ملخص
حكاية #الجد المزواج الهارب من #السلطة كما ترويها حفيدته فريدة
تسعى الكاتبة ربيعة ريحان، في "بيتنا الكبير" (دار العين، القاهرة) إلى استرجاع ماض يعود في جزء منه إلى ستينيات القرن الماضي، وفي جزء آخر إلى زمن أبعد. يبدأ هذا الماضي مع الربع الأول من القرن الـ20 فتسجل حكاية الجد، في فرادته واختلافه عن سائر الرجال، والأهم في اختياره أن يسلك طريقاً وعراً، لا يتشابه فيه مع غيره، فيتركه ممهداً لمن سيأتي بعده. يبدأ السرد مع الطفلة "فريدة"، المأخوذة من حضن أمها "عقيدة" لتعيش مع أبيها وزوجته في البيت الكبير الذي يضم أجيالاً مختلفة من العائلة. هذا الحدث الذي يزلزل حياة أية طفلة، يظل ماثلاً في أعماق البطلة الساردة التي تدلف إلى حجرات الذاكرة في تسلل سلس، لتستعيد حكايات ماضيها وتقاطعاته مع ماضي الجد الأكبر والأب والأم وزوجة الأب.
من هنا، يقدم اختيار الكاتبة في العنوان "بيتنا الكبير" مع إضافة "نون" الجماعة إلى كلمة "بيت"، تنبيهاً مهماً للقارئ نحو حضور"العائلة" في حياة البطلة. إنها قبيلة ممتدة من الجدات والأجداد والعمات والخالات، من الصغار والكبار والبراعم، الأسرة المتفرعة، التي يشكل أفرادها بماضيهم وحاضرهم، عالم البطلة الساردة الذي تكشف عنه رويداً رويداً، وتستمد منه حكايتها وتخطها على أوراق تحكي تاريخ الجد الأكبر" كبور"، بروحه وخبرته وكفاحه ونزقه وظلمه وصندوق أرشيفه. تعتبر الراوية أنها منحت هبة القدرة على تجميع ذاك الماضي وتتبعه، كي تختزل حياة كاملة بطولها وعرضها، بكل ما فيها من أفراح وأتراح، من تعقيدات وخفايا وأخطاء وتضحيات، تركت بصمتها على أجيال من نسل هذا الجد.
سيرة الجد
يمكن اعتبار ما تقدمه ريحان في هذه الرواية نوعاً من السيرة الغيرية للجد، إذ يقوم المعمار السردي في هذا النوع من الكتابة على اختيار سيرة لشخص ما، يعتقد الكاتب بأهمية وضرورة تدوين حياته، إلى جانب صلاحية هذه الحياة لأن تكون " أنموذجاً"، عن مرحلة تاريخية وسياسية واجتماعية حافلة بالأحداث والتحولات، وكان الشخص المروي عنه جزءاً منها. تنطبق بعض هذه التفاصيل على سيرة الجد، في تمثله فرداً مقاوماً ومتمرداً للقمع السلطوي، الذي كان منتشراً في ثلاثينيات القرن الماضي.
وإلى ذلك، يمكن اعتبار حياة هذا الجد وثيقة اجتماعية لطبيعة علاقة الرجل والمرأة، من جهة، ولنظام السلطة الأبوية الذي يتبناه الرجل مع ذريته. وتكشف الرواية عن جانب من اختلاف القناعات الإنسانية وتبدلها في المنظومة الاجتماعية عن الزمن الماضي، كأن يكون ذهاب النساء إلى العطار جريمة كبرى، فلو عرف الجد فيقوم بمعاقبة المرأة الفاعلة عقاباً مريراً. لقد تراجعت مثل هذه المفاهيم بل انهارت تماماً مع تحولات الحياة العصرية، وانفتاح المجتمعات وحدوث تحولات كبيرة في مفهوم السلطة الأسرية، في مقابل الجندر.
يبدأ الماضي التراجيدي للجد حين يفارق العائلة هرباً من عراك نشب بينه وبين واحد من أصحاب النفوذ، حين قام الجد بضرب "الجابي" دفاعاً عن فلاح بسيط. تحدى السلطة، وهرب إلى الفلاة والبراري لعدم إدراكه أن السلطة "خط أحمر، والاحتكاك بها ضرب من المجازفة". ابتعد مسافات عن بلدته ودياره، ظل يمشي هارباً حتى وصل إلى ضفة نهر "تانسيفت" قرب مدينة آسفي، وهناك قرر الاستقرار وهو يهمس لنفسه وسط تعبه وجوعة : "هنا ستكون حياتي، هنا حيث الماء والشجر والهضاب سأعيش وليتبعني الآن أي ابن كلب".
تسترسل الكاتبة خلال فصول متواصلة، في سرد وقائع من حياة هذا الجد الذي يمتاز بالقوة والصلابة، وامتلاك صبر شرس ساعده في تأسيس عالمه في تلك الهضبة القاحلة، وفيها يعيش من الصيد ببندقية اشتراها ليرهب أعداءه. بنى غرفة مرتجلة ثم أحضر له والده فتاة شابة تدعى سلطانة، تزوجها وأنجب منها والد البطلة "أحمد". ثم كرت سبحة زيجاته فأحضر لسلطانة ثلاث ضرائر، يتقاربن معها في العمر والحجم، حتى أن حائكة الثياب اليهودية تقول للجد في مشهد طريف حين يذهب إليها لتحوك سراويلهن الداخلية: "هل أنت متزوج من توائم؟".
ريف مغربي
ترسم صاحبة "طريق الغرام"، عالماً دقيقاً تفصيلياً للحياة في أطراف منطقة ريفية في المغرب، هذا البلد الذي يبدو متشابهاً في ماضيه، مع كثير من البلدان العربية، تحديداً في جانب وعي الأفراد بالعالم الخارجي من حولهم. ويمكن ملاحظة هذا مثلاً في علاقة الجد مع الراديو، فقد أصر الجد على أن يكون أول من يمتلك الراديو في الهضبة، وأن يستقبل الرائح والغادي ويدعوه إلى الاستماع للراديو. تقول: " كان يسعى إلى إبهارهم، مثلما انبهر هو الآخر، وكانوا يفتتنون بالأصوات، فانتشرت في الأنحاء كلها حكاية ذلك الجهاز الغريب، الذي لا أحد يمتلكه سواه في المنطقة بأسرها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يخفى على القارئ، ما تحمله سيرة الجد من تناقضات في اختياراته المتسلطة، التي انحاز فيها دائماً لترسيخ الوجود الجمعي على حساب الأفراد. لقد فرض عليه الرحيل، ثم اختار أن يؤسس حياته بعيداً من بلدته الأم. لم يعرض الصلح أو يطلبه، بل قرر البدء من الصفر. ومن أجل تحقيق معادلة هذا الوجود وترسيخه، كان عليه الزواج من أربع نساء، وألا يمنح قلبه وعواطفه لأي منهن، فهن جميعاً لسن أكثر من حجارة في رقعة الشطرنج التي تسمى عالمه، والغرض هو أسرة كبيرة تتحول إلى قبيلة متفرعة ومهابة. هذا التصور الذي أراده الجد لحياته يحتاج إلى القوة والصلابة ليصبح أمراً واقعاً، حيث لا يمكن التساهل مع أي كان، ممن يفكر بأن يخدش سلطة الجد ومهابته. لنقرأ: "لم يجرؤ أحد، ويتعنت راداً على الحاج كبور خلال غضباته العاصفة، إلا الحبيب. مغامرة فاشلة نجته من الرصاص ذات يوم، فقد ضغط جدي باتجاهه فأفلته عن قصد، ولو كان يريد لقتله... تتذكر الضرائر الخوف من الجد، مثلما يتذكره أبناؤه، والعاملون عنده في الزراعة والري، والمغامرون المسكونون بالتهاون، كل أولئك كانت قناعة جدي ومشاعره مشدودة إلى تأديبهم بالبندقية".
عالم المرأة
تؤسس الرواية لغتها السردية وفق تركيبات لغوية سلسة بعيدة من التعقيد، وترتبط بالواقع ارتباطاً ملموساً ومشهدياً. اعتمدت الكاتبة في بنائها الروائي على تقسيم النص إلى فصول صغيرة مرقمة، بلغ عددها 30 فصلاً، وتداخل فيها السرد بين ماضي الجد، وحاضر البطلة، بين حياتها وحياته. وكأنها تتكئ على ما لديه من عزم وقوة، لتستمد من إرادته وطاقته المتأججة ما تستعين به على مواجهة كبوات حياتها. هي الشابة فريدة التي تريد أن تكتب سيناريو عن الجد، ما تزال تختزن في داخلها فراغاً كبيراً تكون نتيجة غيابها عن والدتها. وتدرك أن أمها حرصت أن تكون علاقتها بها قوية، لكن ثمة فتور من ناحية فريدة، لا تدرك سببه لكنها توقن وجوده، هي الطفلة التي رعاها الجد أكثر من باقي أحفاده، اشترى لها الذهب على شكل أساور ثمينة. لكنها تستدرك لاحقاً أن هذه الرعاية ليست إلا تكفيراً عن ذنبه نحوها في إجبار أبيها على انتزاعها من حضن أمها وأخذها لتعيش في البيت الكبير. لنقرأ: "لم يعتبر جدي نفسه محتالاً، كان الأمر مرتبطاً بالمصلحة، ومصلحة جدي شغله الشاغل، وهي أكبر بكثير من استياء أبي، أو من غضبه، فالمشاق التي تكبدها الجد من أجل البيت الكبير تستحق أن تقدم من أجلها التضحيات الجسام".
يخضع عالم النساء في الرواية للسلطة الذكورية، وهذا يبدو متماهياً مع تلك الحقبة الزمنية، حين كانت المرأة بعيدة من نيل حصتها من التعليم والعمل والاستقلال بقراراتها. وقد ظل هذا النموذج من الحياة سارياً حتى تمردت عليه الحفيدة الراوية "فريدة"، التي شقت لنفسها طريقاً آخر عبر التعلم والعمل والثقافة ثم اختيارها الكتابة، لتكون بوابتها الخاصة كي تدلف إلى الذاكرة، فتفكك حكايات الماضي بكل ما فيه من تناقضات وصعوبات، كانت شاهدة على جزء منها، وجمعت الأجزاء الأخرى مما سمعته أو حكي لها.