السياحة العلاجية هو قطاع أردني حيوي، لكنه معقد قليلاً، إذ اتهم ذات مرة بكونه "يتيماً"، ويقال إن التكلفة وتسهيل التأشيرة هما العائقان الكبيران أمام ازدهاره وترسيخه بوصفه عملاقاً اقتصادياً أردنياً بامتياز.
مع ذلك يظل، وفق رئيس جمعية المستشفيات الخاصة الأردنية فوزي الحموري ومتخصصين آخرين مجالاً مفرط الحساسية، فمعادلة نجاحه تقوم على عوامل متغيرة باستمرار، كونها مرتبطة بالعوامل الإقليمية والدولية أيضاً.
لكن أهم هذه العوامل، وفق الحموري، هو "الأمن والاستقرار السياسي والجودة وكفاءة الكوادر الطبية المؤهلة ووفرتها، ونوعية العمليات والنتائج المرضية، والطبيعة الجغرافية ومرونة الحصول على التأشيرة وتناسب التكلفة مع الخدمات المقدمة للمريض".
وقال الحموري، لـ"اندبندنت عربية"، إن التكلفة والتأشيرة عائقان، لكنهما لا يشكلان عاملاً حاسماً في هذه المعادلة المتشعبة، "لأن ما يبحث عنه الراغبون في تلقي الرعاية الصحية هو مجموعة متكاملة من المقومات من دون اختلال أي عنصر منها".
أكثر من سردية
هناك أكثر من سردية خاصة حول هذا القطاع، ويمكن القول إنها جميعها تطمح لأن تجير هذا الإنجاز لحسابها مع مراعاة دور الآخرين، فوزارة الصحة الأردنية تعد نفسها الأم التي سهرت مطولاً وأغدقت عليه حتى وصل إلى ما هو عليه الآن.
بينما القطاع الخاص، ممثلاً بالمستشفيات والعيادات والمراكز الطبية في الأردن، ينظر إلى نفسه بوصفه أباً شرعياً لهذا النجاح، فهذا المولود أبصر النور في مرحلة خصخصة بعض القطاعات العامة، ثم ترعرع في كنف طفرة طبية أفرزت عدداً كبيراً من الكوادر ذات الكفاءة، التي لعبت دوراً حاسماً في تشكيل "السمعة الطيبة" له.
لكن جميع هؤلاء، بما فيهم الجهات الأمنية والسياسية التي ترجع الفضل في نجاح أي قطاع مشابه إلى الجغرافيا الطبيعية والاعتدال المناخي والدبلوماسي في الأردن، لا ينكرون أن بذرة هذه الفكرة جاءت من تلاقي الرغبة الشعبية العارمة لدى الأردنيين أنفسهم في تعليم أبنائهم في التخصصات الصحية تحديداً، مع رغبة الدولة وإرادتها الصلبة في الاتجاه ذاته.
الملك الراحل الحسين بن طلال وضع بنفسه أساسات هذه النهضة الصحية من خلال ابتعاث الأردنيين للدراسة في الخارج قبل ما يزيد على نصف قرن من الزمان، والأردنيون بدورهم بذلوا الغالي والنفيس في سبيل التعليم، سواء أكان من جيوبهم وعلى حساب قوت يومهم، أو من خلال المنح وبأي وسيلة متاحة أخرى، حتى وصلنا إلى لحظة افتخر بها الملك عبدالله الثاني بوجود 35 ألف طبيب أردني يديرون عجلة هذا القطاع باتجاهها الصحيح.
التعافي من كورونا
في 2022، بعد إعلان التعافي من آثار جائحة كورونا، التي مثلت التحدي الأبرز خلال مسيرة هذا القطاع منذ نشأته، ارتفع عدد الزائرين للعلاج بنسبة 25 في المئة، وتوجه إلى الأردن نحو 200 ألف زائر للعلاج والاستشفاء والنقاهة، لكن وفق الحموري ظلت الأعداد أقل من 2019 بحوالى 20 في المئة.
بينما في 2014، العام الذي يوصف بأنه حقق "طفرة" في عدد الزائرين بأكثر من ربع مليون شخص، عزا متخصصون ذلك إلى إقبال آلاف المرضى والجرحى من ليبيا تحديداً، مما أكد على ارتباط هذه الصناعة بالعوامل الإقليمية والدولية بشكل مباشر.
ومع ذلك "بقي الأردن في المرتبة الأولى عربياً والخامسة عالمياً في جذب السياحة العلاجية" حتى وقتنا هذا، وفق المدير التنفيذي في مستشفى الجزيرة ومدير مستشفى الاستقلال السابق نادر الخليلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن عدد الدراسات في هذا المجال ظل محدوداً، وأكد الحموري "نحتاج إلى مزيد من الأطروحات التي تحدد العوامل المؤثرة في اختيار المريض جهة السياحة العلاجية والسفر الصحي".
وعن عدم تجاوب بعض المستشفيات في القطاع الخاص مع الباحثين، قال الحموري "يكاد عدد الدراسات التي رفضت المستشفيات الخاصة التعاون فيها لأسباب تتعلق بسلامة المرضى أو خصوصيتهم لا يذكر"، مشدداً على دور الجمعية المتمثل في هذا المجال بمخاطبة المستشفيات للتعاون مع الباحثين وتسهيل مهمتهم.
وأشار إلى أن نسبة السعوديين مثلاً من المجموع الكلي للمرضى الدوليين خلال 2022 بلغت 16 في المئة، مما يؤكد أن القطاع ما زال عند ثقتهم كوجهة مفضلة لتلقي الرعاية الصحية.
دور القطاع الخاص
لعب قطاع المستشفيات الخاصة دوراً محورياً في هذا المجال، ما جعله الأول في منطقة الشرق الأوسط وضمن العشرة الأفضل عالمياً، فالانتباه المبكر إلى ضرورة خلق نظام اتصال يشبك المستشفيات بالمرضى من دول مجاورة، وتحديداً من منطقتي الخليج وأفريقيا، أسهم في جذب الأنظار إلى هذا القطاع الحيوي، إذ كان لا بد من الاستثمار خارجياً في هذه القدرات البشرية التي فاضت قدراتها حاجة السوق الأردنية الصغيرة نسبياً.
بعض الإحصاءات، التي أجريت قبل ما يزيد على عقد من الزمن، أظهرت أن عدد الأطباء بالنسبة إلى السكان (لكل 100000 نسمة) في الأردن بلغت 28.6 في المئة طبيباً، فيما سجلت في الحقبة ذاتها في الولايات المتحدة الأميركية 24.5 في المئة، وفي بريطانيا 28.1 في المئة، والمغرب 6.2 في المئة.
في المقابل، وبعد كورونا تحديداً، برزت دول إقليمية تنافس في هذا المجال مثل تركيا، التي تمكنت من استدراج عروض كثيرة بحكم تمتعها بالشروط والمواصفات الملائمة، لكن المنافسة معها تركزت في نطاقين فقط، هما التكلفة وتسهيل إجراءات المرور، بمعنى التخفيف من البروتوكول المنفر أحياناً في استقبال الزائرين نتيجة قوانين إصدار التأشيرات والإقامة.
لكن الخبرة في المجال والدور التقني تحديداً، الذي يحدد جودة الخدمة، لم يؤثرا في استمرار ريادة الأردن لهذا القطاع، بل وعمقا القول باحتكار حصة كبيرة منه لعقود متعاقبة.
عوامل أخرى
الأطباء والمستشفيات ليسا العامل الوحيد حين يتعلق الأمر بالسياحة العلاجية، فالأرقام تقول إن هناك ستة آلاف طبيب أسنان في الأردن، و10 آلاف صيدلي، وثمانية آلاف ممرض، وتصل نسبة العاملين في هذا القطاع إلى 99 في المئة يتحركون جميعاً في نطاق حيوي قوامه 550 منشأة صحية، أقيمت برأسمال وصل ستة مليارات دولار، وتصدر مصانع وشركات الأدوية الأردنية ما نسبته 80 في المئة من إنتاجها، وتصل إلى ما يزيد على 75 سوقاً حول العالم.
مسوقون ومستشارون
كلفة إجراء عملية قلب مفتوح في الولايات المتحدة الأميركية تصل إلى 150 ألف دولار، فيما يمكن إجراء العملية ذاتها في ظروف جيدة في الأردن بما قيمته 10 آلاف دولار.
وفي يومنا هذا، وفق المستشار الطبي وفيق طه، تصل تكلفة فحص وزراعة الكبد في الأردن إلى ما يقرب من 150 ألف دينار، بينما العملية ذاتها في دولة مجاورة تنجز بنحو نصف هذه القيمة، فيما تتفاوت قيمة العمليات الجراحية وفقاً للأطباء أنفسهم أحياناً، فعملية طهور وتركيب أنبوب لطفل كويتي في الأردن وصلت مع أحد الأطباء إلى 1995 ديناراً أردنياً، فيما أمكن إجراء العملية ذاتها لدى آخر بنصف هذه القيمة.
وفي مثل هذه الحالات وجد المسوقون الطبيون الذين يريدون ترويج منتجهم الوطني بعيداً من الجشع والربح الفاحش، أنفسهم مجبرين على التحايل على هذه الظروف مراعاة لحالة المريض المادية، حيث لجأ بعضهم ضمن مجهود ذاتي إلى نقل معدات طبية ومستلزمات العمليات الجراحية من مستشفى إلى آخر واستقدام أطباء أقل تربحاً، وأكد طه أن الرقابة المتشددة في هذا المجال ستسهم بشكل مباشر بخفض التكلفة على المريض.
أرقام وإحصاءات
في عام 1984 تأسست جمعية المستشفيات الخاصة الأردنية لأهداف غير ربحية، وتضم عضويتها الآن 58 مستشفى خاصاً، وهذا الرقم يشكل ما نسبته 95 في المئة من القطاع الخاص، وهناك 121 مستشفى، منها 33 حكومية، و15 عسكرية، واثنان جامعيان.
ووفق دراسة لباحثين من قسم الجغرافيا في الجامعة الأردنية، فإن السعوديين شكلوا في 2014 ما نسبته 36 في المئة من الزائرين للعلاج، فيما كان 43.9 في المئة من عموم الزائرين من ذوي الدخل الذي يقل عن 2000 دولار ونصفهم كان معه مرافق واحد فقط، واستمرت مدة إقامته لأربعة أيام في المتوسط، فيما ثلث هؤلاء جاء لإجراء عمليات السمنة، وأكثر من نصفهم تعرف إلى المستشفى الذي عولج فيه إما من خلال الأصدقاء أو من خلال العامل الثقافي المتمثل باللغة وسهولة التواصل مع الطبيب، وقد أبدى ما نسبته 97 في المئة رضاهم عن الخدمات بعد التماثل للشفاء.