يتحرك الشارع العمالي في الغرب تحت وطأة الصدمات التي تعرضت لها #دولة_الرفاه_الاجتماعي. ولا يختلف المشهد في #لبنان، حيث تتلاشى حقوق العمال بفعل #الانهيار_المالي.
ويقود الحديث عن الإضراب إلى تقديم ما يشبه التأريخ لبوادر ظهور التشريع العمالي. ففي فرنسا تشكل الثورة الفرنسية نقطة انطلاق لقيام المنظومة الحقوقية، فعلى رغم تأكيد الثورة الفرنسية حرية العمل، فإنها حظرت قيام التكتلات العمالية التي تهدف إلى التوقف الجماعي عن العمل، وكان لا بد انتظار النصف الثاني من القرن الـ19، حين ألغت فرنسا جنحة التكتل، وشرعت جنحة انتهاك حرية العمل، وتحت طائلة هذه الجنحة عوقبت كل أفعال التهديد والعنف التي تمارس خلال الإضراب.
وأرسى قانون 17 مارس (آذار) 1791، مبدأً جديداً لحرية العمل، ودان العقبات التي وضعتها الجمعيات الحرفية في عهد ما قبل الثورة، كما أن قانون (Le chapelier) الذي منع كل تجمع للعمال، أو لأصحاب العمل، أراد من ذلك ترك السيادة للإرادة التعاقدية لدى الأطراف.
ومع اتساع نطاق الرأسمالية الصناعية وانطلاق الثورة الآلية، اشتدت معاناة الطبقة العاملة، وتأثرت شديد الأثر نتيجة مذهب الحرية. وباتت المساواة في الواقع العملي نظرية، واقتصرت على النصوص. فالرواتب لم تكن كافية، والغذاء تألف من الخبز والبطاطا، ومدة يوم العمل بمعدل 15 ساعة في اليوم. وظهر عمل الأولاد واستخدام من تتراوح أعمارهم بين ست وثماني سنوات. وكذلك استخدمت النساء بأعداد كبيرة وبأجور متدنية.
ونتج من كل ذلك ثورات عمالية بأشكال مختلفة تفاوتت بين الإضراب وأعمال العنف، وكانت المطالب تتعلق بتحسين مستوى الأجور وشروط العمل، كما ظهرت أفكار مجموعة من المصلحين والمفكرين، إضافة إلى الأفكار الشيوعية والاشتراكية التي طرحها كارل ماركس، ثم شهدت الحقبة من 1884 في ما بعد انتصار الحركة النقابية كقوة منظمة وفاعلة.
أما مع صدور دستور الجمهورية الرابعة 1946، فقد اتخذ حق الإضراب موقعه، وجاء فيه، "يمارس حق الإضراب في إطار النصوص التي تنظمه"، وبات حقاً دستورياً واجتماعياً.
وفي قلب حقوق الإنسان تنطلق شرعة الحق في الإضراب من مجموعة أخرى من الحقوق اللصيقة التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية المتعلقة بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد أقر البند الأول من المادة الـ20، "لكل إنسان الحق في حرية الاجتماع سلمياً، وفي حرية الانتظام في جمعيات سلمية"، حيث يمثل الحق في حرية الاجتماع السلمي، وفي حرية الانتظام، وفي جمعيات سلمية، وفي حرية التعبير، نواة ما يسمى الحقوق السياسية، بالتالي إنها الأساس القانوني لمجتمع مدني نشيط، كما أن الحق في إنشاء النقابات والانضمام إليها يقع مبدئياً في نطاق حق الانتظام في جمعيات سلمية، وهذا ما نجده مثلاً في المادة 22، الفقرة الأولى، من "الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي خطوة نحو الأمام، نتطرق إلى المادة 23 من الإعلان نفسه التي أقرت النقاط العريضة لـ"حقوق العمال"، فقد أكدت على "لكل إنسان الحق في العمل"، و"في ظروف عمل عادلة ومواتية"، و"الحق في أجر متساوٍ عن العمل المتساوي"، و"بدل عادل ومُواتٍ يكفل له ولأسرته عيشاً يليق بالكرامة الإنسانية"، وصولاً إلى الاعتراف بحق كل إنسان "في إنشاء النقابات وفي الانضمام إليها لحماية مصالحه".
أما المادة الـ24، فقد منحت لكل إنسان الحق "في الراحة وأوقات الفراغ، ويشمل ذلك حصراً معقولاً لدوام العمل وإجازات دورية مدفوعة". وفي هذا السياق الذي يؤكد دور النقابات في الدفاع عن الحقوق الأساسية للعمال، لا بد من ذكر أن إنشاء النقابات من دون تدخل من الدولة هو المبدأ الأساسي وراء نشوء "منظمة العمل الدولية" عام 1919، علماً أن هذا المبدأ يتعارض مع أسس المجتمع الليبرالي في القرنين الـ18 والـ19، فعلى سبيل المثال، فإن "نواميس الائتلاف في إنجلترا" (Combination Acts of England) في عام 1799 التي شرعت عدم قانونية أي اتفاقية يمكن أن يتوصل إليها العمال في ما بينهم لزيادة أجورهم ولتحسين ظروف عملهم.
الحراك اللبناني
إن تأصيل فكرة الإضراب في ظل لبنان تفرض علينا العودة إلى عام 1926، فقد شهد شهر يوليو (تموز) سلسلة من الإضرابات، من إضراب عمال شركة الجر والتنوير في بيروت، وعمال المطالب (هكذا كان الاسم)، ناهيك بعمال الأفران، وصولاً إلى إضراب عمال الأحذية، كما جاء صدور قانون العمل اللبناني في 23 سبتمبر (أيلول) 1946، في أعقاب الإضراب الذي أعلنه اتحاد النقابات المستقلة، للمطالبة بالحقوق العمالية وحمايتها، بدءاً بـ20 مايو (أيار) 1946. وفي سوريا، صدر قانون العمل رقم 91 لعام 1951.
يمكن الإشارة إلى أنه بدءاً من عام 1943 توالت الإضرابات من معمل الصوف في الحازمية إلى عمال شركة كهرباء بيروت، وصولاً إلى تأسيس الاتحاد العمالي عام 1946، بعد جلاء الجيوش الفرنسية من لبنان، الذي تلاه إضراب عمال "الريجي" (معمل التبغ) في 19 مايو، وسقوط أول شهيدة للطبقة العمالية "وردة بطرس إبراهيم". كما أسهمت الإضرابات التي حصلت في بداية ستينيات القرن الـ20 في لبنان إلى صدور قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم في 2 سبتمبر 1964، وقانون الضمان الاجتماعي في عام 1963.
وفي عام 1971، بدأت معركة تعديل المادة 50 من قانون العمل التي تسمح "لصاحب العمل أن يصرف أياً من إجرائه". كان أصحاب العمل يواجهون العمال بالتسريح الكيفي الجماعي، عند كل مطالبة بزيادة الأجور، لا سيما أولئك المنتسبين إلى النقابات العمالية إلى حين إقرار التعديل في 1975. وتعد أزمة معامل "غندور" 1972 الانطلاقة الحقيقية لهذا التعديل، عندما تذرعت الإدارة بنص المادة 50 القديمة.
وفي 27 مارس 1974 شهد لبنان "مسيرة الرغيف" التي دعا إليها "الاتحاد الوطني للنقابات" الذي كان يرأسه إلياس الهبر، للمطالبة بإقرار تعديل المادة 50 "كشرط أساسي للحفاظ على ديمومة عمل العمال وحمايتهم من التشريد". وعارض أصحاب العمل مشروع التعديل الذي وضعته حكومة تقي الدين الصلح تحت الضغط، وهدد هؤلاء بإقفال معاملهم وتسليم مفاتيحها للدولة. واستمرت المماطلة في إقرار مشروع التعديل، فعاد العمال إلى الضغط على الحكومة، وصولاً إلى إقرار التعديل. وشكل صدور المادة50 الجديدة انتصاراً للحركة النقابية اللبنانية، والذي وضع حداً لعمليات الصرف التعسفي للإجراء، ووضعت شروطاً قيدت بموجبها سلطات صاحب العمل بإنهاء خدمات إجرائه، كما أخضعتها لرقابة وزارة العمل وسلطة مجلس العمل التحكيمي.
السترات الصفراء
شكل حراك السترات الصفراء جرس إنذار حول السياسات الاجتماعية في فرنسا، والذي انطلق في 17 نوفمبر 2018، وجاءت فكرة تلك السترات من أن القانون الفرنسي يوجب على سائقي السيارات حمل سترات صفراء في السيارة واستخدامها في حالات الطوارئ التي تتيح الرؤية الليلية.
وتمت محاصرة هذا الحراك في ظل الإقفال العام بسبب جائحة كورونا، ولكن مع بدء عام 2023 عاد المتظاهرون إلى الشوارع الباريسية اعتراضاً على رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة من أجل توفير 20 مليار دولار سنوياً للموازنة العامة.
أما على الضفة الأخرى من القنال الإنجليزي، فقد شهدت بريطانيا تظاهرات شعبية هي الأكبر في تاريخها الحديث، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية المتردية في أعقاب الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولاحقاً التأثيرات الناجمة عن الحرب الروسية - الأوكرانية، وارتفاع أسعار الغاز والوقود، وتراجع مستويات النمو الاقتصادي. ففي بداية فبراير شهدت لندن تظاهرة هي الأكبر منذ عام 2011، حيث قدرت وكالات الأنباء خروج نصف مليون من موظفي القطاع العام إلى الشارع للمطالبة برفع الأجور، وتنديداً بقانون جديد يهدف إلى تقييد الإضراب في بعض القطاعات.