بداية "فيديو الكوبري" - أو مشاعر أو عاطفة أو حرمان أو جرأة الكوبري، بحسب المتلقي - تليق بالعام الجديد، فكل عوامل الإثارة والمغامرة متوافرة، وكل "توابل" التسخين والتهييج موجودة، وكل الأطراف المتناحرة على مدنية الدولة أو ثيوقراطيتها أو خلطة الـ"فخفخينا" المازجة بين قليل من المدنية وكثير من الدينية بحسب الظروف والأحوال موجودة وناشطة وتدلو بدلوها.
فيديو الكوبري لم يكتف بإشعال أثير الـ"سوشيال ميديا" بل أضرم النيران شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ضارباً عرض الحائط بالأوضاع الاقتصادية الحالكة وبداية السنة الجديدة وأجواء البرد والامتحانات وأسعار البيض والزيت والشاي.
فتى وفتاة يجلسان أعلى "محور روض الفرج" في منطقة الخلفاوي شمال القاهرة. مشهد متكرر هنا وهناك على رغم الميول الاجتماعية والمظهرية بالغة التشدد والآخذة في التوسع في المجتمع المصري. تكرار المشهد واحد من مئات الأدلة التي تشير إلى التناقض المذهل في المجتمع بين تشدد مظهري وديني يثبت أقدامه كل يوم في ظل غياب شبه تام لدعوات تجديد الخطاب من جهة، وانفلات عديد من السلوكيات والقواعد الأخلاقية التي تغض عنها الغالبية الطرف طالما أنها تجري خلف الأبواب المغلقة أو أسفل الكباري المشيدة.
أعلى الكوبري
هذه المرة ما جرى كان أعلى الكباري، وفي وضح النهار، وهو ما أقام قيامة الملتزمين جداً وأثار غضبة المتدينين جداً، إضافة إلى ذهول المواطنين العاديين من "تجرؤ" الفتى والفتاة على القيام بما يقوم به آخرون ولكن في جنح الليل أو في غفلة من الأعين أو خلف باب مغلق. الفتى والفتاة - اللذان أثبتت التحريات وكشفت التحقيقات وبينت الاستخبارات وأظهرت جهود البحث والاستقصاء أنهما طالبان في الثانوية العامة وجمعت بينهما علاقة عاطفية - باتا أشهر من نار على علم في مصر بين صبح الفيديو وضحاه.
القاعدة العريضة من المصريين والمصريات الذين صدمهم تلاصق الفتى والفتاة وهما جالسان على رصيف الكوبري، ثم قيام الفتى ليجثم على الفتاة التي استلقت على ظهرها لثوان معدودة قبل أن يعود إلى مكانه. هللوا للجهود الشرطية العظيمة وسرعة استجابة وزارة الداخلية اللحظية لتعقب طرفي الواقعة ومعرفة مكان إقامتهما والكشف عن الأحرف الأولى من اسميهما، والتوفيق والسداد في إلقاء القبض عليهما، وتصويرهما بعد تمويه الوجهين الصغيرين وهما واقفان أمام مكتب المأمور لطمأنة الجموع الغفيرة بأن "المجرمين" قد وقعا في قبضة العدالة، وهي القبضة التي بدأت بجهود وزارة الداخلية.
تم اتخاذ الإجراءات
"الداخلية" أصدرت بياناً جاء فيه أنه "في إطار جهود أجهزة وزارة الداخلية لكشف ملابسات تداول مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر خلاله شاب وفتاة يقومان بأعمال منافية للآداب بالطريق العام، وبإجراء التحريات أمكن تحديد مكان الواقعة في دائرة قسم شرطة الساحل في مديرية أمن القاهرة؟ كما تم تحديد الشاب والفتاة (مقيمان بدائرة قسم شرطة الشرابية). وبمواجهتهما أقرا بصحة ارتكابهما الواقعة، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية".
تنفست الملايين الصعداء عقب البيان، وذهب بعضهم إلى الثناء الشديد على يقظة الأمن وفطنة رجال الشرطة وجاهزية أدواتها وإمكاناتها وهو ما مكنها من الوصول إلى "الجناة" بهذه السرعة المذهلة، لكن آخرين تساءلوا عن الحكمة أو الغرض أو الهدف أو المنطق أو الروعة في المساهمة بالتشهير بمراهقين، حتى ولو ارتكبا عملاً غير لائق أو يناقض العادات ويناهض التقاليد.
الفريقان دخلا في سجالات حامية في الواقع وعلى الأثير. الغالبية المطلقة على الجبهتين اتفقت على أن الفعل كان فاضحاً، وأن الواقعة بكل تأكيد صادمة، وأن التفاصيل خادشة للحياء حتى ولو كان الحياء يظهر حيناً ويختفي أحياناً بحسب انتماءات الأشخاص وأيديولوجياتهم.
أيديولوجيات متغيرة
الأيديولوجيات الثقافية والدينية المتغيرة في المجتمع المصري تكشف عن نفسها بشكل واضح في كل حادثة أبطالها من الجنسين ووقائعها تتوافر فيها خلطة المشاعر والعلاقات العاطفية، ويا حبذا لو كان هناك قليل من الجنس.
فتاة تتعرض للتحرش الجنسي في الشارع، تصرخ وتطلب المساعدة، يتجمع المارة، وحين يعلمون ما جرى ينقسمون إلى فريقين: الأول ينصحها بأن تتقي الفضيحة وتكفي على ما جرى "ماجوراً" وتتظاهر بأن شيئاً لم يحدث. والثاني يلومها لأن عليها أن تتحشم أكثر في مظهرها، فإن كانت غير محجبة تتحجب، وإن كانت محجبة تتنقب، وإن كانت منتقبة تخفي عينيها وهكذا. قلة قليلة غير معتد بها تطالب الفتاة باللجوء إلى الشرطة والإصرار على نيل حقها، لا سيما أن نصوصاً قانونية عدة تضمن لها هذا الحق. وهذه القلة القليلة تصطدم عادة بميل شرطي لعدم "إهدار" الوقت في حادثة تافهة كهذه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الحادثة "التافهة" تتراوح بين التحرش اللفظي والجنسي بدرجاته المختلفة والذي تفاقم بشكل كبير في المجتمع المصري منذ نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات. ويربط بعضهم بين تنامي التيارات الدينية المتشددة التي تدق على أوتار التدين المظهري وتعادي الإناث بشكل كبير ولكن في صورة "تكريم" لهن عبر الإخفاء والإبقاء في البيت والحرمان من التعليم أو تخصصات معينة فيه من جهة، واعتبار وجود الأنثى في الشارع أو وسائل المواصلات أو العمل أو الدراسة دعوة إلى التحرش بها، إن لم يكن بالفعل فبالقول أو الإمعان في النظر.
وبالنظر إلى ترسانة القوانين فإن القوانين المصرية مليئة بالعقوبات الموجهة إلى المتحرش والتي تم تغليظها غير مرة، وضلع في الدعوة لذلك الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
فجوة الكتب والشارع
لكن الفجوة بين كتب القانون ومجريات الشارع عميقة. خوف المتحرش من الفضيحة والوصمة، والربط بين مظهر الفتاة حتى لو كانت محتشمة أو محجبة أو منقبة وتعرضها للتحرش، ووساطة الغالبية لأن الذكر الذي تحرش بالضحية "غلبان" أو "مسكين" أو "محروم" أو "متزوج ولديه خمس عيال" أو "غلطان" أو "يا بخت من قدر وعفي"، وهكذا فقائمة مثبطات الإبلاغ ورد الحق طويلة، ولا تخلو من ثقافة مقاومة شرطية لما يتعلق بالمضي قدماً في بلاغات التحرش.
لكن ما جرى على "الكوبري" لم يكن تحرشاً. فالفتاة لم تشك أو تقاوم أو تبادر بالإبلاغ، لكن الملايين آخذة في الولولة على الأخلاق التي ضاعت والسلوكيات التي خربت والدين الجاري هدمه ومشاعر المتدينين الآخذة في التعرض للجرح والخرق والإساءة. جانب آخر من ردود الفعل ترى في ما جرى أمراً مزعجاً ومقلقاً وذلك لنوع "الفعل الفاضح"، حيث لم يقف الأمر عند حدود قبلة مسروقة أو لمسة مموهة أو حضن في غفلة من الزمن، لكنه امتد إلى درجة أبعد من ذلك، حتى ولو لم تستغرق أكثر من عشر ثوان.
ثوان فارقة
الثواني العشر، وفي أقوال أخرى 13 ثانية، التي يقال إنها تعود إلى شهر أبريل (نيسان) الماضي لكن تم تحميل الفيديو قبل يومين، فتحت أبواب التنقيب عن عقوبة الفعل الفاضح في الطريق العام. وحالياً يتم تداول نص قانون العقوبات في مادته 278 على الأثير، وكأن الجميع صاروا فقهاء قانون ومحامين ومدعين وقضاة. وهذه المادة تنص على أن "كل من فعل علانية فعلاً فاضحاً مخلاً بالحياء يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو غرامة لا تتجاوز 300 جنيه (نحو 12 دولاراً)". واشترط القانون توافر ثلاثة أركان لتكون الجريمة "فعلاً فاضحاً علنياً"، وهي "فعل مادي يخدش حياء المرء حياء العين أو الأذن، والعلانية تشترط مشاهدة الغير للفعل، والقصد الجنائي هو تعمد الجاني إتيان الفعل الفاضح".
الفعل الذي جرى على الكوبري التقطته كاميرا أحد المواطنين الذي تبرع بتصوير ما يجري، ولم يكتف بذلك بل سارع إلى تحميله على الأثير العنكبوتي. على رغم أن الغرض من التحميل يبقى في علم الله ونفس من قام بالتحميل، فإن تحميل مقطع يتسم بالسخونة وتتوافر فيه عوامل الإثارة و"شاهد قبل الحذف" و"إلحق المشهد الساخن" غالباً يعني تحقيق مشاهدات مليونية.
عموماً، لقد تحقق هذا الهدف ومعه حفنة من "الإنجازات" والآثار الجانبية والسجالات القانونية والثقافية وبالطبع الدينية وكذلك المتعلقة بحركة بناء الطرق وتشييد الكباري (الجسور).
بطل الأبطال
صاحب الفيديو الذي صوره من مكانه في شرفة أو نافذة تطل على الكوبري وجد نفسه متأرجحاً بين كونه "بطلاً قومياً" أو "حامي حمى الأخلاق أو الدين" أو كليهما، وكذلك مخطئ ينتظر العقاب. تشير وجهة نظر قانونية متداولة بشكل كبير إلى أن ما قام به من تصوير يعرضه للعقوبة القانونية. فعلى رغم أن القانون المصري يسمح بتصوير الآخرين في أماكن عامة، فإنه يعاقب على تصويرهم في الأماكن الخاصة وملحقاتها. ومن صور الفيديو ربما يستحق عقوبة في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات التي تنص على أنه "يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه (نحو 2000 دولار) ولا تتجاوز مئة ألف جنيه (نحو أربعة آلاف دولار) أو بإحدى العقوبتين كل من نشر عن طريق الشبكة المعلوماتية أو وسائل تقنية المعلومات، معلومات أو أخباراً أو صوراً وما في حكمها تنتهك خصوصية أي شخص من دون رضاه، سواء أكانت المعلومات المنشورة صحيحة أم غير صحيحة".
طبقية القُبلة
صحة الواقعة تأكدت بعد أن اعترف الفتى والفتاة لدى إلقاء القبض عليهما من قبل الشرطة، لكن كثيرين تطرقوا على سبيل الدعابة السوداء أو السخرية اللاذعة إلى فروق "القبلة" الطبقية واختلافات الفعل الفاضح بحسب الحي أو المنطقة. يقول بعضهم ساخراً إنه لو كانت "القبلة" أو الفعل في "الزمالك" (أحد أحياء القاهرة الراقية) فإنه لا ضرر أو ضرار أن يقبل أحدنا الآخر في الشارع، أما إن جاءت القبلة أو الفعل على "كوبري الساحل" فإنها حتماً علامة من علامات الساعة، ودليل على موت الأخلاق وخراب الدين وانقراض المتدينين وتعرض الأمة لخطر الفناء.
على جانب السخرية اللاذعة أيضاً غرد أحدهم بأن قبول الفتاة لـ"الفسحة" مع صديقها على رصيف الكوبري وليس في مقهي خمس نجوم أو مطعم فاخر دليل على أصالة معدنها ورقي تربيتها.
لكن السخرية تقابل أيضاً بكثير من المطالبات بـ"الستر على الفتاة" و"حماية مستقبل الفتى"، وهي مطالبات تعكس كذلك أولويات المجتمع الثقافية، حيث سمعة الفتاة باتت في مهب الريح وليس مستقبلها، أما سمعة الفتى فلا يعيبها فعل فاضح، بل يلحق بها محضر الشرطة وإجراءات المحاكمة والأحكام القضائية وتهديد مستقبله المهني.
جبروت "الترند"
مهنياً، تعاملت وسائل الإعلام التقليدية مع فيديو الكوبري وتبعاته المشتعلة بحال مرتبكة من محاولة الاحتفاظ برصانة الإعلام مع إمكانية اللحاق بجزء من "الترند". تمويه الصورة مع عناوين ساخنة مثل "ما نوع الفعل الفاضح الذي أتى به الفتى؟" أو صورة الفعل مع سؤال لرجل دين في حكم من قام بفعل شائن في الطريق العام، أو مفاجآت مدوية في فيديو الكوبري وغيرها من محاولات ركوب "الترند" الجبار.
جبروت "الترند" وركوبه لم يخل كعادته من حرص هواة الصيد في مياه الأحداث العكرة على الدق على أوتار مناهضة النظام المصري. قنوات إقليمية وأدواتها الإعلامية المختلفة على أثير الـ"سوشيال ميديا" تدق بعنف على "الفتى والفتاة المسكينين اللذين لاحقتهما الشرطة وتركت المسؤولين عن احتراق كوبري في شرق القاهرة قبل أيام من دون ملاحقة أو مساءلة". آخرون يدقون على وتر يحبونه وهو "النظام الذي انقلب على أول رئيس يدخل سجادة صلاة إلى قصر الرئاسة (محمد مرسي) تشيع في عهده الفاحشة على الطريق العام"، و"الشعب الذي أسقط الجماعة (الإخوان المسلمين) التي كانت ستطبق الشريعة ينعم في أجواء الأفعال الفاضحة في الشارع" وغيرها من التعليقات المتوقعة.
الطرحة أولوية
خارج إطار المتوقع، فإن التدقيق في الفيديو يثير عديداً من النقاط التي يصلح كل منها موضوعاً للبحث الاجتماعي وقضية للتحليل الثقافي. الفتاة عقب اعتدالها في جلستها بعد "الفعل الفاضح" لم تبادر إلى ترتيب التي شيرت أو البنطلون، بل إلى إعادة "الطرحة" إلى مكانها، وهو ما يطرح السؤال حول قضية الحجاب في مصر وما الذي يمثله ويعنيه. هل هو رمز ديني أم فعل ثقافي أم فرض اجتماعي أم أداة ضغط سياسي أم وسيلة إشهار هيمنة لتيار ما؟
وبعيداً من التيارات السياسية والدينية والاجتماعية، فقد تمت الواقعة في وضح النهار وفي يوم عمل، أي إن الطريق أعلى الكوبري وأسفله كما يظهر من الفيديو كان يعج بالمارة والسيارات. لم يكن الوقت ليلاً، ولم يكن اليوم عطلة. وهذا يطرح أسئلة حول "جرأة" الفتى والفتاة ومفهومهما للحرية الشخصية وترتيب الأولويات ومكانة المجتمع لديهما وقناعة كل منهما بما يفعل أو يتمنى فعله وما يفرضه عليهما المجتمع من أفعال وما يمنعهما من فعله.
ما فعله المئات من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي بالفيديو أيضاً جدير بالاهتمام. تزخر المنصات بمقاطع فيديو صنعها مستخدمون، معتمدين على صور أو أجزاء من الفيديو الأصلي ثم إضافة حكم ومواعظ، أو دس مادة صوتية يتصورون أنها إعلامية أو توثيقية ملونة إما بالسخرية أو بالدروس الدينية أو بالسرد مع الجملة الذهبية "لا تنسى تفعيل الجرس والاشتراك في القناة". فمصائب قوم عند قوم فوائد، والأفعال "الفاضحة" عند بعضهم الآخر تنشيط لقناة الـ"يوتيوب" وتنمية لقاعدة المتابعين وزيادة في عدد الدولارات والسنتات المحرزة.
غالب الظن أن الحدث سيمضي والحادثة ستسقط بالتقادم، لحين مجيء حدث آخر وحادثة جديدة تستدعي الحراك وتستوجب التحركات.