بين عامي 1948 و1949 كان جان جينيه بالكاد تجاوز الـ37 من عمره حين قرر، إثر نشر كتابه الذي سيصبح الأشهر بين كتبه كلها "يوميات لص"، أن يكون ذلك الكتاب النص الأدبي الأخير الذي يصدره. صحيح أنه أعلن يومها اعتزالاً نهائياً، مؤكداً أنه سيتابع العيش كما يتراءى له وفي وضعية لا يريد من المجد أن يدنو منها. كان جينيه حينها مجهولاً تماماً على رغم تقديم غير مسرحية له، ليس فقط من الجمهور العريض، بل من أهل النخبة كذلك، بل أكثر من هذا كانت الشرطة تطارده في فرنسا كلها، وكان هو يتنقل تحت اسم مستعار ويقيم كعادته في فندق شديد البؤس، باسم مستعار آخر. كان كل ما يتعلق به يجعله مرشحاً لأن يكون واحداً من مشردي باريس البائسين الذين لا تعرف لهم هوية ولا يعرف لهم عنوان ثابت. غير أنه كما كان قد كشف في عدد من روايات ونصوص أتوبيوغرافية أصدرها سابقاً، كان صاحب موهبة أدبية مؤكدة. وإن كان "يوميات لص" سيوصله إلى أعلى درجات المجد على رغم أنفه والقرار الذي اتخذه يوم أصدره، فلقد كان ذلك بعد أن نفذ قراره وتوقف عن الكتابة الأدبية، إنما من دون أن يتوقف عن الكتابة. فما الذي حدث؟
سارتر على الخط
حدث ببساطة أنه ما إن انقضت عليه ست سنوات، وهو "عاطل من الكتابة" عاد إليها، ولكن كي يستأنف الكتابة للمسرح، فلقد كان من دون مقدمات، ومن دون أن يكون على معرفة مسبقة بأهل المسرح، كتب مسرحية نشرها من دون أن يأبه بها أحد قبل ذلك، فلفتت الآن نظر فرقة مسرحية تعمل في صالة "الإيتينه"، فقدمتها بعنوان "الخادمتان" في فصل واحد لينطلق جينيه من جديد كاتباً مسرحياً مرموقاً تحسب له ست من المسرحيات الكبرى التي كتبت وقدمت في باريس خلال السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، لكن جينيه لم يكن حينها لا يزال مجهولاً، وكان قد أضحى علامة في تاريخ المسرح الفرنسي الحديث من دون أن يغير عادات بؤسه وتشرده وممارساته غير القانونية ولا حتى الفندق البائس الذي كان يفضل إقامته فيه على الإقامة في أي مكان آخر.
ولنوضح هنا أن المجد الجديد الذي راح يحيط بهذا الكاتب الاستثنائي لم يتعلق بداية بمسرحياته التي لم ينقطع عن كتابتها طوال 30 عاماً تلت توقفه عن الكتابة الأدبية، بل تحديداً بالكتاب الذي جعله يتوقف عن تلك الكتابة، "يوميات لص". فالذي حدث كان أن الحياة الأدبية الباريسية تلقفت الكتاب حين "اكتشفته" مدهوشة معجبة وراحت تبحث عن الكاتب، وسيكون جان بول سارتر كبير المعجبين إلى درجة أنه أصدر بعد أقل من ثلاث سنوات على صدوره، كتابه الذي سيرفع بدوره جان جينيه إلى مصاف كبار الكبار في الحياة الأدبية الفرنسية، "القديس جينيه، مهرجاً وشهيداً"، ولم يكن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك. ففي ذلك الحين كان سارتر ملء السمع والبصر قادراً على أن يسحق أيديولوجيات ومذاهب ويرفع أخرى، وسارتر منذ قرأ "يوميات لص" لم يهدأ باله حتى أنجز كتابه عن جينيه، بل تحديداً عن تلك "التحفة" التي أصدرها جينيه متحدثاً فيها عن نفسه كلص حقيقي.
رواية وسيرة ذاتية
فإذا كانت "يوميات لص" قد بدت على شكل رواية، فإن القراء سرعان ما اكتشفوا تطابق ما تحكيه مع ما بات معروفاً من حياة ذلك الكاتب، بل سرعان ما أدرك القراء وغالباً بمساعدة النقد المكثف والمتعاطف الذي شرح الكتاب ممهداً لنص سارتر البديع والجريء، أن جينيه لم يضع هذا الكتاب، معلناً أن في نيته أن يكون كتابه الأخير، إلا لكي يبرر نفسه ويفسر سلوكه، كما سيفعل على أية حال بعد ذلك بعقود طويلة حين يصدر كتابه الأخير "أسير متيم"، الذي نظر إليه كثر على أية حال بكونه يستكمل "يوميات لص"، إنما بمنطق آخر. فـ"أسير متيم" فهم عموماً على أنه كتاب عن القضية الفلسطينية وعن ارتباط مؤلفه بالفلسطينيين قبل أن يتم التعامل معه لاحقاً باعتباره وصية فكرية عقلانية يحلل فيها جينيه هامشيته ومواقفه الملتبسة من كل ثورة وتمرد.
من المعركة إلى الهامش
والحقيقة أن السنوات الـ40 التي مرت بين "يوميات لص" و"أسير متيم" عرفت كيف تعطي "يوميات لص" مزاجاً غير الذي كان له يوم صدوره ودائماً من دون أن يقلل ذلك من استثنائية هذا النص، ولكن عما يحكي "يوميات لص"؟ تحديداً عن حياة اللصوصية التي عاشها جينيه فعلاً، وكان يعيش خلالها من سرقات صغيرة أو متوسطة يمارسها في باريس، ولكن بخاصة في مدينة برشلونة الإسبانية التي كان لا يتورع عن التوجه إليها كلما أحس في داخله "حاجة إلى أن يسرق". وهو يقول لنا، ولو مواربة في هذا الكتاب، أن الحاجة إليه لم تكن مادية، كما أنها لم تكن مرضية. كانت السرقة بالنسبة إليه نوعاً من النضال ضد "شرور المجتمع". هكذا حدد الأمر بكل بساطة، وهكذا أراده أن يكون منذ شرع في تلك الممارسة، ولنؤكد هنا أن هذا التفسير، وربما التبرير أيضاً كان هو ما فتن الحياة الثقافية الفرنسية، تماماً كما أن تمجيد جينيه للهامشية والهامشيين في "أسير متيم" سيكون ما يفتن قراء جينيه عند صدور هذا الكتاب كخاتمة لحياة أدبية كان سابقاً قد أعلن عن وضع حد لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يوميات أو لا يوميات
ولكن بعد كل شيء، هل نحن حقاً مع "يوميات لص" أمام يوميات حقيقية؟ في الحقيقة أن مصطلح يوميات كما هو معهود في هذا النوع من الأدب، لا ينطبق تماماً على هذا الكتاب، فعلى عادة هذا الكاتب التي لن يتخلى عنها حتى في كتابه الأخير، ها نحن نراه هنا يقوم برحلات مكوكية في المكان كما في الزمان من دون أن يكون ثمة تتابع حقيقي بين مسببات الأحداث ونتائجها، هو أسلوب يعتمد العشوائية من دون أن يبتعد عن لهجة الراوي الذي هو الكاتب نفسه، لكنه راو نجده مرة في باريس ثم نجده منتقلاً من دون تمهيد أو مبرر إلى مناطق أخرى غيرها، ولا سيما في برشلونة كما أشرنا، ولكن لماذا برشلونة؟ لأن جينيه كان يزورها بشكل متواصل ويحاول أن يقيم فيها أطول مدة ممكنة من دون أن يكون من مبرر لذلك، اللهم إلا كونها مدينة عرفت بكثرة اللصوص فيها. لصوص يملأون منطقة لارامبلا بشكل خاص. والطريف في الأمر، وجينيه لا يخفيه عنا، هو أن سلطات المدينة الأمنية كان من عادتها في ذلك الوقت المبكر أن تجمع اللصوص المعروفين لديها في كل مرة كان ثمة فيها حدث كبير في المدينة يستدعي تزاحم الزوار عليها، وتنقل اللصوص برضاهم فيقيمون ويأكلون في فنادق يبعد أقربها نحو 100 كيلومتر عن المدينة مانعة إياهم من الاقتراب من محيطها متعهدة نفقات إقامتهم وطعامهم.
نضال من نوع مبتكر
والحقيقة أن من يلفت ما يرويه جينيه نظره سيخيل إليه أول الأمر أن الكاتب يهذي أو يمزح، لكن من يزور برشلونة سيجد كثراً يروون له الأمر بوصفه ممارسة عادية واحترازية، غير أن هذه الحكاية لا تشكل عصب كتاب جينيه، بل إن ما يشكل ذلك العصب إنما هو ما يرويه الكاتب عن حياته كـ"لص" إنما من دون أن يجد مدعاة لتضخيم ذلك، أما ما يهمه أكثر فهو نضاله اليومي ضد بشاعة العالم واللصوص الكبار، ويفيدنا بأنه إنما يسرق مما يسرقون. وهو ما يقوله لرجال الشرطة الذين كانوا يتمكنون من القبض عليه، لكنهم سرعان ما يطلقونه، إذ يتبين لهم أن ما سرقه "هذه المرة" يمكن أن يكون معجون أسنان أو تفاحة، وغالباً انطلاقاً من فكرة "السرقة من أجل السرقة"، ولكن دائماً لكي يضع اللصوصية في مرتبة أدنى منها: كتهمة توازي المثلية الجنسية أو غيرها من "جنح" لا يمكنها أن تؤذي أحداً، لكنها تنبه المجتمع إلى أن ثمة من لا يريدون أن يسيروا تبعاً لقوانينه لا أكثر ولا أقل، وإلى أن ثمة من يريد أن يعيش في قطيعة تامة معه، وأنه هو نفسه واحد من هؤلاء، ويقيناً أن إرادة القطيعة هذه هي ما يخيم من حول "يوميات لص"، بل من حول القسم الأكبر من كتابات جان جينيه.