في الموسيقى والشعر والفن التشكيلي بات للذكاء الاصطناعي مساهمات تحير العقول، وينظر المتابعون إلى ما تنتجه التقنيات الحديثة في المجالات الإبداعية بعين الدهشة والريبة كذلك، وترددت على مدى الفترة الماضية أسئلة كثيرة بخصوص هذا الشأن ولعل أبرزها وأبسطها، هل سينتهي الإبداع البشري الفردي في وقت من الأوقات بعد أن تحل مكانه الخوارزميات التي تنفذ ما تؤمر من دون نقاش وبمستوى جيد في طريقه إلى أن يكون ممتازاً حتى الآن؟!
لكن من أكثر المجالات التي كانت فيها التكنولوجيا مكملة حقيقية بل ضرورية في أحيان كثيرة هي السينما، فمنذ بدايات "الفن السابع" ويحاول صناعه تحقيق الإبهار عن طريق اللجوء للتقنيات الجديدة، والتي أسهمت بالفعل في تطور هذا الفن، ولكن هل بات الأمر مبالغاً فيه أخيراً؟ هل يخشى بالفعل صناع السينما من سيطرة الآلة على عملهم الإبداعي ليظهر كل شيء غير حقيقي ومن دون البصمة الإنسانية المتفردة التي تميز مخرجاً عن آخر، فبدلاً من أن يكون التقدم العلمي مساعداً ومعيناً يصبح منافساً ومفسداً بخاصة في ظل انتشار تقنيات مثل "التزييف العميق" وDe-Aging، إضافة إلى برامج الغرافيك التي يمكنها أن تصنع حدثاً ضخماً من دون أن تتلطخ أيدي طاقم العمل بذرة غبار، فالأمر هنا يتخطى فكرة ابتكار كاميرا فائقة الدقة والحساسية تخطو بالصناعة سنوات للأمام، ولكنه تدخل مباشر في عمل رواد المهنة، واستبدال بعض الوظائف لتحل مكانها خوارزميات عدة.
انفجار نووي بلا مؤثرات بصرية
بقدر ما كانت التكنولوجيا ذراعاً رئيساً لعمل كبار مخرجي هوليوود، لا سيما من تميزوا في الأفلام ذات الطابع العلمي، سواء أكانت خيالية بالكامل أم مستندة إلى نظريات مثبتة، إذ تصبح التقنيات المتقدمة خياراً أساسياً للخروج بالمنتج النهائي في أفضل مستوى، بالتالي، كان من أكثر من يبحثون وراء كل جديد في هذا الحقل المخرج الإنجليزي الأميركي كريستوفر نولان "52 سنة" صاحب Interstellar- Insomnia – Inception - Tenet، فهو المخرج المهووس بعلم الفيزياء وتداخل الأزمنة، ولطالما كان المهتمون بأعماله يشيرون إلى أنهم بحاجة دائمة إلى اليقظة "العلمية" أثناء المشاهدة، وربما إلى القراءة في بعض مبادئ العلوم، كي يتسنى لهم الإلمام بجوانب الدراما كافة، ولكن ما بال الرجل الذي يعشق التعقيدات التكنولوجية والبحثية والآلات المذهلة في تقدمها، قرر أن يدير ظهره للتقنيات السينمائية الحديثة في واحد من أهم مشاهد أفلام فيلمه المنتظر Oppenheimer، إذ أعلن أنه يرفض الاستعانة بأي مؤثرات بصرية في مشهد تفجير القنبلة النووية، ويتناول الفيلم قصة عالم الفيزياء الأميركي روبرت أوبنهايمر الذي طور القنبلة الذرية ضمن مشروع أطلقته بلاده لتطوير الأسلحة النووية خلال فترة الحرب العالمية الثانية. وقال نولان في تصريحات لـ"Total Film" إنه أنشأ موقع انفجار نووي يحاكي ذلك الذي جرى في نيو مكسيكو عام 1945، قبل أسابيع قليلة من قيام الولايات المتحدة بإلقاء القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان. وشدد نولان على أنه رفض الاستعانة بأي مؤثرات باستخدام أجهزة الكمبيوتر وفضل أن يكون التصوير طبيعياً من دون استخدام تعديلات من خلال التقنيات الحديثة، منتقداً المبالغة في اللجوء لتلك التقنيات، وواصفاً ما جرى في كواليس العمل الذي شغل الجمهور بمجرد طرح الإعلان الدعائي الأول له، بأنه كان تحدياً يجب مواجهته، ونولان لديه تاريخ في محاولات عدم الانصياع وراء الاستسهال والجري وراء المساعدات التكنولوجية، ويفضل أن تكون أصعب مشاهد أفلامه تتمتع بصدقية لتكون أقرب إلى الواقع، وليس مجرد محاكاة قريبة الشبه، إذ قام بأمور مماثلة في أفلام سابقة وبينها The Dark Knight وTenet، لا سيما في ما يتعلق بالانفجارات الضخمة، والفيلم المنتظر سيعرض في صيف 2023 وهو بطولة كيليان مورفي وروبرت داوني جونيور ورامي مالك ومات ديمون وإيميلي بلنت.
هل يسير نولان عكس الزمن؟
ومن المعروف أن كريستوفر نولان دوماً ما لديه تحفظات كبيرة في ما يتعلق بفن السينما بشكله الكلاسيكي، وانتقد بشدة إقدام شركات الإنتاج على عرض الأفلام السينمائية عبر المنصات الإلكترونية بالتزامن مع انطلاقها عبر دور السينما، بل وصف منصة "أتش بي أو ماكس" بأنها أسوأ خدمة بث لهذا السبب، واصفاً الأمر بأنه اضطراب وخلل وظيفي، كما أنه صرح مراراً بأنه لا يملك هاتفاً محمولاً بل يمنع استخدامه في مواقع تصوير أعماله لأنها في رأيه أجهزة تشتت الانتباه، حتى إنه قال إنه متردد في الاعتماد على البريد الإلكتروني بشكل أساس في اتصالاته ويفضل استخدام الهاتف الأرضي، وهي تصريحات لا تزال تثير الجدل في شأن واحد من أكثر المخرجين المعاصرين اهتماماً بالخيال العلمي إذ يمزجه ببراعة بما يجري على أرض الواقع. وطموح كريستوفر نولان كسينمائي كبير جعله يقف صامداً حتى الآن ولا يرضخ لما بات رائجاً، إذ لا يبدو وكأنه يدور خارج الزمن وفي الوقت نفسه يحافظ على بصمته كمخرج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
محاولات للتحايل
لكن بالطبع، الغالبية الكبرى من صناع السينما في مختلف أنحاء العالم تتباهى بلجوئها للاستخدام التكنولوجي الواسع في أعمالها وكأنها ميزة في حد ذاتها، وليست وسيلة تخدم العمل الفني، وبالطبع البعض منها ميزة بالفعل تختصر الوقت والجهد ولا سيما في مرحلة ما قبل الإنتاج إذ يسهم الذكاء الاصطناعي في تبسيطها عن طريق المساعدة في جدولة مواعيد التصوير وحتى في مواقع مبدئية للمعاينة، وكذلك في الحملات الترويجية الاستباقية، وهي أمور توفر المال كذلك، لكن هل سيستعين بها الصناع لتأليف الموسيقى التصويرية بشكل كامل أو الاعتماد عليها بشكل رئيس في ترشيح الممثلين عن طريق استخدام الخوارزميات في تحليل أدائهم، أو إسناد مهمة المونتاج لها، وهي أمور لا تزال بمثابة الخيارات البعيدة حتى الآن، ولكن لا أحد يدري ماذا سيحدث، بخاصة مع التقلبات التي تشهدها سوق الإنتاج الفني حالياً، في ظل وجود منصات إلكترونية تتهافت كل يوم على الجديد، فحتى الآن لا نزال نرى مخرجين عمالقة مثل مارتن سكورسيزي (80 سنة) يتمسكون بهيبة السينما الكلاسيكية، ولكنهم أيضاً لا يمانعون في عرضها على المنصات الإلكترونية بشكل حصري بعيداً من الصالات المجهزة، كما أن سكورسيزي شغل المتابعين قبل ثلاثة أعوام بعد استخدامه تقنية تصغير الأعمار لممثلين في فيلمه "الإيرلندي"، إذ أظهر نجميه الكبار سناً ومقاماً روبرت دي نيرو وآل باتشينو بشكل أصغر عمراً ليتواءم مظهرهما مع بعض لقطات الفيلم المفصلية، وهو العمل الذي عرض عبر "نتفليكس"، لافتاً إلى أنه استفاد من صعود عالم البث الرقمي. لكن على العكس منه المخرج الإيطالي باولو سورينتينو الذي أبدى استياءه من تجربة تعاونه مع المنصة في فيلم "يد الله" الذي تناول قصة انتقال مارادونا إلى نادي نابولي، مؤكداً أنه لن يكرر تلك التجربة مجدداً أبداً، لأن الأفلام في رأيه صنعت ليتابعها المشاهد عبر شاشة كبيرة، وليس بالطريقة التلفزيونية. كذلك لا يزال نجم سينمائي مخضرم مثل توم هانكس ينظر بعين الريبة إلى الأفلام التي تصنع خصيصاً للمنصات ولا تطرح في قاعات العرض، لافتاً إلى أن الأفلام مؤهلة لأن تشاهد في صالات السينما، وأن تعاونه مع تطبيقات البث الرقمي كان موقتاً ومرهوناً بفترة أزمة فيروس كورونا.
المؤثرات البصرية قد تكون نقمة
وإن كانت المنصات الرقمية باتت أمراً واقعاً ولا يمكن الإفلات منها، وعاجلاً أم آجلاً سيفقد بعض رافضيها القدرة على المقاومة، فإن التطور التكنولوجي الهائل يمكن تقنين استخدامه، فمهما كان مغرياً ومبهراً فقد يصبح نقمة كاملة الأركان، فمثلاً أفلام "عالم مارفل" تعتمد بشكل كامل على التقنيات ثلاثية الأبعاد وعلى البرامج الأكثر تقدماً في عالم الغرافيك، وإذا انتزعت منها تلك التقنيات فالعمل سوف يفقد قيمته وإبهاره تماماً، بعكس السينما الكلاسيكية التي ينبغي أن تكون تلك التعقيدات التكنولوجية مجرد وسيلة لخدمة سيناريو جيد ومكتوب بعناية ووراءه مخرج حقيقي، وفي حال فقدان البوصلة هنا تصبح تلك المؤثرات التي من شأنها أن تكون سبيلاً للخروج بأفضل صورة، ببساطة، لعنة كبيرة، وهو ما ظهر في أفلام مثل the hulk وUltraviolet وVan Helsing وBirdemic وGreen Lantern، إذ ظهرت المشاهد التي استخدمت فيها المؤثرات البصرية مبالغاً فيها لدرجة أفقدتها صدقيتها، فبدت وكأنها لقطات من ألعاب الفيديو الإلكترونية، وأخرى كانت ضعيفة فكانت أقرب إلى الهزلية.