ملخص
مع تراجع الإقبال على #الآداب_والعلوم الإنسانية في البكالوريا لجأت #مدارس إلى إقفال الصفوف في #لبنان
تميّز لبنان عبر التاريخ بالتنوع الثقافي وبمشاركة أبنائه في مجالات الحياة كافة ومنها الفكر والأدب، فكان له دور جوهري فيها على صعيد العالم ككل، والعالم العربي بشكل خاص. لكن مع التغيير الحاصل في المسار الثقافي حالياً، تهيمن مجالات جديدة وتتراجع أخرى.
لطالما كان التنوع الثقافي جوهرياً لتحقيق التطور والنمو في المجتمعات، وأي استبعاد لركن من أركان الثقافة، خصوصاً الفكر والأدب، يشكل تهديداً خطيراً لها. الميل نحو التكنولوجيا وعالمها أصبح أكيداً، لا بل هو حاجة ملحة. إلا أن هذا الواقع من جهة، والأزمة الاقتصادية من جهة ثانية، دفعت مدارس في لبنان إلى التخلي عن فرع الآداب والعلوم الإنسانية لتراجع الإقبال عليه. فتجد أن الحل الأنسب لها، هو في توجيه الطلاب نحو الفروع الأخرى التي قد تفسح المجال لفرص أكثر في سوق العمل. لكن إذا كانت الظروف الصعبة حالياً قد تفرض على المدارس التماشي معها بهذا الشكل، ألا يشكل هذا خطراً على نشأة الأجيال وعلى مستقبل البلاد؟
في تجارب المدارس... مع وضد
جين شليطا في الصف الثاني الثانوي، وتنوي التوجه إلى فرع علوم الحياة العام المقبل كونها تبرع في المواد العلمية. إنما شقيقتها جوي سبقتها في عام 2020 إلى فرع الآداب والإنسانيات، وتخصصت بعدها في مجال الترجمة، كما أحبت دوماً. كان الصف يضم 15 تلميذاً آنذاك، أما في العام الماضي فاقتصر الحضور في الصف على طالبين اثنين. على رغم ذلك، تتمسك مدرسة القلبين الأقدسين بهذا الفرع أياً كانت الظروف.
فضلت جوي دوماً المواد الأدبية وعشقتها. برأيها، يجب أن يُفسَح المجال لكل طالب ليختار ما يفضله من دون عوائق وضغوط، حتى يكون هنا تنوع في الفروع والاختصاصات. فقد لا يفضل الطالب الذي يختار فرع الآداب مواد علم الاقتصاد الذي توجّهه المدارس إليه. فلا يمكن حرمان الطالب من حق الاختيار الحر واتخاذ المسار المفضل له.
من جهتها تشير ماريا أبي فاضل في المدرسة ذاتها، وهي في صف الآداب والإنسانيات، أنها تنوي دراسة الحقوق أو الصحافة. كان من الطبيعي أن تختار هذا الفرع الذي تدرّس فيه المواد المفضلة لها من فلسفة وأدب. واختار الطلاب الـ14 في صفها هذا الفرع لأن المواد فيه مفضلة لهم، وينوون المتابعة لاحقاً في اختصاصات تتطلب التعمق في المواد الأدبية.
لا تنكر ماريا أن كثيرين شجعوها لتختار فرع الاجتماع والاقتصاد كونه أكثر شمولية، خصوصاً أن علاماتها جيدة، لكنها رفضت وفضلت التوجه نحو ما تفضله. وتعبر عن رفضها التام لإقفال هذا الفرع لأن ذلك ليس عادلاً بحق الطلاب الذين يميلون إلى المواد الأدبية ويحبونها ولا يمكن فرض فرع الاجتماع والاقتصاد عليهم وهم لا يحبون هذه المواد.
أما جنيفر أيوب، فتنوي دراسة الحقوق في الجامعة. هي حالياً في الصف الثاني الثانوي، ولا تزال في حالة من التردد والضياع حول ما إذا كان من الأفضل لها اختيار فرع الآداب والإنسانيات في العام المقبل أو فرع الاقتصاد والاجتماع، لاعتبار أن اختيار الأخير يفيدها أيضاً في دراسة الحقوق، بحسب ما قيل لها. لا تنكر أنها أصرت سابقاً على اختيار فرع الآداب والإنسانيات الذي تميل إليه وإلى المواد فيه، بما أنها تعشق الكتابة والأدب واللغة. لكنها حالياً مترددة بعد ما قيل لها في هذا المجال. هذا، فيما تشير إلى أن الضغط لم يأت من الأساتذة لاعتبارهم يتركون الحرية للطلاب لاختيار ما يفضلون.
وبالفعل تؤكد مديرة مدرسة للراهبات الأنطونيات الأخت باسمة الخوري أن المدرسة تتمسك بالمواد الأدبية والفلسفة وتركز عليها لاعتبارها جوهرية في حياة كل فرد. لذلك تعطى حصة من الفلسفة للأطفال الصغار من السنوات الأولى، كمدخل إليها وكإطلالة ثقافية على الفلسفة والوجود بما يتناسب مع أعمارهم الصغيرة. فالتفكير بالوجود والذات والحياة يبدأ من سن صغيرة. "الفكر يقود العالم، فكيف لنا أن نستغني عنه وعن المفكرين والأدباء. كيف لنا أن نستمر من دونهم؟ التفكير بالوجود والحياة من المسائل الجوهرية، وإلا فلا معنى لحياتنا. لذلك نتمسك في كل لحظة ومرحلة بفرع الآداب والإنسانيات".
لكن قد تكون المشكلة في برمجة المناهج التي تفتقر إلى التنظيم. فالمطلوب إدخال الفلسفة في الفروع وعدم حصرها بفرع معين. من المطلوب إعادة الجدولة لمراعاة المتطلبات، بحسب الخوري. فيجب التركيز على مواد من دون إهمال أخرى، كما يحصل الآن، ويجب عدم حصر الفلسفة في فرع الآداب والإنسانيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مدرسة العزم بشمال لبنان، لم يلغَ فرع الآداب والإنسانيات بشكل تام، بحسب مديرتها منى محيو، فالمسألة ترتبط بالإقبال عليه. لم يُغلق الصف بسبب الاستخفاف بالمواد أو بسبب النظرة إليها، كما لم يُلغ بشكل رسمي من قبل وزارة التربية. فكل مدرسة تتخذ القرار بحسب الإقبال على الفرع وليس هناك تعميم لهذه الخطوة. على حد قولها، لوحظ أن الإقبال قليل عليه، ففي مقابل أكثر من 20 طالباً في الفروع الباقية، قد لا يتخطى عدد الطلاب في فرع الآداب والإنسانيات الطالبين. كون الاختيارات محدودة فيه بسبب طبيعة المواد، قد يكون المجال أوسع في الفروع الأخرى للتخصص لاحقاً والعمل.
في الوقت نفسه، يتناول فرع الاقتصاد والمجتمع المواد الأدبية، ولو بنسبة أقل، والمجال مفتوح إلى مختلف الاختصاصات في حال اختيار فرع الاقتصاد والاجتماع، وحتى لدراسة الحقوق. "يُلاحظ أن الطلاب يميلون إلى المواد الأدبية بمعدلات أقل، لأن الاختصاصات والمهن الأكثر استقطاباً للطلاب حالياً هي تلك المرتبطة بالتكنولوجيا والمعلوماتية. هذا ما دفعنا ودفع مدارس عدة أخرى إلى القيام بهذه الخطوة. المسألة ترتبط بالطلب حصراً، وعلى سبيل المثال مع ارتفاع الطلب على التعليم باللغة الإنجليزية لدينا، فتحنا صفوفاً عدة لها في مقابل صف واحد للفرنسية".
المشكلة في التوجه العام
قد يتناقص عدد الطلاب فعلاً، إنما الاستغناء عن فرع الآداب والإنسانيات يعتبر في غاية الخطورة للمستقبل وفق ما توضحه رئيسة المركز الوطني للبحوث العلمية الدكتورة تماراً الزين. فحتى إذا كانت الظروف المادية تفرض على المدرسة الاستغناء عن الفرع لقلة عدد الطلاب، لا يعتبر هذا مقبولاً. وأساس المشكلة في أنه ثمة توجه عام إلى اختيار اختصاصات تُفتح لها مجالات أكثر في سوق العمل، ما يقضي على اختصاصات كثيرة مهمة وأساسية على رأسها تلك المرتبطة بالعلوم الإنسانية والآداب. والمؤسف أنه ثمة توجه عالمي إلى النظر إلى الجامعة كمساحة لتخرّج أشخاص يعملون، لا أشخاص يفكرون. "في الوقت الحالي، ليس هناك وعي حول أهمية هذه الاختصاصات الضرورية، ما يهدد بخطر كبير في تنشئة أجيال تركز حالياً على البرمجة والتكنولوجيا، كما يبدو التوجه العام حالياً. لن يكون لدينا أشخاص يعملون في المجال الفكري والأدبي والعلوم الإنسانية والتطور الوجودي والإنساني في المستقبل. ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك حكماً على البحث العلمي لأنه لا يمكن معالجة موضوع ما لم يكن هناك تقاطع فيه باختصاصات متعددة. وخير مثال على ذلك موضوع التغير المناخي الذي عولج من نواحٍ علمية بحتة، ما لم يكن كافياً لأنه لم تؤخذ في الاعتبار التداخلات الاقتصادية والاجتماعية فيه".
في لبنان بشكل خاص، ينقص الوعي بشكل واضح في هذا المجال. وهناك مشكلة كبيرة في موضوع الوظائف والتركيز الحصري عليها في الاختيار المدرسي والجامعي. هو وضع يدعو للقلق، وقد يكون تصحيحه ممكناً، بحسب الزين، عبر التعاون بين المدارس وإقامة شراكات لضم طلاب من مدارس عدة في فرع الآداب والعلوم الإنسانية. أما الاستمرار باستبعاد الآداب والعلوم الإنسانية، كما يحصل حالياً، فيسهم حكماً في إفقار الفكر في المدى البعيد، فيشكل خطراً لا يستهان به.
التربية في خطر
تحتاج البلاد إلى التنوع الثقافي وإلى تعدد الاختصاصات، لكن بحسب مصدر في وزارة التربية، للأزمة الاقتصادية في البلاد تداعيات واضحة وخطيرة على التربية، كما على مختلف المجالات. ففي هذه الظروف الصعبة ليس هناك تفكير من قبل بعض القيمين على المدارس بالمستقبل، بل يركزون على الوضع الحالي وتحدياته. كما أنه ثمة مشكلة واضحة في المنهج الذي وضع بشكل يوجّه فيه الطالب نحو اختصاص الاجتماع والاقتصاد الأكثر شمولية والذي يفتح له الباب الأوسع نحو اختصاصات مطلوبة في سوق العمل، وإن كانت المواد الأدبية محدودة فيه. ويبدو واضحاً أن الطالب قد يحقق نتائج فضلى في فرع الاجتماع والاقتصاد لأن المواد فيه تسمح بتأمين علامات مرتفعة، وهذا لا ينطبق على فرع الآداب مهما كان الطالب متفوقاً، لصعوبة تحصيل علامات عالية في المواد الأدبية.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تراجع الاهتمام بفرع الآداب والإنسانيات. حالياً تعمل اللجان على الإطار العام للمناهج وقد يُعاد النظر في السلم التعليمي وبتقسيم الفروع. قد يكون الحل مثلاً في التوسع في فرع الآداب والإنسانيات، ويكون هناك المزيد من التنوع في الفروع فيخف الضغط في فروع معينة. حتى أنه من المهم أن تضاف المواد الأدبية في الفروع الباقية لمزيد من الشمولية عبر توزيع المواد على مختلف الفروع بنسبة متفاوتة. بهذه الطريقة، تكون كل الاختيارات متاحة ولا يحرم الطالب من مواد. في الوقت نفسه، يمكنه التوجه إلى فرع يميل أكثر إلى المواد فيه.
هذا ما تؤكده رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء الدكتورة هيام إسحق في حديثها مع "اندبندنت عربية". ففي ظل هذه الأوضاع الصعبة، يصعب إرغام المدارس على فتح صفوف ينخفض فيها عدد الطلاب إلى هذا الحد. لذلك، وحده التغيير في توزيع المواد على الفروع قد يسهم في الحل ويؤمن للطلاب في مختلف الفروع فرصة الإطلاع على المواد بنسبة متفاوتة. هذا ما يؤدي إلى زيادة التوجه إلى فرع الآداب والإنسانيات. كما يسهم في تنمية الطلاب من مختلف الجوانب. فحتى إذا وُجدت مواد بنسبة أقل في فرع ما، وهي لا تحظى باهتمام الطالب بشكل أساسي، من المهم أن يطلع الطالب عليها.
"هذا الواقع لا ينطبق على البكالوريا اللبنانية فحسب، بل على الفرنسية أيضاً حيث توجد فروع عدة ولا تفتح كافة الصفوف فيها في حال عدم وجود العدد الكافي من الطلاب. لذلك أثر سلبي على الطالب عندما يكون لديه ميل إلى الآداب ولا تسنح له الفرصة التوجه إلى هذا المجال. كما يحد هذا من طموحه ويعرّضه للتعثر الدراسي. قد تفرض المدارس ذلك بسبب التكاليف المادية. عملياً لا يبدو أنه ثمة حل آخر أمامها، إنما من حيث المبدأ هو خطأ تربوي كبير لا يمكن التغاضي عنه. لذلك في المنهج الجديد، أصررنا على الشمولية في التربية وعلى أن تحظى المواد كافة، من أدب وفنون ورياضية بالاهتمام نفسه تماماً كالعلوم، وإلا فتكون التنشئة ناقصة. اتجاهات الطلاب مهمة ولا يمكن التهاون في أي منها".