها أكثر، فعرفت به. ولقد اشتهرت هذه الأنشودة إلى حد كبير، وقلدت كثيراً، وهي تعتبر من أجمل ما كتب فيون خارج إطار القصائد التي تشغل "وصيتيه" (الكبيرة والصغيرة) وتشكلان آثاره الأساسية. في القصيدة/ الأنشودة هذه، يحدثنا فيون عن وجوده في السجن، ويصف كيف أنه رأى نفسه، مسبقاً، مشنوقاً تنفيذاً لحكم المحكمة، "مع عدد من رفاق بؤسه"، وقد "غسلتهم أمطار الشتاء"، و"جففتهم قوة الشمس" و"مزقتهم العقبان وغيرها من طيور الموت"، ثم "عبثت الرياح بهم". غير أن هذا كله لا يدفع فيون إلى القول إنه ظلم في ذلك الحكم الذي صدر عليه. ففي رأيه كان الحكم الذي أنزل عليه، في تلك المرة على الأقل، حكماً عادلاً، وكان هو يستحقه، حتى وإن لم يكن واثقاً من أن الآخرين يستحقون ما أنزل بهم من أحكام.
الشاعر يطلب الرأفة ويختفي
وهو، إذ يعترف بهذا، يطلب الرحمة وأن يرأف به ويبعد عنه ذلك المصير الذي أخذ يتصوره وينزل به الرعب، دافعاً إياه إلى التوبة. كانت خلاصة ما يطلبه فيون في قصيدته طلب رحمة الباري به وبأمثاله: "لقد أخطأنا وخطايانا كبيرة، لكن هل نحن حقاً مسؤولون عن أخطائنا؟". كانت تلك واحدة من المرات الأولى التي يدين فيها شاعر المجتمع وليس أعداء معينين، على ما لحق به وما أصابه وجعله يرتكب، هو بدوره، الشر في حق المجتمع وفي حق الآخرين. وعلى الرغم من جمال القصيدة/ الأنشودة وما ينضح منها من صدق ورغبة حقيقية في التوبة، ثمة ما يشبه الإجماع لدى النقاد والمؤرخين، على أن فرنسوا فيون لم يكتبها حقيقة في السجن وتحت ضغط التهديد بإعدامه شنقاً. فالواقع أن الإعدام لم يتم في ذلك الحين، بل إن فيون سومح في نهاية الأمر من "برلمان باريس"، لكنه منع من دخول المدينة اعتباراً من يوم الخامس من يناير (كانون الثاني) 1463. وهو امتنع بالفعل عن دخولها منذ ذلك اليوم، لكنه في الوقت نفسه اختفى تماماً، ولم يعد أحد يراه، بعد أن نشر قصيدته تلك. وكان اختفاؤه وانتشار القصيدة في وقت واحد، مدعاة لتضخم أسطورته وتحوله إلى حكاية غريبة يتناقلها الشعراء والرواة، كما لا يزالون يفعلون حتى اليوم.
خريج السوربون!
ولد فرنسوا فيون واسمه الأصلي فرنسوا دي مونكوربييه، في باريس في عام 1431، وهو ولد يتيماً فرعاه ورباه خاله غيوم دي فيون، فحمل اسمه. في البداية، تلقى فرنسوا الشاب، علومه في جامعة السوربون حيث نال شهاداته، لكنه في الوقت نفسه اختلط بمجموعة من الطلاب الشبان العابثين الذين كانت معاهد التعليم الفرنسية بدأت تمتلئ بهم، في عصر شهد الانتقال من الصرامة الدينية والأكاديمية إلى نوع من الاندفاع نحو الذات. وهكذا تحول الطالب النجيب إلى "فاسق عربيد" وفق ما كتب بعض المحافظين في ذلك الحين، في الوقت نفسه الذي راح يكتب فيه شعراً، حافلاً بالعبارات الشعبية والمعاني المتمردة. وكانت النتيجة أن أودع السجن، لكنه سرعان ما خرج منه، ليصطدم بقسيس ويقتله، ما اضطره إلى الهرب فترة عاد بعدها إلى المدينة وقد صفح عنه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدلاً من الهدوء
غير أنه بدلاً من أن يخلد إلى الهدوء هنا، شارك في سرقة في العام نفسه الذي كتب فيه "الوصية الصغيرة" أو "لاييس"، وهي أشعار عابقة بالحزن والتمرد مهدت لاعترافاته التي ملأت "الوصية الكبيرة" لاحقاً، في عام 1456، أرغم فيون مرة أخرى على مبارحة باريس، ووصل إلى بلوا حيث شارك في مسابقة شعرية كتب خلالها قصيدته الرائعة "أموت عطشاً قرب النبع". بعد ذلك سجن مجدداً وكان ذلك تمهيداً لدخوله السجن وخروجه منه مرات ومرات، حتى كانت المرة الأخيرة بعد أن حكم عليه بالشنق، ثم خرج ليختفي إلى الأبد، مخلفاً كتذكار على أيامه الأخيرة "أغنية المشنوقين". والحقيقة أن فيون ما عرف الهدوء طوال تلك الحياة، التي أمضى سنوات عديدة منها في السجون وفي إثارة المشكلات، خائضاً السجالات الدامية وحتى المبارزات العنيفة مع الآخرين، سواء كانوا شعراء أو من أهل السلطة والبلاط أو حتى من الناس العاديين الذين بالكاد كانوا يعرفون شيئاً عن حياته وشعره، معبراً عن ذلك كله لاحقاً في شعر ينبع أصلاً من رحم تلك التجارب الحياتية اليومية، سرعان ما كان ينتشر بين طبقات الشعب، وذلك في شكل خاص بفضل كتابته بلغة كانت أقرب إلى المحكية– ما كان يعتبر في مقاييس تلك الأيام نوعاً من الهرطقة. وتلكم كانت حكاية الشاعر فرنسوا فيون الذي كتب أشعاره في تلك الأزمان المبكرة، أواسط القرن الـ15، لاجئاً إلى أسلوب بسيط معبر عن ثنايا الروح، بالتعارض مع الأسلوب الفخم والكلاسيكي الذي كان يكتب به الشعر في ذلك الحين. وعلى الرغم من وجود عديد من القصائد الطويلة التي تنسب عادة إلى فيون، الذي غناه الشعراء الفرنسيون كثيراً في القرون الأخيرة، فإن قصيدته "أغنية المشنوقين" تنفرد بين أشعاره فيون إذ تعتبر انعطافية في مساره الشعري، كما تعتبر تأسيسية في الشعر الفرنسي الحديث.