تمر الأشهر، ونقترب من عام على بدء الحرب الأوكرانية التي تزداد شراسة وتدميراً، ويتنافس الساسة والمحللون في التبشير بأنها ستستمر لعام آخر، وربما أكثر، وإن كنت لا أستطيع التأكد من هذه البشرى غير السارة، ومع مرور الوقت تزداد مظاهر اللاعقلانية، ويتراجع الرشد، وتنحسر فرص إخراج تسويات تحفظ ماء وجه الطرفين.
خلال الأسابيع الأخيرة، تحولت التفاعلات السياسية والإعلامية إلى عنوان فرعي يمكن وصفه بـ"حرب الدبابات"، لكنها ما زالت حرباً إعلامية، حيث دار جدال محرج حول سماح ألمانيا بتسليم أوكرانيا دباباتها المسماة "ليوبارد2"، سواء مباشرة، أو عن طريق مخزونات بولندا. ثم دخلت البرتغال وكندا على النقاش بعد ذلك، ومع استجابة ألمانيا توالت العواصم الغربية في إعلان نيتها تزويد أوكرانيا هذه الدبابات الألمانية، وقبلها تدخل زيلينسكي، مثلما يفعل كل مرة، لإحراج برلين التي كانت مترددة في شأن تقديم هذا السلاح الجديد الأكثر هجومية. كما لم تتوقف التصريحات الأميركية التي من الواضح أنها تجاوزت التصريحات إلى ضغوط دبلوماسية وسياسية على العاصمة الألمانية، وكان من بينها لقاء بين أمين عام حلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ ووزير الدفاع الألماني الجديد بوريس بيستوريوس.
رضوخ برلين
في النهاية، رضخت برلين وأعلنت تجاوبها، وإن بدأ بيستوريوس بالقول إن موافقة بلاده الرئيسة تنصب على ما ستسلمه بولندا بهذا الصدد، ثم انفتح الباب أكثر بأن ألمانيا ستستقبل عسكريين أوكرانيين للتدريب على هذه الدبابات، وستشارك في تقديم عدد منها أيضاً.
في الواقع، إن ما لا يمكن تجاهله هو لغة الضغط الأطلسية والأوروبية على برلين، فقد عبر رئيس وزراء بولندا عن أنه يأمل أن يأتي رد الألمان بسرعة هذه المرة، لأنهم يتأخرون ويماطلون ويتصرفون بشكل يصعب فهمه، ولهذا النمط من التصريحات دلالة سنعود إليها مرة أخرى.
وإذا كانت بولندا ستقدم عشرات من هذه الدبابات من مخزونها، فإن البرتغال ستقدم حفنة صغيرة نحو سبع فقط، وكندا ستقدم أربعاً، وقد يأتي مزيد في المستقبل، ومن ناحية أخرى أعلنت واشنطن أنها ستزود أوكرانيا بعدد 31 دبابة حديثة من طراز "أبرامز"، حيث كان هذا شرطاً لألمانيا.
قاد هذان التطوران الجانب الروسي إلى تصعيد كبير في خطابه ضد الغرب بتصريحات حادة من سفيري موسكو لدى كل من برلين وواشنطن، فضلاً عن وزير الخارجية سيرغي لافروف، بأن الجانب الغربي يوسع من الحرب التي وفقاً للوزير لافروف لم تعد حرباً هجينة، وإنما مواجهة أطلسية مباشرة ضد روسيا، ومرة أخرى صدرت تلميحات جديدة في شأن الخيارات النووية.
سؤال المرحلة
السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل عدد قد يصل إلى مئة على الأكثر، فضلاً عن تلك الأميركية، يثير كل ذلك القلق في حرب تتسم بدرجة من الشراسة والاستخدام الهائل للصواريخ المدمرة؟
وهل سيختل التوازن إلى هذا الحد بسبب ما ذكرته موسكو، ويؤكده كثير من التقارير حول قدرة هذه الدبابات التي ستفتح قدرات قتالية عالية، بما قد يؤدي إلى التصعيد النووي الروسي؟ أم أن برلين ما زالت تتحسب لعدم تورط أكبر ضد روسيا وما زالت غير مرتاحة لانهيار وتراجع الاستثمارات الضخمة التي قدمتها لهذه العلاقات على مدى عقود سابقة.
ومن ناحية أخرى، فإن موسكو أيضاً يسيئها مزيد من توتر العلاقات مع برلين ووجود أسلحة أكثر حداثة قد تبطئ حركتها التي يبدو أنها نشطت خلال الأسابيع الأخيرة على حساب أوكرانيا.
الجبهة الداخلية
يسود الإعلام الغربي والدولي اهتمام كبير بحركة الإقالات والاستقالات التي شهدتها أوكرانيا أخيراً، بعد تردد واسع لاتهامات الفساد التي طاولت كثيراً من المسؤولين، ومن أبرزها استقالة نائب وزير الدفاع فياتيسلاف شابوفالوف بعد فضيحة فساد تتعلق بواردات الأغذية للجيش، ثم إقالة كيريليو تيموششينكو نائب رئيس الديوان الحكومي وتنحي أوليكسي سيمونينكو من منصب نائب المدعي العام. ومقابل هذا تنحى مستشار رئيس الديوان الرئاسي الأوكراني أليكسي أريستوفيتش بعد أن تعرض لحملة انتقادات لتصريحه بأن الدفاعات الجوية الأوكرانية تسببت في انفجار مبنى سكني في دنيبروبيتروفسك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بطبيعة الحال، يمكن قراءة هذه التطورات بشكلين مختلفين، أولهما الصدمة من أن يحدث هذا في وسط تعبئة غربية وأوكرانية للدفاع عن استقلال البلاد، مما يعني أن سجل هذه الدولة بالغ السوء في مستويات الفساد أدى إلى هذه الحالات على رغم أعين العالم وحجم المعاناة الشعبية والعسكرية التي يواجهها الشعب الأوكراني.
أما القراءة الثانية فهي أن الديمقراطية تطهر نفسها، ولو ببطء، لكن هذه القراءة لا يستقيم معها تنحي مستشار الرئاسة بعد كشف عنه أن انهيار المبنى السكني بنيران صديقة، فهنا كانت الشفافية والاعتراف بالخطأ وارد الحدوث، لكن دلالة الحدث الأهم هو أن البيانات الأوكرانية والغربية مثل الروسية لا يمكن الاطمئنان إلى سلامتها. كما يبرز الإعلام الدولي تعديلات تجريها القيادة الروسية في عدد من المناصب العسكرية، وهي تشير إلى إدراك موسكو لحجم ورطتها العسكرية من ناحية، ومن أخرى يعدها كثير من المواقع الإخبارية دليلاً على توقع روسيا إطالة أمد الحرب لفترة زمنية أكبر.
المباراة الصفرية
المعضلة التي تزداد وضوحاً كل يوم ليست أن الحرب ستستغرق أشهراً أخرى أو أعواماً، فعندي أن هذا ليس مؤكداً بعد، وإنما أن مستويات العداوة وخطاب الاستقطاب قد بلغت مرحلة حادة تصعب على أي طرف البحث عن حلول وسط، وهو ما وصفناه من قبل في أكثر من موقع، وذلك بتحول الصراع إلى حرب استنزاف ومعركة صفرية كل طرف فيها يريد إلغاء الطرف الآخر وإزالته من الوجود، ومن سمات هذا النوع من الصراع حدة اللغة والاستقطاب وتشويه الآخر بلا حدود وبلا منطق، وعدم القدرة على رؤية أي تحرك يقوم به الآخر بشكل موضوعي، بل يتم النظر إلى كل تصرف كعمل عدواني، والأخطر يتحول الأمر إلى اتهام كل من يحاول التهدئة أو احتواء الصراع بأنه منحاز للآخر، ولو عدنا للغة التي يستخدمها زيلينسكي، وكذا رئيس الوزراء البولندي بشكل خاص، لوجدنا انعكاساً واضحاً لهذه المعاني، فلأن بولندا تحمل قدراً كبيراً من العداوة والشكوك تجاه روسيا منذ العهد القيصري، وزادت سوءاً خلال الحكم والاحتلال السوفياتي ومرارات العلاقة بين الطرفين تتبنى وارسو خطاباً شديد العدائية وتصعيدياً ضد موسكو، وتعتبر أن أمنها يتحقق بالهزيمة القاسية والحاسمة بالقضاء على روسيا الإمبراطورية.
وفي إطار هذا تأتي حدة التعليقات البولندية ضد برلين وتجاوزها الواضح، وعموماً هي مشاعر تزداد انتشاراً في أوساط أوروبية، فضلاً عن الولايات المتحدة، ويتراجع معها أي فكر آخر يحذر من إذلال الخصم الروسي، ويذكر الأوروبيين بدروس الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكيف قادت تسويات فرساي إلى صعود الفكر النازي القومي والرغبة في الانتقام، في مواجهة عقل متجمد آخر من ناحية موسكو يقوده بوتين الذي لا يزال يعتبر انحلال الإمبراطورية السوفياتية كارثة كبرى يجب تصحيحها.
في النهاية، يضيق الأفق وتتباعد المواقف ليتكرس العداء والكراهية ويتراجع أي فكر رشيد، وفي وسط كل هذا يطل الخيار النووي الذي يتردد الحديث عنه من وقت لآخر، حتى لو كان هذا مجرد تهديدات، إلا أنها ترسخ من غياب الرشد السياسي.