لم تتمالك الأستاذة المساعدة في علوم السُميَّات، فويب ستابلتون، من "جامعة رورتغرز الأميركية من إبداء صدمتها وقلقها عن اكتشاف أن الجزيئات الدقيقة للبلاستيك، تعبر مشيمة الرحم وتصل إلى الجنين، بعد قرابة ساعة من تناول الأم مواد تحتوي شذرات بأحجام ميكروسكوبية ونانوية من البلاستيك. ويشار إلى تلك الجزيئات بمصطلح "أم أن بي أس" MNPs الذي يختصر الحروف الأولى من عبارة micro- and nanoplastic particles.
وقد أعربت الدكتورة ستابلتون عن تلك الدهشة المقلقة في حديث إلى مجلة "آفاق الصحة البيئية" [إنفرنومنتل هيلث بيرسبكتف] Environmental Health Perspective أخيراً، تناولت فيه نتائج تجارب أجريت على انتقال تلك الجزئيات الفائقة الدقة من "أم أن بي أس" بلاستيك، عبر خلايا المشيمة. ولاحظت ستابلتون أن انتقالها في غضون ساعة من تناول الأم لمركبات بلاستيكية تحتوي تلك الجزيئات، يثير أشد القلق. إذ تغلغل "أم أن أس" في خلايا المشيمة، بطريقة تشبه اختراق الجزئيات الكبيرة الحجم من المواد السمية، وذلك أمر لم يكن معروفاً قبل التجارب الأخيرة التي أُطلِعَتْ عليها ستابلتون كي تراجعها، فتكون عيناً علمية مراقبة للبحث من دون المشاركة فيه.
وبصورة عامة، تأتي الجزيئات البلاستيكية النانوية والميكروسكوبية من مصدرين أساسيين هما "بوليسترين" Polystyrene و"بولي إثيلين" العالي الكثافة High Density Polyethylene. ويستعمل "بوليسترين" في كثير من المنتجات البلاستيكية الشائعة الاستعمال في الحياة اليومية بما في ذلك أوعية المطبخ المتنوعة. ويستخدم الـ"بولي إثيلين العالي الكثافة" في صنع الأوعية التي يحفظ فيها الحليب وزيوت السيارات والشامبو والمطهرات المنزلية.
رعب آتٍ من أطباق المختبر
ووفق تلك المجلة المتخصصة في الصحة البيئية، فقد نهض فريق علمي من "جامعة أوترشت" الهولندية بتجربة استخدمت فيها خلايا جرى استيلادها في أطباق المختبر، بطريقة تجعلها مطابقة إلى أقصى حد مع خلايا المشيمة في الرحم. وخُلِطَت تلك الخلايا المخبرية مع جزيئات البلاستيك النانوية والميكروسكوبية، ثم استُخدِم التصوير بالتحليل الطيفي لتتبع مسار تلك الجزيئات والتفاعلات التي تمر بها.
وقادت الباحثة هانا ديسوزا تلك التجارب المبتكرة كجزء من بحوثها لنيل درجة الدكتوراه في "جامعة أوترشت". وتعمل ديسوزا في قسم علوم صحة السكان، ويتمحور عملها العلمي على السموم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستطراداً، نشرت الجامعة الهولندية بحث ديسوزا، مع تعليق لمتخصصتين لم تشاركا في البحث، بل أجرتا مراجعة علمية لهم. ولاحظت المتخصصتان أن البحوث عن اختراق الجزيئات البلاستيكية الدقيقة لأجسام البشر، باتت تتوالى بكثرة في السنوات الأخيرة، ما حرك أسئلة علمية، وكذلك بحوثاً متنوعة، عن تأثيراتها المَرَضية المتنوعة. وفي منحىً أقل إثارة للقلق، أفادت إحدى المتخصصتين بأن تغلغل جزيئات الـ"أم أن بي أس" في أجساد الأجنة، وكذلك البالغين، لا يبرر ربطها مباشرة بحالات المرض. واتفقت المتخصصتان على وجوب إجراء مزيد من البحوث عن ذلك الأمر.
وفي نفس مماثل، نقلت الدكتورة الأميركية ستابلتون إلى مجلة "آفاق الصحة البيئية" رأياً مفاده أن البحوث العلمية المتوافرة لا تعكس تعمقاً كافياً في رصد التأثيرات المرضَيَّة لتلوث أجساد البشر بالبلاستيك. وأرجعت ذلك إلى أن تركيز البحوث على تجارب المختبر، وأنها لم تصل بعد إلى مرحلة الاشتغال على تأثير البلاستيك المباشر على الخلايا في أجساد البشر. وفي المقابل، لفتت ستابلتون إلى وجود بحوث كثيرة أثبتت أن جزيئات البلاستيك النانوية والميكروسكوبية تتغلغل في الرئتين والجلد والدم، مشيرة إلى أن مجموعة من البحوث ربطتها مع الاضطرابات المرضيَّة في عمل الغدد الصماء التي تُمِدَ الجسم بالهرمونات المختلفة.
مسلسل البلاستيك من دون خاتمة
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن عام 2022 قد حفل بسلسلة من الاكتشافات التي شكلت اختراقات علمية إذ رصدت وجود جزيئات البلاستيك النانوية والميكروسكوبية في ثلوج القطب الجنوبي ودماء البشر، وأثبتت أنها تنتقل إلى صغار الأطفال عبر رضاعات الحليب. ويذكر ذلك بأن بحوثاً رائدة مماثلة كشفت عن وجود جزيئات الميكروبلاستيك في الهواء ومياه الشرب والأرحام وأنسجة بشرية متنوعة، إضافة إلى مياه المحيطات وأسماكها.
ولعل تلك المعطيات تشكل مناسبة للتذكير أيضاً بأن التلوث بالبلاستيك في البيئة عموماً وصل إلى أحجام هائلة، مع ما يعرف عن صعوبة التخلص من تلك المادة التي تحتاج قروناً كي تتفكك بصورة طبيعية، بل أن عملية تفكيكها والتخلص منها يملك غالباً آثاراً بيئية مضرة أيضاً. ويبدو أن حكاية علاقة البشر وأرضهم وحضارتهم مع البلاستيك، لم تنته. ليس بعد!