قال متحدث الخارجية الأميركية، نيد برايس، إن موقف واشنطن من النظام السوري "لم يتغير"، وإن الوقت الآن "ليس للتطبيع"، وليس مناسباً لتحسين العلاقات مع نظام الأسد، وإن وزير خارجية مصر اعتبر الزيارة إلى دمشق إنسانية.
ولعل تلك التصريحات تشير إلى احتمالات الصدام المكتوم في إطار التحفظات الأميركية على ما يجري عربياً بشأن عودة سوريا إلى موقعها العربي ضمن أطراف الإقليم، وهو ما يؤكد أن هناك تحفظات حقيقية ستعلن عن نفسها في الفترة المقبلة، وقد تؤثر في مسار التحركات العربية والمصرية تجاه سوريا.
تحفظات معلنة
من الواضح أن التحفظات الأميركية على الانفتاح العربي على التعامل مع سوريا مرتبطة بموقف سياسي لم يتغير في شكله، وأن في المضمون ما يمكن اعتباره رسائل أولى لوقف ما يجري من قبل الدول العربية الرئيسة في الإقليم، ويبدو أن الولايات المتحدة تتخوف من احتمالات الإقدام على صيغ جديدة للتعامل مع النظام السوري، وإعادة تعويمه في الإقليم مجدداً، وهو ما قد يخلق حالة من سياسة الأمر الواقع، الأمر الذي قد يدخل السياسات الأميركية في المنطقة في حسابات مختلفة على عكس ما يجري.
لم تعلق الإدارة الأميركية من قبل على تحركات سبقت التحرك المصري، بما في ذلك اتصال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بنظيره السوري عقب كارثة الزلزال الأخير، وفي إشارة لها دلالاتها على مختلف الأصعدة، بخاصة أن الولايات المتحدة تراقب وتتخوف من خطوات مماثلة للتحرك تجاه النظام السوري، مما يعني فعلياً إسقاط ما جرى إقراره من خلال قانون قيصر المفروض أميركياً، وسلسلة التدابير التي تعمل بها السياسة الأميركية في سياق التعامل مع النظام السوري، وشبكة الموضوعات التي تربط الولايات المتحدة وسوريا وتركيا وروسيا.
آليات العودة
لا تريد الإدارة الراهنة الخروج عما يجري، وفي هذا الإطار قد تتحفظ على السياسات العربية والمصرية في هذا السياق من دون أن تملك البديل المطروح في التعامل أو سن عقوبات على ما يجري وسيجري في مسارات العلاقات في الفترة المقبلة، بخاصة مع سرعة الحركة العربية في اتجاه دمشق، والحديث عن ضرورة استئناف سوريا دورها في الجامعة العربية، وتغيير الموقف الراهن، وهو ما يؤكد الأولويات المطروحة عربياً، بخاصة أن القمة العربية المقبلة التي لم يتحدد موعدها بعد (كانت مقررة في مارس/ آذار من كل عام) ستعقد في السعودية، وهي المفروض أن تحدد بالتنسيق مع الأمين العام والدول المعنية عودة سوريا بقرار من مؤسسة القمة العربية، وليس من خلال قرار أوتوماتيكي يصدر من مجلس وزراء الخارجية العرب أو الأمين العام مثلما جرى بعد تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، ونُقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، وتولي الأمانة العامة الشاذلي القليبي.
ومن ثم فإنّ أي تحفظ أميركي على العربي قد يكون مطروحاً في سياقات محددة، لكنه لن يذهب إلى جملة من الإجراءات لعدة أسباب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأول، وفي ما يتعلق بمصر فإن العلاقات المصرية - الأميركية متشابكة ومتفاعلة في قضايا رئيسه وفرعية، وتتمتع بحصانة محددة ومنضبطة، على رغم مساحات المناكفة الكبيرة في مجالات عدة تتعلق بقضايا ثنائية، منها حقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية والإدماج السياسي وغيرها، وحاجة واشنطن إلى مصر في ملفات محددة في الإقليم، منها الأمن في غزة، والدور المركزي في القضية الفلسطينية، ودعمها الأوضاع في ليبيا وشرق المتوسط وغيرها، ومن ثمّ فإن الحديث عن إجراءات عقابية غير صحيح، ولن يحدث.
الثاني، أن البعد الروسي في ما يجري في منظومة العلاقات المصرية - الأميركية قائم في ظل تخوفات أميركية معلنة من تحولات في المواقف والاتجاهات الراهنة لروسيا في الإقليم بأكمله وليس في سوريا، التي نجحت السياسة الروسية في إعادة تموضع عناصرها ونفوذها العسكري والاستراتيجي المقيم، وهو ما يمثل قلقاً أميركياً حقيقياً من دور روسي يتعاظم بدعم ومساندة أطراف عربية وازنة، ولهذا لا تريد الولايات المتحدة انفراط عقد محاصرة سوريا، وتطويق مساحات التحرك في الإقليم، بخاصة أن جملة من الملفات لم تُحسم، بخاصة مع وجود الجانب التركي وحساباته الكبرى في شمال شرقي سوريا، وفي المتوسط، التي تدفع بالفعل إلى ضرورة توخي الحذر من أية تحركات من دول مثل مصر تحديداً.
الثالث، أن الولايات المتحدة لديها تقييماتها لما يجري في الإقليم من تحولات تجاه الولايات المتحدة، وهو ما قد يمثل تحدياً للسياسة الأميركية في هذا التوقيت وقياس درجة تعاملاته مع التطورات الجارية، وهو ما يطرح إشكالية مهمة في قواعد الانضباط والتعامل مع الولايات المتحدة في الإقليم، وهيبة السياسة الأميركية، ومدى تعاملها مع ما سيجري في الفترة المقبلة التي ستنشغل فيها الإدارة الأميركية بالانتخابات الرئاسية.
وعلى رغم الاهتمام بما يجري في سوريا بدليل قيام رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي في 4 مارس 2023 بزيارة مفاجئة لقاعدة في شمال شرقي سوريا، حيث التقى القوات الأميركية، وأكد أن نشر تلك القوات في سوريا منذ ما يقرب من ثمانية أعوام لمحاربة تنظيم "داعش" لا يزال يستحق المخاطرة.
مقاربة أميركية
ستضع الولايات المتحدة أغلب قضايا السياسة الدولية في إطار محدود، وتنتقل إلى القضايا الداخلية الأهم بالنسبة إلى هذه الإدارة في الوقت الراهن، ومن ثمّ فإن الدخول في مناكفات مع مصر غير وارد، وإن كانت ستكتفي بإدارة المشهد، ونقل رسائل تخوفاً من انفتاح أكبر على المستوى العربي، وعينها عما يجري من تطورات حقيقية وفاصلة، وليس ارتباطاً بأبعاد إنسانية أو أخلاقية، ووقوع كوارث إنسانية يمكن أن تكون مدخلاً مباشراً لاستئناف العلاقات مع سوريا في هذا التوقيت أو البناء على ما يجري من تطورات مهمة قد تكون لها الأولوية في الفترة المقبلة، وتحتاج إلى ما هو أبعد من التحفظ أو الاعتراض على ما يجري في الإقليم من تطورات قد تكون مقدمة لوقف، أو على الأقل تقليل الاندفاع نحو النظام الإقليمي والشرق أوسطي، وهو ما تعمل عليه الإدارة الأميركية وإسرائيل، ومن خلال صيغ النقب والمنامة والسلام الأمني والسلام الاقتصادي، بديلاً عن تعثر السلام السياسي.
ومن ثمّ، فإن إعادة استئناف العلاقات المصرية - السورية تحديداً قد يحقق معادلة مهمة، وهي شراكة عربية في مواجهة شراكة الشرق أوسطية التي تطرح في الوقت الراهن بقوة، وأي عودة للحديث عن النظام الإقليمي العربي سيكون له مردوه الحقيقي على ما يجري من تحولات، وتطورات دراماتيكية في إدارة المشهد العربي وعدم قصره فقط على دول بعينها، بخاصة أن الولايات المتحدة ترى أن لمصر على رغم مشاركتها في مجالات التعاون الأمني والاستراتيجي، وأنها عضو عامل وفاعل في القيادة المركزية الأميركية إلى جوار إسرائيل، ودول عربية أخرى، فإن مصر لها حساباتها وتقييماتها، التي قد تعارض السياسة الأميركية في جوانب كثيرة ومتعددة من دون أن تظهر على الملأ، ولم يعد يتضمنها إجراء الحوار الاستراتيجي بين القاهرة وواشنطن واقتصار المسار الأميركي في التعامل على بُعد ضيق ومحدود في دور القاهرة في ترتيب الأجواء الفلسطينية – الإسرائيلية، ومراقبة تثبيت حالة الهدنة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، والمشاركة مع الأردن في تقديم المبادرات، ودعم الاتصالات، وهو ما ترجم أخيراً في لقاء العقبة، ومنه بعد 30 يوماً في شرم الشيخ، في إشارة إلى أن الولايات المتحدة قد لا تعترض على استئناف الاتصالات أو العلاقات بين القاهرة ودمشق، وستكتفي بتأكيد الالتزام بالضوابط والمعايير الموضوعة، والحاكمة للموقف الأميركي تجاه النظام السوري، وآليات التعامل معه في المديين القصير والمتوسط الأجل مع مراعاة أن أي دور عربي أو مصري ستكون له تبعاته على ما سيجري في الفترة المقبلة.
الخلاصات الأخيرة
ستظل الولايات المتحدة تتحرك تجاه سوريا، وفق معادلة محددة بُنيت على قواعد وأسس ثابتة ومن خلال مقاربات مرتبطة بمنظومة عقوبات مستمرة وفاعلة في إطار فرض الحصار، وتطويق تمدد النظام السوري، وهو ما ستعمل الدول العربية على كسر الحصار من خلال إجراءات وتدابير عاجلة كما بدا من مسارات التحرك الأخيرة، بخاصة أن الرئيس السوري بشار الأسد بدأ في التحرك عربياً، الأمر الذي قد يزعج الإدارة الأميركية على رغم امتلاكها لأوراق ضاغطة في تقييد ومحاصرة التحرك تجاه سوريا في الوقت الراهن، وهو ما يؤكد أن الإدارة الأميركية الراهنة ليس لديها كثيراً من الأوراق للتعامل في المنطقة الغربية بعد سلسلة التحركات العربية تجاه روسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي، مما يعني أن الولايات المتحدة، واقعياً لن تصعد أو تتبنى سياسات معادية، أو ضاغطة لا على مصر أو الدول العربية، التي تقطع شوطاً كبيراً تجاه استئناف علاقاتها مع الدولة السورية في الوقت الراهن.