Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"إخضاع الكلب" رواية ترصد صراعات النفس وأمراضها

البطل عبدالرحيم يعيش أحوال التقلب بين اغتراب وواقع مأزوم

الرجل والكلب كما رسمهما هنري بوفور (صفحة الرسام - فيسبوك)

يجازف الكاتب المصري أحمد الفخراني في روايته "إخضاع الكلب" (دار الشروق – القاهرة)، مبحراً في البقعة البعيدة، العميقة، والمظلمة من النفس الإنسانية، ليستجلي أفكارها، ذكرياتها، رغباتها، مشاعرها، صراعاتها، والفوضى الداخلية التي تتخفى خلف ملامح حيادية لا تخبر بحجم الخراب الداخلي.

وامتثالاً لشرط يفرضه المنحى النفسي الذي اختاره الكاتب للسرد، كانت شخصية البطل نواة الحكاية ومركزها. فدارت الأحداث حول "هارون عبدالرحيم"، الشاب الذي تشرب في طفولته ثقافة قريته ومفرداتها، ثم قذفت به الأقدار إلى المدينة، ثم إلى أبعد من ذلك كثيراً، حين منحته المنظمة التي كان يعمل فيها مصوراً، فرصة السفر إلى ألمانيا. وقد أحالت هذه المعطيات- ضمناً- إلى صدمة حضارية تعرض لها البطل، لا سيما مع زواجه من ألمانية تدعى "باربرا". فالأبواب التي فتحت له على مصاريعها، وتدفقت عبرها ثقافات متباينة، فضلاً عن الظروف المجتمعية والاقتصادية والسياسية المعقدة التي كان قريباً منها بحكم عمله ونشأته، جعلته- رغم ما بدا ظاهراً من قدرته على التكيف- فريسة للبؤس، والاكتئاب، والاغتراب، والكثير من الاضطرابات النفسية. وهي الاضطرابات ذاتها التي عاناها أبطال فيودور دستويفسكي، رائد الرواية النفسية، فلم يختلف "هارون" عن "راسكولينكوف" بطل رواية "الجريمة والعقاب" في الشعور بالكآبة، والانطواء، وعدم الانتماء إلى محيطه الاجتماعي. كذلك أبدى ردود الفعل الانهزامية التي أبداها "ألكسي إيفانوفيتش"، بطل رواية "الزوج الأبدي" بعد تجرعه الخيانة والهجر. وتشارك مع البطل المبهم في رواية "حلم رجل مضحك"، حالة انعدام الشغف، وكراهية الحياة، والإعراض عنها.

رحلة إلى بواطن النفس

اتسقت رغبة الفخراني في سبر أغوار النفس الإنسانية، مع اعتماده أسلوب السرد الذاتي على لسان بطله "هارون عبدالرحيم"، الذي اكتشف مع استيقاظه من نومه في بداية الأحداث، وجود كلب في فناء منزله، ثم تفرع السرد في اتجاهين متقابلين، أحدهما أفقي تناول عبره مأزق الراوي، الذي لا يكن للكلاب من المشاعر سوى الخوف والكراهية، مع ضيفه، الكلب الذي حل عليه إجباراً وعنوة. أما الخط الثاني من السرد، فمضى في اتجاه عكسي عبر تقنيات التذكر والاسترجاع. وتكشفت من خلاله ملابسات تعرف البطل إلى "أسما"، المرأة التي جلبت الكلب إلى منزله، ثم بلغت ومضات "الفلاش باك" منطقة أبعد من الماضي، فنقلت صوراً من حياة سابقة، عانى فيها "هارون" مآسي كبرى، منها هرب زوجته، وخيانة صديقه، وشكوك ظلت تساوره في شأن أبوته لابنه الوحيد. وكانت هذه الأزمة محركاً للأحداث. وكانت أيضاً حيلة استباقية، تمكن عبرها الكاتب من إحكام قبضته على قارئه، في رحلة جسورة إلى بواطن النفس الإنسانية المعقدة، رصد خلالها ألواناً من المشاعر المركبة التي يتسيدها الخوف فتمتثل له وتتبعه القسوة، انعدام الثقة، التشظي، الكآبة والاغتراب...

حاول الكاتب- عبر بطله- رصد نواقص النفس الإنسانية، شهوتها للسلطة، حاجتها للشعور بالفوقية، ورغبتها في الحصول على الطاعة الكاملة غير المشروطة. ونقل صراعاتها الداخلية بين الأنا والأنا الأعلى، وانقساماتها بين الحب والكراهية، الشفقة والقسوة. وأبرز نواتج هذه الصراعات التي أوقعت البطل في براثن المرض النفسي، فكان نتاجها صوراً من السادية تجاه الكلب، والمازوخية تجاه نفسه.

ظلال فلسفية

تخللت الفلسفة النسيج الروائي، وتجلى حضورها مراراً، فكان استدعاء رواية "السيد بالومار" أحد هذه التجليات، لما اتسمت به وكل أعمال كاتبها إيتالو كاليفينو، من عمق فلسفي، ونظرة مغايرة للعالم والأشياء. وقد أراد الكاتب من جعلها خيار بطله للقراءة، أن يضفي عليه سمات فكرية ونفسية، تبرر عمق أزمته مع العالم، وتفسر تلك الفوضى العارمة في عوالمه الداخلية. وعزز هذه الغاية باستدعاء نيتشه، وإبراز أثره على شخصيته المحورية، وأيضاً على الكلبة البيضاء المرقطة، التي كانت جسراً دفع عبره بالفانتازيا إلى النص، من خلال ما دار بينها وبين "هارون" من أحاديث، كان لانسيابها في ديالوغات مسرحية، أثر في تعزيز الإيهام بالحدوث... "عزيزتي الكلبة البيضاء المرقطة، خطتي المجربة التي أمارسها لتخفيف وطأة الزمن، هي أني أقرأ بيأس، وأدخن بأمل. -عزيزي هارون، أنت أبله، نحن كلاب، لا نقرأ ولا ندخن".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استدعى الفخراني الميثولوجيا اليونانية عبر أسطورة أوديب، محيلاً إلى التماثل بين بطلها وشخصيته المحورية، وتقاطع مصائرهما المظلمة. وفي مقابل الأسطورة استدعى قصصاً حقيقية زادت من واقعية السرد وصدقيته، مثل قصة الكلب الياباني "هاتشيكو". ومرر حمولات معرفية أخرى- حول الكلاب وسلوكها- اقتضاها سياق الأحداث، فجاءت جزءاً أصيلاً من النسيج، وأحالت إلى واقع باتت فيه شاشات الهواتف، ومواقع التواصل الاجتماعي، طريقاً قصيراً للوصول إلى المعلومات، وإن تضاربت وتناقضت. ليكون هذا التناقض امتداداً لكل التناقضات الأخرى التي زخر بها النص، بدءاً من الشخصية المحورية، ومروراً بما احتواه الفضاء المكاني للأحداث "مدينة دهب"، من ثقافات متباينة، وأنماط متقابلة من الشخوص، جمعت بين النازحين من القرى، والفارين من المدن، الساعين إلى العزلة، والمسلحين بالفضول والرغبة في الاختلاط، لتكون تلك المدينة الساحلية بكل تناقضاتها ملاذاً للبطل الفار من صخب وقبح العاصمة، وارتباطها بالخيانة، وتجسيداً لما تحتاج إليه نفسه المضطربة من رتابة وحياد، وتلعب في الوقت نفسه دوراً محركاً للأحداث.

تقنيات سنيمائية

وظف الكاتب الصورة البصرية، في خدمة الصورة السردية، فاستخدم عين الكاميرا، وأتاح عبرها صوراً تمتلئ بالحركة. تنتقل من الشمولية إلى التفاصيل... "وصلنا أخيراً إلى شاطئ بعيد، في بقعة حرصت على أن تكون شبه خالية من المارة. حررته من القيد وجلست فوق صخرة، راقبته وهو يقترب من البحر ثم يعود خائفاً". أما الكلب "ونيس"، فلعب دوراً محورياً في النمو الدرامي للأحداث. واستطاع الكاتب من خلاله أن يضيء حجم العطب في شخصية "هارون"، إذ استفاد من خصائصه السلوكية، في استنفار اضطرابات البطل، واستجلاء أمراضه وصراعاته الداخلية التي تجلت بين حب للكلب ونفور منه، فتعمد إيذاءه، وحرص على حمايته، رغبة في استبقائه ومحاولات للتخلص منه: "كان قلبي يرتجف مع كل ضربة، لا من وطأة الذنب، بل من هول اللذة، فمن عمقها المجوف كبئر غائرة أضاءت روحي، كأني ولدت من جديد".

هكذا كانت علاقة الراوي بالكلب، باباً للعبور إلى العطب في نفسه، الناجم عن انهيار زواجه، وفرار زوجته بابنه، بينما كان سلوكه المضطرب صدى لطفولة لم يحصل فيها على العطف إلا ممزوجاً بالقسوة، ولم ينل فيها الحب إلا بعد مقايضته بالإذعان، والطاعة الكاملة، حتى إذا ما تغيرت الأدوار، وبات هو الأب والزوج، لم يتمكن من تكرار ما تلقاه في طفولته، لا سيما في ظل حماية الزوجة "باربرا" لابنهما مما وجدته تهديداً له. كذلك لم يتمكن من مجاراتها في ما أتاحته للابن من حماية زائدة، بل رآها إفراطاً يضره، عند أول مواجهة حقيقية له مع العالم. وأمام هذا العجز والضياع، انهزم البطل واستسلم للانسحاب من عالم ابنه، ليتفاقم اضطرابه وفوضاه الداخلية.

 وعلى رغم الاستباق بخيانة الزوجة، فقد دفع الكاتب ببعض المشاهد الضبابية التي شككت في كل ما ساقه الراوي كحقائق لا تقبل الشك. فكان رد فعل الخادمة على محاولته التحرش بها، وتبينه عدم سفر صديقه "سمير" إلى ألمانيا خلف "باربرا"، إضافة إلى ساديته مع كلبه، أسباباً تنتفي معها كل مسلماته، وتسقط عنها ثوب اليقين. وهذا ما جعل المساحة تتسع للمتلقي كي يشارك في لعبة السرد، ويختار طوعاً، إما الانحياز للحقيقة كما سردها الراوي، أو إنتاج حكاية بديلة تروج لحقيقة أخرى وتكون فيها الشخصية المحورية "هارون"، الجاني لا الضحية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة