يحاول القضاء العسكري في تونس النأي بنفسه عن التجاذبات السياسية غداة إصدار محكمة تابعة له أحكاماً بسجن نواب برلمانيين إسلاميين ومحام، في خطوة فجرت مجدداً السجالات حول إمكان خضوع المدنيين لمحاكمات عسكرية في بلد يشهد معركة قوية بين السلطة والمعارضة.
وبعد جدل عاصف شهدته تونس نهاية الأسبوع الماضي بسبب تلك الأحكام القضائية التي شملت النائب عن "ائتلاف الكرامة" الإسلامي المقرب من "حركة النهضة"، الذراع السياسية لتنظيم الإخوان المسلمين في تونس، سيف الدين مخلوف، أصدرت وكالة الدولة لإدارة القضاء العسكري بياناً دعت فيه إلى النأي بالقضاء العسكري عن كل أنواع التجاذبات، في إشارة واضحة إلى السجال السياسي القائم في شأنه.
غزوة المطار
القضية التي واجه بسببها مخلوف وعدد من نواب "حركة النهضة" القضاء العسكري تعرف إعلامياً في تونس بـ "غزوة المطار"، إذ حاول مخلوف التدخل لفائدة سيدة يشتبه في انتمائها إلى جماعة إرهابية من أجل تمكينها من السفر من مطار تونس قرطاج الدولي في حادثة تعود لمارس (آذار) 2021.
وخلال محاولاته إقناع شرطة الحدود بضرورة السماح للسيدة بالسفر دخل مخلوف في تلاسن حاد مع أفراد الشرطة مما أحدث فوضى، متهماً إياهم بـ "خدمة أطراف سياسية بعينها"، وهو ما أثار وقتها جدلاً واسع النطاق حول صلاحيات النواب والحصانة التي يحظون بها، إذ يحتمي مخلوف بتلك الحصانة.
وحكمت محكمة عسكرية يوم الجمعة الماضي على مخلوف بالسجن 14 شهراً مع النفاذ العاجل قبل أن تطوق عناصر الأمن منزله ليلاً وتوقفه.
وكان مخلوف الذي ينتهج أسلوباً حاداً واستفزازياً بشكل كبير ضد خصومه، قد نال في وقت سابق حكماً بالسجن لعام واحد من محكمة عسكرية بتهمة "النيل من الجيش الوطني التونسي"، وأيضاً بالحرمان من ممارسة مهنة المحاماة التي كان يزاولها لخمس سنوات.
وأظهر مقطع فيديو نشرته المحامية إيناس حراث اقتياد مخلوف من قبل عناصر الأمن وهو يصرخ في الشارع "تحيا تونس، ويسقط الانقلاب"، إذ يعتبر أنه مستهدف من قبل الرئيس قيس سعيد. ولطالما انتقد مخلوف الرئيس التونسي حتى قبل اتخاذه إجراءات استثنائية في الـ 25 من يوليو (تموز) 2021.
ويتهم مخلوف الآن، رفقة "حركة النهضة" وأحزاب ومنظمات أخرى، الرئيس سعيد بتنفيذ انقلاب بعد أن أطاح بالبرلمان السابق بعد ثلاث سنوات من انتخابه، كما عزل الحكومة وسنّ دستوراً جديداً تم تأييده خلال استفتاء شعبي في الـ 25 من يوليو (تموز) 2022.
وشملت الأحكام التي صدرت الجمعة محامي مخلوف مهدي زقروبة الذي حكم عليه بالسجن 11 شهراً والنواب عن "ائتلاف الكرامة" نضال سعودي بالسجن سبعة أشهر وماهر زيد ومحمد العفاس بخمسة أشهر.
يذكر أن "ائتلاف الكرامة" حزب سياسي شعبوي مقرب من تنظيم "الإخوان المسلمين"، ولطالما شكلت مواقفه صداعاً للسلطات وبعض الكتل البرلمانية التي تنتقده باستمرار.
توظيف المحكمة العسكرية
وسارعت المعارضة التونسية وأوساط حقوقية إلى انتقاد الأحكام القضائية بشدة، إذ اعتبر رئيس ''جبهة الخلاص الوطني" أحمد نجيب الشابي أن "الأحكام التي صدرت تدل على روح وعقلية انتقامية من قبل السلطات"، والشابي نفسه يواجه ملاحقات قضائية الآن شأنه شأن القيادية في الجبهة شيماء عيسى.
وقال الشابي في مؤتمر صحافي بثته وسائل إعلام تونسية إننا "نعيش مرحلة محاولة اغتيال الحرية وهدم الديمقراطية".
من جهتها أصدرت ثلاثة أحزاب هي "العمال" و"النهضة" و"الجمهوري" بيانات صحافية منفصلة دانت فيها الأحكام التي صدرت بحق نواب "ائتلاف الكرامة"، لكن ستكون هناك جولة أخرى من التقاضي، إذ أعلن القضاء العسكري أنه سيتم تعيين جلسة اعتراضية على الأحكام التي صدرت الجمعة.
من جانبه دان الناشط السياسي رضا بلحاج ما اعتبره "تدخل السلطة التنفيذية من أجل توظيف المحكمة العسكرية". وقال بلحاج أمس الثلاثاء، 24 يناير (كانون الثاني) الحالي، إن "السلطة تقحم القضاء العسكري في صراعات سياسية لا علاقة له بها ويجب أن تكون المحكمة العسكرية بعيدة من كل الصراعات ومن كل ما هو سياسي".
لكن هذه الدعوات التي لم تعلق عليها السلطات تصطدم بترسانة تشريعات تتيح إحالة المدنيين والنشطاء إلى المحاكم العسكرية، وهو أمر لطالما أثار جدلاً في بلد شهد انتقالاً ديمقراطياً متعثراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مخلوف مذنب
وفي وقت لزمت فيه السلطات الصمت تجاه الجدل الذي أحدثته الأحكام بحق هؤلاء النواب، اعتبر المتحدث باسم حزب التيار الشعبي الموالي للسلطات التونسية محسن النابتي أن "مخلوف مذنب وما قام به في حق الدولة التونسية، بصرف النظر عن حادثة المطار التي جلبت كل الأنظار، من تهديد لقاض في محافظة سيدي بوزيد مع تهديد الإعلاميين وحريتهم والبرلمانيين كذلك".
وتابع النابتي في تصريح إلى "اندبندنت عربية" أن "مخلوف هدد التونسيين أيضاً بأنه إذا حكم وحزبه فسيسيطران على وزارتي الداخلية والدفاع ووقتها سيكون هناك حديث آخر، وفق قوله، مما يجعله مذنباً، فهو كان يتصرف كميليشيات داخل الدولة وليس كفاعل سياسي، وبالتالي فمحاكمته أمام المؤسسة الموكل إليها حماية الأمن القومي لتونس أمر لا مفر منه".
وشدد المتحدث على أن "القضاء العسكري لم يتجاوز القانون لأن هناك تشريعات تم سنها منذ استقلال تونس تنص على أن بعض القضايا تعتبر من اختصاصات المحكمة العسكرية، وهذه التشريعات لم يتم تعديلها".
ولفت النابتي إلى أنه "لا يجب السماح بهدم الدولة، أما انتقاد المحاكمات العسكرية للمدنيين فتجب مراجعة القوانين إذا لزم الأمر في المستقبل بعد تركيز البرلمان، ونحن في حزبنا قد نقدم على ذلك إذا رأينا داعٍ لذلك، بخاصة إذا كانت هناك قوانين تحد من الحقوق والحريات".
تفويت الفرص
وأعادت هذه القضية طرح جدل قديم متجدد حول اختصاص المحاكم العسكرية بالنظر في قضايا يكون فيها المدنيون طرفاً، إذ تتسع دائرة الرافضين لذلك إلا أن القانون التونسي يتيح بالفعل مقاضاة المدنيين أمام القضاء العسكري.
وقال أستاذ القانون الدستوري عبدالرزاق المختار إن "هناك أطرافاً فوتت بالفعل فرصة تعديل هذه القوانين بما يضمن الحريات والحقوق وبخاصة الحق في محاكمة عادلة"، مضيفاً أن "القضاء العسكري هو بالفعل العصا الغليظة لأي كان في السلطة ضد خصومه، لكن المعيار الذي نعتمده في هذا الجدل هو الضمانات الموجودة لإجراء محاكمة عادلة بقضاء مستقل".
ورأى أنه "بصرف النظر عن أن هناك من حاول استغلال القضاء العسكري في فترات معينة لتطويع الأحكام القضائية، فإن الأصل في الأشياء أن تكون هناك ديمقراطية توفر محاكمة عادلة للجميع من دون استثناء من جانب قضاء مستقل عن الجميع مهما كان الطرف المعني بالمحاكمة".
وجاء هذا السجال الجديد حول القضاء العسكري عشية الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية التي تعد المحطة الأخيرة من خريطة طريق شاملة أطلقها الرئيس سعيد في وقت سابق، وهو ما يعزز التساؤلات حول إمكان تعديل ترسانة القوانين التي يتم الاستناد إليها لمقاضاة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.