"شباك مكسور" يطل على مكان خرب يلقي فيه الناس نفاياتهم، لا تسمح الظروف الاقتصادية الصعبة لصاحب البيت بإصلاحه، فيصبح مصدراً للروائح الكريهة التي اعتادها أهل بيته، واعتادوا، كذلك، تطفل الجيران الذين يكادون يقيمون معهم في البيت عبر هذا الشباك المكسور.
اتخذت الكاتبة رشا عبد المنعم هذا الشباك "النافذة" تكئة، أو وسيلة، لتطرح رؤيتها عبر نصها "شباك مكسور" وصاغ منه المخرج شادي الدالي عرضه المسرحي الذي يقدمه على مسرح الطليعة في القاهرة.
أول ما يلفت في هذا العرض هو الديكور الذي صممه وائل عبدالله إذ تماشى تماماً مع الرؤية التي أراد المخرج طرحها، وكان عاملاً مهماً ومؤثراً في توصيلها إلى المشاهدين. فكل شيء صُمّم، جاء بشكل مائل وكأنه في سبيله إلى الانهيار، حتى البيوت الملاصقة للبيت الذي تجري فيه الأحداث، تتخذ الوضع المائل ذاته، وكأنه حال المجتمع كله، مجتمع "حاله مايل" كما يقولون، فضلاً عن أن هناك نقصاً ما وتشوهاً ما في مفردات البيت، بعض الأجزاء غير مكتمل، بعضها متهدم، بعضها كئيب وخافت الإضاءة بشكل دائم، والألوان بصفة عامة باهتة، ما يزيد على الإحساس بحالة التداعي التي عليها البيت.
اعتمد العرض على راو مشارك "أحمد مختار"، هو صاحب هذا البيت الذي ربط بين المشاهد المتتابعة في حكيه عن الزوجة والأم والأولاد والجيران، (نادية شكري ومجدي عبيد عولى كمالو ومروان فيصل ومروة كشك وهند حسام الدين) وشارك كذلك في تجسيد الحكايات باعتباره بطلها الأول، إذ تقع كل المشاكل فوق رأسه هو.
الموظف المتقاعد
من خلال الحكايات، نتعرف على معاناة هذا الموظف المتقاعد وأسرته، التي جاءت بمثابة تعبير عن وضع المجتمع وأزماته الاجتماعية والاقتصادية، فكل واحد، سواء من أفراد هذه الأسرة أو من جيرانها، يحمل مرضاً اجتماعياً ما، وإن جاءت الحكايات متوسلة بالجمالي بعيداً من المباشرة أو ما يمكن اعتباره منشوراً سياسياً، فهو عرض يجرح ولا يُسيل دماً، يُلمح ولا يُصرَح، يهمس ولا يزعق، يعرض لوضع مجتمع مأزوم بشكل حيادي من دون تعليق أو تدخل، تاركاً لمشاهده حرية اختيار زاوية النظر التي يتعامل بها معه.
إنها مأساة كل رجل يُحال إلى التقاعد وتكثر همومه، وسط ظرف اقتصادي صعب لا يمكنه حتى من إصلاح مجرد شباك مكسور يجلب له الكثير من المشاكل، وكذلك مأساة أفراد مجتمع يعاني أزمات عدة، بعضها شارك هو في صناعتها، والبعض الآخر بسبب ظروف خارجة عن إرادته.
الأم القعيدة، الخرفة التي تمضي يومها متحدثة مع أشخاص وهميين في هاتفها الجوال، وبعد ذلك نكتشف أن هاتفها من دون شريحة أساساً تمكنها من الاتصال، والابنة التي تزوجت شاباً في بداية حياته العملية وأنجبت منه ولدين، وتحت وطأة الظروف الصعبة يختفي من حياتها، فتُضطر إلى الإقامة في بيت والدها لتزيد وطأة الضغط عليه، والزوجة التي ما عادت تهتم بزوجها وانشغلت عنه بالبرامج الدينية التي يبثها التلفزيون، واقتصرت علاقتها به على إمطاره بوابل من الطلبات التي تحول ظروفه من دون الاستجابة لها، والابن المنشغل بشؤونه الخاصة، والجار الذي يشارك الأسرة حياتها عبر النظر من الشباك المكسور، أو عبر قفزه منه ليكون داخل البيت متى أراد، وهكذا وجد صاحب المنزل نفسه محاصراً بالمطالب، ومنتهكاً في خصوصياته، ومهملاً وسط أفراد أسرته، الذين انشغل كل منهم بحياته الخاصة.
وعلى عكس الرجل في مسرحية "قبل الإفطار" للأميركي يوجين أونيل، الذي أمطرته الزوجة بالطلبات أثناء اغتساله في الحمام، وبعدما أنهت قائمة الطلبات مشفوعة بعبارات التأنيب، فوجئت به وقد شنق نفسه، ليترك لها الجمل بما حمل. على عكس بطل أونيل، فإن الرجل في "شباك مكسور" يقرر التضحية بالأسرة كلها، على الرغم من محبته لهم جميعاً، فقط لأنه لم يعد بإمكانه احتمال كل هذا الضغط، يضع لهم السم في الطعام، ويتناولونه جميعاً إلا هو. وعلى الرغم من أنهم أكلوا بشراهة غير معتادة، فإن السم لم يؤثر فيهم، بل جعل وجوههم أكثر تورداً، ليكتشف الرجل أنه فاشل حتى في تحقيق هذا الغرض، فقد استعمل سماً "محلي الصنع" وكأن كل شيء محلي لا يعوّل عليه.
كان الاسم المقترح للعرض "شباك مكسور" أو "صُنع في مصر"، ويبدو أنهم فضلوا "شباك مكسور" إمعاناً في الابتعاد عن المباشرة ، ورغبة في توسيع الدلالة وتعددها، ليتركوا للمشاهد حرية التأويل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الطبقة الوسطى
سعى العرض، من دون ضجبج أو افتعال إلى إدانة الواقع الذي تعيش فيه هذه الأسرة المنتمية إلى الطبقة الوسطى، تلك الطبقة التي ساءت أحوالها الاقتصادية، إلى الدرجة التي تدفع الأب – في العرض المسرحي- إلى محاولة قتل أولاده وأمه وزوجته، كما دفعت آباء غيره- في الواقع- إلى الفعل ذاته، ولعل الكاتبة استقت نصها من الواقع ذاته الذي تحياه والذي أصبح مليئاً بمثل هذه الممارسات التي لم يعتدها المجتمع من قبل.
على بساطة العرض وخفته في بعض المشاهد التي جاءت بملمح كوميدي لتخفيف حدة القتامة، فإنه يمثل ناقوس إنذار، أن التفتوا إلى هذه الطبقة التي تتآكل تماماً، بخاصة أنها بمثابة "رمانة الميزان" في مجتمعها، إذا تآكلت، تآكل المجتمع كله وانهار.
نجح مخرج العرض شادي الدالي في تقديم رؤيته بشكل بسيط، مستغلاً الراوي في الربط بين المشاهد التي جاءت سريعة ومتتالية، حريصاً على تكثيف مشاهد الحكي حتى لا يصيب المشاهد بالملل، حتى أنه لم يلجأ إلى الإظلام في الانتقال من مشهد إلى آخر، فجاء العرض كطلقة واحدة، وكأنها الطلقة السريعة المصوَّبة بدقة إلى الواقع الذي يتوجه إليه.
أهم ملمح في هذا العرض أن المشاهد يجد نفسه فيه، بمعنى أن العرض يلامس همومه اليومية، وكأن المشاهد قد تحول إلى جزء من العرض، وهذه ميزة مهمة في هذا النوع من المسرح صاحب التوجه الاجتماعي، لذلك لم يهتم المخرج كثيراً بفكرة استعراض الإمكانات، ولم يلجأ إلى حيل وألاعيب مسرحية تعطي عرضه مسحة من الحداثة أو حتى المغامرة التي يلجأ إليها البعض بغرض البحث عن جماليات مجانية تُجلب لذاتها فحسب من دون أن تكون فاعلة في الدراما، هو عرف ما يريد أن يوصله، فاختار أبسط الطرق، وليس أسهلها، فوصلت الرسالة طيّعة من غير سوء.