مثل البحث عن الكنوز أو الدفائن المطمورة تحت الأرض، بخاصة في المناطق الأثرية المنتشرة في تونس، هاجس عدد كبير من التونسيين من كل الفئات العمرية الباحثين عن الثراء السريع باستخدام الآلات الحديثة للكشف عن المعادن في باطن الأرض في المواقع الأثرية، أو بالاستعانة بمن يسمونه "العزام" الذي يستخدم مواهب وقدرة خارقة يدعي أنه يمتاز بها عن غيره في طرد الجن أو حارس الكنز قبل استخراجه، باستعمال مزيج متنوع من البخور والحشائش والتعاويذ والطلاسم. واستهدفت عمليات الحفر عن الكنوز عديداً من المواقع الأثرية التي تشكل رصيداً رمزياً ثقافياً وحضارياً هاماً.
واقترن البحث عن الكنوز بكثير من الحكايات التي يمتزج فيها الواقع بالخيال، ويتداول بعض التونسيين حكايات غريبة حول عدد من الكنوز المطمورة تحت الأرض، والتي عجز أكثر "العزامين" شهرة عن استخراجها، "لشدة حراستها من قبل الجن الذي يكلف الثعابين والأفاعي بتأمينها"، بحسب اعتقادهم.
البخور لطرد الجن الحارس
التقينا الشيخ الطاهر (رفض تزويدنا باسمه كاملاً) قائلاً، "من يدري؟"، لدى سؤالنا عن أماكن الكنوز والقدرة على استخراجها (خوفاً من التبعات الأمنية). هو من سكان "حي الزهور" في ضواحي العاصمة، بدا متردداً في البداية، إلا أن وساطة أحد الأصدقاء سهلت مهمتنا في محاورته بعد جهود مضنية لإقناعه بذلك. استقبلنا بابتسامة حذرة، وهو يرتدي لباساً تقليدياً (جبة وبرنساً تونسيين)، تحدث بلهجة الواثق من نفسه، وهو الذي أكد أنه "يحفظ جزءاً من القرآن الكريم، وعاش 15 سنة في المغرب"، حيث تعرف على مغاربة "تعودوا استخراج الكنوز والدفائن باستخدام الجن".
ويضيف الطاهر أن "قراءة العلامات وفك شيفرات الرموز المنقوشة على الصخور القريبة من الكنوز، مهمة صعبة لا يتقنها أي أحد، وهي علامات دالة على موقع الكنز شمال الصخرة المنقوشة أو جنوبها بحسب حجم الرموز واتجاهاتها".
ويؤكد الشيخ الطاهر أن "بإمكانه إخراج الكنز من أي مكان في باطن الأرض بالاستعانة بقدراته في طرد الجن الحارس للكنز، وباستخدام أنواع من البخور والجاوي والعنبر، لتحييد حارس الكنز الذي يظهر أحياناً على شكل أفعى أو جن غير مرئي، وقد يشكل خطراً على من يقوم بعملية الحفر بطريقة عشوائية".
وبخوف جلي رفض الإجابة عن سؤالنا إذا ما كان قد أخرج كنوزاً من قبل، طالباً إنهاء اللقاء، ومتعللاً باقتراب موعد أذان صلاة العصر، ثم استأذن وغادرنا مسترقاً النظر إلينا، وهو يمرر براحة يده على أسفل لحيته.
خريطة وآلة متطورة تكفيان
في المقابل، يرفض محمد (اسم مستعار) ما يروجه من يسميهم "المشعوذين"، لافتاً إلى أن "الكنوز موجودة في عدد من المناطق في تونس، واستخراجها لا يتطلب سوى خريطة، أو دراسة علمية لمواقعها، وبخاصة مواقع المعابد الرومانية التي يخزن فيها الكهنة ثرواتهم من الذهب والفضة والهدايا"، على حد قوله، مضيفاً أن "استخدام آلة حديثة لكشف المعادن، يساعد في استخراج الكنز الذي عادة ما يوجد في عمق يتراوح بين 4 و6 أمتار".
وتحدث محمد عن تجربته في الحفر عن الكنوز، بالاستعانة بشيخ يدعي القدرة على تحييد حارس الكنز، مقابل 250 ديناراً (نحو 80 دولاراً)، من دون أن ينجح في استخراجه على رغم وجود ما يقول إنها "علامات بأحرف رومانية تدل على وجود الكنز"، معتبراً أن "الطريقة الأنسب لاستخراج الكنوز هي الآلات الحديثة لكشف المعادن، وهي ممنوعة في تونس، ويتم تهريبها من الدول المجاورة".
وخلص إلى أنه لا يكترث بالقانون الذي يجرم هذه الممارسات، وأنه مصمم على الاستمرار في البحث عن كنز ينتشله من الفقر.
"فيسبوك" سوق لبيع آلات كشف المعادن
وتزدهر تجارة بيع وشراء آلات الكشف عن المعادن، وأحياناً القطع الأثرية في صفحات التواصل الاجتماعي، وبالبحث في عدد منها، وجدنا صفحات متخصصة في بيع الآلات الحديثة والمتطورة تكنولوجياً في الكشف عن المعادن، وتتراوح أسعارها بين ألف دينار تونسي (300 دولار) و6000 دينار (2000 دولار). وتواصلنا مع شخص تونسي الجنسية يضع اسماً مستعاراً على "فيسبوك"، وقد نشر إعلاناً منذ أكثر من شهر لبيع آلة لكشف المعادن.
وأكد لنا أنه "موجود في محافظة القيروان (وسط تونس)، ومستعد لبيع آلة كشف المعادن بـ700 دينار تونسي (200 دولار)"، مضيفاً أنها "قادرة على كشف المعادن التي توجد على عمق مترين أو أكثر".
العلامات والرسوم لا تعني وجود كنز
ويؤكد ياسر جراد محافظ مستشار التراث والمشرف على قسم المحجوزات الأثرية في المعهد الوطني للتراث، أن "كل ما يروج حول وجود كنوز مطمورة تحت الأرض في المناطق الأثرية، هي مغالطات أدت إلى الاعتقاد أن كل موقع أثري يحتوي على كنوز، وهو ما شوه عديداً من المواقع الأثرية بالحفريات العشوائية".
ويستبعد جراد "وجود كنوز بالمعنى المتداول بين عموم التونسيين، فالعثور على قطع نقدية ذهبية في جرة أو صندوق أمر نادر جداً، إلا أنه يقر بوجود ظاهرة الاتجار بالقطع الأثرية النادرة التي يتم العثور عليها من خلال الحفريات العشوائية، والتي تباع في السوق السوداء وفي مسالك خاصة، تسيطر عليها شبكات عابرة للحدود، وتستهدف هذه العمليات المخطوطات القديمة، ولوحات الفسيفساء، والأواني الفخارية التاريخية".
ويذكر محافظ التراث أن استخدام الآلات التي تكشف عن المعادن تحت الأرض ممنوع في المناطق الأثرية، مشدداً على أن "الكنوز" (إن وجدت) لا تحتاج إلى علامات، كما يدعي البعض"، معتبراً أن "العلامات الموجودة على الآثار، تكون عادة عند مداخل المدينة أو البيوت، وهي علامات للزينة أو للتبرك أو لاستحضار موقف أو حادثة، لأن كل حقبة تاريخية لها معتقداتها، وهي ظاهرة موجودة إلى اليوم عند مداخل عدد من البيوت التونسية، ولا تعني وجود كنوز".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف جراد أن "ظاهرة الحفريات العشوائية في المناطق الأثرية مقلقة، ومنتشرة بشكل خاص في المناطق الداخلية، وهي ظاهرة قديمة تاريخياً، تحدث عنها ابن خلدون في القرن الرابع عشر"، لافتاً إلى أن "ما هو معلن عن حجم الظاهرة لا يعكس حقيقة الواقع لأن عشرات الحفريات العشوائية لا يتفطن إليها المعهد".
ونوه المسؤول عن المحجوزات في معهد التراث، إلى "مجهود الديوانة التونسية التي تقوم بدور هام في محاصرة ظاهرة تهريب الآثار، إذ يتم الاتصال بمصالح المعهد، كلما حجزت قطعاً تشتبه في أنها ذات قيمة أثرية".
ودعا محافظ التراث إلى "بناء عقلية مجتمعية جديدة تتصالح مع الآثار"، مشيراً إلى أن "المعهد الوطني للتراث له جانب علمي وآخر ميداني، وبإمكاناته المحدودة لا يمكنه تأمين مختلف المناطق الأثرية"، مشدداً على أهمية "تدخل جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها، للحفاظ على الرصيد الوطني الرمزي من الآثار، لأنها ليست مسؤولية المعهد وحده، بل هي مسؤولية وطنية مشتركة".
يذكر أن المعهد الوطني للتراث نظم سنة 2021، في المتحف الوطني بقرطاج، معرضاً وطنياً للقطع الأثرية المحجوزة التي يقدر عددها بأكثر من 45 ألف قطعة، تعود لحقب تاريخية مختلفة، تم عرض بعضها على حالتها من دون ترميم من أجل توعية التونسيين بأهمية المحافظة على الآثار.
تهديدات تطاول 30 ألف موقع أثري
لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد المواقع الأثرية في تونس، إلا أن التقديرات تشير إلى وجود أكثر من 30 ألف موقع في كامل تراب الجمهورية، وتكتشف الفرق المتخصصة التابعة للمعهد من حين لآخر مواقع جديدة.
ومنذ 2011 شهدت محافظة القصرين (وسط) آلاف الحفريات العشوائية والاعتداءات على الآثار، بحسب حمد الغضباني محافظ التراث بالقصرين، الذي أشار إلى أن "أعوان المعهد الوطني للتراث دونوا مئات التقارير حول هذه الحفريات، من دون أن تتم متابعة المسؤولين عنها".
ويضيف الغضباني أن "جميع المناطق الأثرية في تونس تشترك في التهديدات التي تواجهها من حفريات عشوائية وأنشطة فلاحية في المناطق الأثرية، على غرار تركيز بعض المنشآت فوق أو على أطراف مواقع أثرية، علاوة على التوسع العمراني، والتخطيط العشوائي لبعض المشاريع العمومية، وفي معظم هذه الحالات يتم تغييب مصالح المعهد الوطني للتراث".
ودعا محافظ التراث بالقصرين إلى "تنقيح القوانين أو سن تشريعات جديدة، وإعادة هيكلة المؤسسات المشرفة على التراث، وفي مقدمتها المعهد الوطني للتراث، وتوفير الإمكانات البشرية واللوجيستية الضرورية، إلى جانب توعية المواطنين وتثقيفهم حول أهمية الآثار باعتبارها رصيداً رمزياً وطنياً". ودعا إلى "إنفاذ القانون من خلال اعتبار جريمة الاعتداء على الآثار لا تسقط بالتقادم"، لافتاً إلى أن "المناطق الأكثر عرضة للحفريات العشوائية هي التي توجد في المناطق الريفية".
وبخصوص ما يتم ترويجه حول وجود خرائط تحدد مواقع الكنوز يقول محافظ التراث، إن "أغلب المواقع الأثرية معروفة للسكان القاطنين في جوارها، لذلك تستهدف بالحفر العشوائي من دون الحاجة إلى خرائط".
نزيف قاتل
ويضيف محافظ التراث أنه "سنوياً يتم حجز آلاف القطع، مما يشير إلى إفلاتها من الحجز، ويفترض أن يلفت ذلك نظر القائمين على وزارة الثقافة وغيرها من المؤسسات الأمنية والديوانية وأملاك الدولة، لمعالجة الأسباب الكامنة وراء تلك الظاهرة، سواء من خلال المبادرة بتقديم مشاريع قوانين أو توفير الإمكانات اللازمة لتخفيف هذا النزيف القاتل".
ودعا الغضباني إلى "الحزم في متابعة جرائم تهريب الآثار وجرد الآثار التونسية المعروضة في متاحف دول الغرب أو المحفوظة في مخازنه بالتعاون مع المتخصصين وأعضاء السلك الدبلوماسي في سفاراتنا في الخارج".
وخلص محافظ التراث في القصرين إلى أن المعهد الوطني للتراث "تحول في الوقت الحاضر إلى صندوق بلاغات لا غير، لأن قوانينه قاصرة عن متابعة المجرمين في حق آثار البلاد"، قائلاً، "أنا حزين على تراثنا الذي ينهب ويخرب ولا نجد من يصغي إلينا".
خمس سنوات سجناً
وتجدر الإشارة إلى أن القانون التونسي ينص على عقوبة "بخمس سنوات سجناً وبغرامة قدرها 50 ألف دينار (17 ألف دولار)، بحق كل من ينقب أو يحفر أو غير ذلك من أعمال البحث بهدف التفتيش عن الآثار المنقولة أو الثابتة، سواء بملكه أم بملك غيره من دون الحصول على ترخيص مسبق من الوزير المكلف التراث".
ويذكر أن آخر الإحصائيات تشير إلى الكشف عن أكثر من 200 قضية في التنقيب غير الشرعي للبحث عن الكنوز، من دون احتساب الحفريات التي تسجل ضد مجهول.