نجحت برامج "تلفزيون الواقع" في إيقاع المشاهد في شباكها منذ اللحظة الأولى لإرضاء الفضول الإنساني لمتابعة تفاصيل دقيقة حول حيوات أخرى، من دون الشعور بالذنب، فقد اختار هؤلاء الأفراد كسر حاجز الخصوصية بأن يفتحوا غرفهم على الملأ ويستعرضوا مواقفهم اليومية، سواء كانت محرجة أو حزينة، أو حتى تظهرهم في وضع انكسار، أو تثير الشكوك والشبهات حولهم.
تلك التجارب ظهرت بشكل قريب من شكلها الحالي منذ سبعينيات القرن الماضي، ثم تبلورت في التسعينيات عبر تلفزيونات أوروبية وأميركية عدة، لكن العالم العربي بدأ في ملاحقة هذا الهوس على الشاشات المحلية منذ مطلع الألفية الثالثة. وعلى رغم الاتهامات بالفبركة وبأن المشاركين يؤدون دوراً وسط سيناريو محدد، لكن المشاهد ظل يلهث وراء كل تفصيلة تعرض عبر قنوات كانت تروج لبضاعتها بالتأكيد أن ردود الفعل طبيعية وتلقائية.
تلقفت الجماهير تلك الحالة التي أخذت برامج المنوعات إلى منطقة أخرى تماماً بحماس بالغ، حيث بدت البرامج وصناعها وكأنهم يدعون المشاهد بكل بساطة إلى "حفلة تلصص" على ما يفعله غيرهم: نائمون، يتشاجرون، يبكون، يعيشون قصة حب، يبوحون بأسرارهم. إنها توليفة مثالية لجذب المتابعين، فهل ما زالت لتلك البرامج شعبية في عصر "تيك توك" و"إنستغرام"، حيث يمكن لأي شخص أن يصنع عالمه وواقعه وينشره مباشرة على الناس، سواء وهو يطهو أو يعبر عن غضبه أو حتى يذم في الآخرين؟ بخاصة أن البعض يرى أن فيديوهات السوشيال ميديا للنجوم والهواة، ما هي إلا تطور طبيعي لبرامج تلفزيون الواقع، لا سيما أن اتهامات الزيف و"الفبركة" تلاحق كليهما على السواء.
من فيديوهات طريفة إلى إنتاج سخي
برامج تلفزيون الواقع هي بالأساس مواد ترفيهية تعرض حياة مجموعة من الأشخاص في بيئة معينة، بها معوقات وتحديات ومفاجآت سارة وغير سارة، مع مفارقات غير متوقعة، بالتالي تعتمد على ردود فعلهم الواقعية التي تفجر في كل الأوقات أزمات وتوترات وقلقاً وفقاً لطبيعة النفس البشرية، فيما يحتدم بينهم السباق على الحصول على أكبر قدر من تصويت الجمهور أو لجنة التحكيم ليكمل إلى مراحل متقدمة.
وكانت إرهاصات تلك البرامج بالولايات المتحدة الأميركية في منتصف أربعينيات القرن الماضي، حيث كانت تحدث في نطاق ضيق ومحدد هو الاستديو وتعتمد على تصوير الجمهور الحاضر الذي يختار إحدى المرشحات من ربات البيوت لأن تعيش لمدة يوم واحد حياة مرفهة وتحصل على الهدايا والمزايا، والبرنامج وقتها حمل عنوان "ملكة ليوم واحد".
كذلك من الإرهاصات انتشار برامج الكاميرا الخفية المعتمدة على المقالب التي يخرج ضحاياها ردود فعلهم الكوميدية والصادمة، وأيضاً البرامج التي تعرض الفيديوهات المنزلية، حيث كانت هذه هي الأكثر صدقية، حينما تمارس العائلة هواية توثيق أحداث يومها بالفيديو، لكنهم يفاجأون بحدوث موقف غير متوقع يكون جديراً بالعرض تلفزيونياً.
وفي ما يتعلق بالكاميرا الخفية والفيديوهات المنزلية، تم تصدير أفكارهما لمختلف الدول، وكانا من الإنتاجات الأكثر شعبية. وكل منطقة تقريباً كان لديها برامجها الشهيرة من هذا النوع، فيما كانت ذروة برامج تلفزيون الواقع بشكلها الحديث خلال الـ15 الأولى بعد الألفية الثالثة، حيث رصدت لها شركات الإنتاج ميزانيات هائلة ولفتت وقتها انتباه كبار النجوم، وكذلك مشاهير المجتمع، وبينهم بعض أفراد العائلة الملكية الإنجليزية الذين حرصوا على الظهور بها كضيوف استثنائيين، وبينهم الملك تشارلز الثالث حينما كان لا يزال أميراً لويلز.
انخفاض في معدل الصدقية
قبل ذلك كانت قد شهدت فترتي السبعينيات والثمانينيات عدداً من البرامج الناجحة التي يمكن تصنيفها كبرامج واقع، بعضها كان اجتماعياً وعائلياً، وأخرى كانت تعتمد على المغامرات، وأبرزها "Cops"، حيث جذبت به قناة "فوكس" الأميركية جمهوراً عريضاً من خلال مجموعة من الشرطيين الذين يحملون كاميرات صغيرة تصور مطارداتهم للمشتبه فيهم وسط مغامرات تحبس الأنفاس وتتمتع بكثير من الصدقية.
وظلت باقي التجارب، وبخاصة في فترة التسعينيات معتمدة على مغامرات ذات طبيعة مختلفة من خلال التصوير في بيئة محددة للغاية، لكن كان هناك تطور ملحوظ مطلع الألفية الثالثة في برامج مثل "Survivor" و"Fear Factor"، حيث يتم وضع المشتركين في بيئة قاسية خارج الاستديو لاختبار مدى صمودهم أمام التحديات والمصاعب، وشاهد الجمهور لقطات بكاءً وتهديدات ومؤامرات ظهرت بشكل مبالغ فيه، من هنا بدأ التشكيك في الصدقية، حيث خرجت تقارير إعلامية كثيرة تشير إلى أن صناع برامج تلفزيون الواقع بشكل عام باتوا يتفننون في صنع حالة من الجدل عن طريق وضع خطة مسبقة وحوار محدد لسير الحلقات ليظل المشاهد في حالة انجذاب دائم، بالتالي اتهمت تلك البرامج بأنها مجرد "تمثيلية" على الأقل في جانب كبير منها، حيث يتم تطعيم ما يجري بمواقف مفتعلة ومصطنعة لأجل تحقيق هذا الغرض، وزيادة نسب المشاهدة وجذب الإعلانات، ومن ثم زيادة الأرباح.
التطور الطبيعي لعالم "الواقع"
الاتهام نفسه يوجه إلى السيل الجارف من الفيديوهات التي تقدم على أنها عفوية وتصور في المنازل والشوارع ويطلقها ممن يسمون المؤثرين، فما أسهل أن يتحول أي شخص إلى نجم "واقع" ويحقق مشاهدات ويحظى بمتابعين، مهما كانت طبيعة المحتوى الذي يقدمه، سواء كان مقلباً أو موقفاً إنسانياً أو حتى فيديو يتضمن حكايات وأسراراً شخصية أو استعراضاً لقصة رومانسية مع الطرف الآخر في حياته، فالأهم بمعايير هذه السوق هو أن يعرف كيف يصنع "الدراما"، ومن ثم سيصبح الترويج سهلاً للغاية، من دون حاجة إلى جهة إنتاجية كبرى تقف وراءه، وسواء كان ما يفعله تلقائياً أو وفق قصة معدة سلفاً فطالما أن "اللقطة" غير متوقعة فهو قد ضمن الاستمرارية، والنجومية السريعة أيضاً، بالتالي مقارنة بتلك الطفرة أصبحت برامج تلفزيون الواقع بالشكل الذي استقر في الأذهان قبل 20 عاماً تقريباً "كلاسيكية" وعتيقة الطراز، وهو ما يؤكده الناقد الفني محمد عبدالرحمن، لافتاً إلى أنها لم تعد ملائمة بالمرة لهذا الجيل الذي اعتاد من دون أي مجهود مشاهدة نجومه المفضلين أو المشاهير أو حتى الجمهور العادي على المنصات "لايف" يستعرضون يومياتهم بشكل مباشر.
لكن الناقد الفني والمتخصص في الإعلام أكد على عامل آخر مختلف، وهي أن منصات التواصل الاجتماعي رسخت لمبدأ الفردية والتنافسية، فقديماً كانت برامج الواقع تعتمد على جمع عدد ممكن من المشاركين والمتسابقين لنشر تفاصيل حياتهم في بيئة محددة، لكن الأمر أصبح متسعاً فيما يتعلق بالمؤثرات والبيئات، لكن مبدأ الفردية هو الأعلى صوتاً، فكل شخص يصنع عالمه وحده كما لم يعد هذا الشخص بحاجة إلى التصويت المباشر لاختبار شعبيته، فطالما أن المتابعة مستمرة وفي ازدياد فقد حصل على الشعبية المرجوة، لافتاً إلى أن أي برنامج "تلفزيون واقع" سيطرح نفسه عربياً على الأقل خلال الفترة المقبلة ينبغي أن يكون صناعة منتبهين لتلك النقطة، ولهذه المتغيرات التي فرضتها السوشيال ميديا وألا يعيد تدوير أفكار برامج سابقة.
استثناء "عائلة كارداشيانز"
لكن عالمياً على ما يبدو الأمر لا يزال له جمهور، بخاصة أن السقف أعلى كثيراً فيما يتعلق بما يمكن عرضه من محتوى يصنف على أنه تلفزيوني على أية حال، فلا تزال هناك برامج تقدم الشاكلة نفسها لكنها ذات جماهيرية محدودة وأغلبها متعلق بالمسابقات مثل الطهي والفنون، لكن النموذج الأشهر والأكثر نجاحاً واستمرارية في عالم تلفزيون الواقع والذي لا يعتمد على التسابق، بل فقط خطف انتباه المشاهد بالانفتاح على تفاصيل حياة العائلة، هوkeep up the kardashians (مواكبة عائلة كارداشيان) الذي قدم منه 20 موسماً منذ عام 2007، حيث تدور الكاميرا هنا وهناك بصحبة أفراد عائلة كيم كارداشيان، باعتبار أن نجوميتها صنيعة عالم تلفزيون الواقع، إذ لم تكن مطربة أو ممثلة أو ذات حيثية بخلاف استعراضها لخصوصياتها على شرائط مصورة، ليتابع المشاهد ما يفعلونه في نزهاتهم ومنازلهم وحتى غرف نومهم، حيث تعرض البرنامج لهجوم جارف من المجتمع الأميركي نفسه، وشكل للبعض صدمة في ما يتعلق بالموضوعات المطروحة ومساحة البوح التي تضمنها، وكذلك سمة "الفضائحية" التي غلبت عليه، وهي انتقادات توجه على الدوام لكيم وأشقائها ووالدتها، وعلى رغم أن هذه الأجواء كانت سبباً في الهجوم، فإنها أيضاً من الطبيعي أن تكون سبباً في اتساع رقعة المتابعة بالنسبة إلى البعض بدليل هذه الاستمرارية، بل إن كثيراً من البرامج حاولت السير على خطاه عن طريق استعراض أدق تفاصيل الحياة الشخصية، وبينها The Real Housewives of Beverly Hills.
بعد المواسم العشرين استمرت عائلة كارداشيان في صراخها وفي أزماتها وفي استعراض رفاهيتها بالتفاصيل نفسها والدراما نفسها التي لم تسلم أيضاً من اتهامات "الكذب والتصنع"، لكن بعد تغيير اسم البرنامج، حيث انتقل لمنصة "هولو" منذ عامين وعرض منه موسمان، بعنوانthe kardashians (الكارداشيانز)، وما يعرض عبره حتى الآن يبدو من الصعب أن ينفذ عربياً، بخاصة أن برنامجاً مثل "ستار أكاديمي" الذي بدأ بث نسخته العربية في عام 2003 واستمر حتى 2016، شكل صدمة كبرى لكثير من العائلات، حتى التي لا تصنف على أنها متحفظة، فلم يتخيلوا أن يأتي الوقت الذي تعرض فيه الشاشات المفتوحة يوميات مراهقين من الشباب والفتيات في منزل واحد فسيح، حيث واكب الجمهور انطلاق شرارة الحب بين بعضهم البعض، وأيضاً لحظات الإعجاب الأولى وكذلك المكائد والمؤامرات، ولحظات ضعفهم شديدة الإحراج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان برنامج "ستار أكاديمي" يهدف إلى اختيار نجم واحد عن طريق التصويت عبر الرسائل النصية وكانت المنافسة محتدمة، بعده بالطبع تم تعريب تجارب كثيرة لم تخل من التلقائية في بعض الأوقات، وحتى الأهداف الإنسانية، لكن كان يغلب على عدد منها الافتعال، وبينها "الوادي" و"ع الهوا سوا" و"المسامح كريم"، وغيرها، وكثير من تلك البرامج اصطدمت بمواقف محافظة وصلت إلى حد الإيقاف، وبينها "الأخ الأكبر" الذي كان نسخة من برنامج سويدي، واعتبر محتوى الحلقات جريئاً وغير ملائم للأسرة العربية.
وكذلك تم إيقاف برنامج "الملكة" الذي عرضت منه قناة دبي قبل ستة أعوام حلقة واحدة فقط، وكانت تدور فكرته حول تقديم مجموعة من المتسابقين لأنفسهم وعرض مهاراتهم وولائهم لمحاولة التقرب من المطربة الإمارتية "أحلام" التي يطلق عليها محبوها لقب "الملكة"، وتتم تصفيتهم تباعاً في كل مرحلة، والفائز يصبح هو المساعد الأقرب إلى الفنانة في حياتها الواقعية، لكن بعد حملة ضخمة من رواد السوشيال ميديا الذين اتهموا فكرة البرنامج بالعنصرية أعلن عن إيقافه من دون الخوض في تفاصيل كثيرة، لينتهي في مهده، وبشكل أو بآخر لا تزال بعض من تلك البرامج التي تحمل شيئاً من سمات عالم تلفزيون الواقع مستمرة عربياً وأغلبها متعلق بمسابقات الطهو والتمثيل والغناء، وغيرها، لكنها بالطبع فقدت كثيراً من زخمها ورونقها مقابل السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة التي شكلت فيها هوساً حقيقياً لدى الجماهير والقنوات على السواء.
محاولات وعوائق واتهامات
وأخيراً، كانت هناك محاولة من "نتفليكس" لإعادة برامج تلفزيون الواقع العربية إلى الصدارة من خلال برنامج "دبي بلينج" Dubai Bling، والمعنى متعلق بالرفاهية والمبالغة، الذي شارك في مجموعة من المؤثرين الذين أسهمت مدينة دبي الإماراتية في صنع شهرتهم وثروتهم المليارديرية كذلك، حيث بدا البرنامج فارهاً ونخبوياً للغاية ويتحدث عن شريحة محددة تماماً لا تمت للطوائف الأكبر من الجماهير العربية بصلة، ويتنقل بين الطائرات الخاصة وممتلكات المشتركين وملابسهم الفخمة، وكذلك مشكلاتهم التي لا تشبه ما يعانيه عموم سكان المنطقة.
وعلى رغم أن تلك الأمور قد تكون عوامل جذب لا نفور، ففكرة التعرف على عوالم جديدة وحصرية ولم يختبرها المشاهد العادي يوماً هي بالأساس لافتة، لكن كونه عرض على منصة إلكترونية وأيضاً في ظل ظرف اقتصادي صعب ومعاناة تحاصر الطبقات الأكبر من مواطني العالم العربي، فقد حصد السخرية واتهامات بالسطحية وعدم المراعاة لواقع البلدان العربية، والتساؤل الذي تكرر في هذا السياق كان، "عن أي واقع يتحدثون؟".
وإن كان ما يتبادر إلى الذهن أن تلك البرامج بشكل عام تقدم على أنها تلقائية، وهي بعيدة كل البعد عن ذلك، لكنها على رغم كل شيء كانت مؤثرة للغاية في حياة جيل معين، وعلى طول الخط كانت تصطدم في المنطقة العربية بالعوامل الأخلاقية، بالتالي كانت محوراً لدراسات أكاديمية حاولت قياس تأثيراتها على سلوك مشاهديها، لا سيما على الشباب والمراهقين، باعتبارهم الأكثر تفاعلاً معها، وبينها دراسة صدرت عام 2011 حملت عنوان "تعرض الشباب الجامعي لبرامج تلفزيون الواقع وعلاقته بالاغتراب الاجتماعي لديهم" للباحث بجامعة عين شمس المصرية هاني إبراهيم أحمد، ومما خلصت إليه الدراسة فإن تعرض الشباب لتلك البرامج ينتج عنه شعور بالانفصال عن المجتمع الذي يعيش فيه وقيمه، بل وإحساس بعدم الاستقرار والشك في قيم وأخلاقيات من حوله.
وباستعراض أكثر من دراسة جميعها كان يشير بشكل أو بآخر إلى أن تلك البرامج تؤثر سلباً في أطفال ومراهقي العالم العربي وأنها تعتبر نوعاً من أنواع الغزو الثقافي، وأنها أبداً لم تكن مصدراً بريئاً للتسلية والترفيه.