ملخص
سيؤدي التقارب المصري - التركي إلى مزيد من تحريك المشهد في #إقليم_المتوسط وسيدفع بعض الدول مثل #إسرائيل للتدخل عبر استراتيجية متعددة
في وقت يمضي فيه التقارب المصري - التركي في مساره بعد زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري أنقرة، وزيارة نظيره التركي مولود جاويش القاهرة، تثار تساؤلات متعلقة بما هو قادم من تطورات وترقب من دول شرق المتوسط، بخاصة كل من قبرص واليونان من جانب، والسلطة الفلسطينية وسوريا ولبنان من جانب آخر.
فالتطورات الحادثة في العلاقات مهمة ومفصلية، وقد تؤثر في ما سيجري في مسار العلاقات المصرية - التركية، ويفتح الباب أمام مشاهد عدة وسيناريوهات مختلفة عما هو قائم وساكن في الفترة الراهنة، والمرشح بقوة للتغيير، أو على الأقل لمواقف أكثر واقعية أو راديكالية، وهو ما تترقبه كل الأطراف في الإقليم.
تحفظات مبكرة
في إطار العلاقات المتوترة بين تركيا واليونان، فإن هناك تحفظات سبق أن أثيرت بين الجانبين المصري واليوناني في الفترات الأولى للانفتاح المصري على تركيا، حتى قبل مصافحة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نظيره التركي رجب طيب أردوغان في الدوحة، وهو ما يؤكد أن اليونان، وعبر رسائلها السياسية والدبلوماسية، لا تزال تراجع مجمل مواقفها في شرق المتوسط، بخاصة أن الدولتين على رغم عضويتهما في الناتو إلا أنهما فشلا في التوصل إلى حلول، ولو جزئية في إطار الصراع التاريخي في الإقليم، وفي إطار التركيز على التسويات الأمنية الموقتة، التي تتغير بحسب الظروف والمتطلبات لكل طرف، وما يعني أن الصراع سيمضي في إطار ما هو قائم.
ستحتاج اليونان إلى مواقف جادة من دول المتوسط، بخاصة أنها رسمت حدودها البحرية مع مصر، واستقرت علاقاتها مع قبرص أيضاً، وتعمق الأمر من خلال مقاربة مصلحية ولقاءات مكثفة في إطار التحالف الثلاثي، وعبرت عنه فعاليات عسكرية واقتصادية واتفاقات ثنائية وثلاثية، الأمر الذي أكد خصوصية العلاقات مع الجانبين المصري والقبرصي.
والأمر نفسه ينطبق على الجانب القبرصي الذي رسم حدوده مع مصر في فترة الرئيس الموقت لمصر وقتها عدلي منصور، وقد تطورت العلاقات بين البلدان الثلاثة في سياق ما عرف بعد ذلك بمنتدى غاز المتوسط، الذي تبلورت فعالياته ليصبح المنظمة الإقليمية لغاز المتوسط، بعد أن حولت مصر وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن منتدى غاز شرق المتوسط إلى منظمة إقليمية.
والمعنى أن التعاون الثلاثي تطور بين البلدان الثلاثة: مصر واليونان وقبرص بشكل واقعي، وقد أبدت البلدان اليونان وقبرص بعض التحفظات المكتومة على مسار العلاقات المصرية - التركية، بخاصة أن أنقرة لا تزال لا تعترف أصلاً بقبرص، ولا ترى شبه جزيرة كريت المجاورة، ومن ثم فكيف يمكن قبولها في أي نشاط، أو فعالية تضم دول شرق المتوسط، بخاصة أن الموقف التركي لم يتغير تجاه ما جرى في الإقليم، إذ لا تزال تتحرك تركيا في إطار الدعوة إلى تنشيط قنوات التعاون في الإقليم، وإعادة التركيز على أولويات دوله في الفترة المقبلة بعد أن تغيرت الأجواء، الأمر الذي سيمثل إزعاجاً حقيقياً لدول أخرى مقابلة على الأقل في المديين المتوسط والطويل الأجل.
تحركات تكتيكية
ستتحرك دول مثل لبنان وسوريا لتحديد مسارات التحرك، وذلك بعد ترسيم الحدود الإسرائيلية - اللبنانية، واستقرار الاتفاق في ظل مراقبة ومتابعة أميركية. فإن السؤال وماذا عن سوريا هي الأخرى في ظل المتغيرات الجديدة التي ستفرض نفسها، ومنها العمل على عودة سوريا إلى النطاق الإقليمي العربي، وإلى موقعها في الجامعة العربية في القمة العربية المقبلة، التي ستعقد في السعودية، وكيف سيكون الموقف السوري في ظل عدم تطبيع العلاقات السورية - التركية حتى الآن، واستمرار الاتصالات وراء ستار مع تحرك الجانب الروسي في إطار دعمه المستمر للمواقف السورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيدخل الجانب الروسي طرفاً رئيساً في ما يجري لاعتبارات متعلقة بوجوده، وحضوره الأمني والاستراتيجي في سوريا، وهو ما سيعطي دوراً لروسيا في الدخول على الخط في ملف إقليم شرق المتوسط، بل والبناء على سياسات مطروحة، ومهمة في سياق لعبة التبادلات الكبرى التي سيدخلها إلى جانب روسيا تركيا ومصر واليونان وقبرص. أي الدول المشكلة لمنتدى غاز المتوسط، التي تسعى أنقرة هي الأخرى إلى اللحاق بركب ما يجري من اتفاقات واتصالات تعمقت بنودها طوال الفترة الماضية، ويمكن طرحها في سياق السياسي والأمني والاقتصادي، وهو ما سيتحرك من خلاله كل الأطراف الراهنة، التي ستعمل في إطار مقاربات مصلحية بدليل توقيع قبرص وإسرائيل اتفاق إقامة كابل كهربائي عالي الجهد يربط بينهما، تنفيذاً للمرحلة الأولى من مشروع لنقل الطاقة بين إسرائيل وأوروبا.
وسيتيح المشروع المسمى الربط الأوروبي - الآسيوي لكل من إسرائيل وقبرص تبادل الطاقة الكهربائية في حال الطوارئ، مع احتمال تصديرهما للطاقة المنتجة من الغاز الطبيعي نحو اليونان والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى مشاريع أخرى منها، توقيع قبرص واليونان وإسرائيل اتفاقاً لمد أطول وأعمق كابل كهرباء تحت الماء سيقطع قاع البحر المتوسط بكلفة نحو 900 مليون دولار، ويربط الشبكات الكهربائية للدول الثلاث، وسيغطي المشروع ثلاثة قطاعات من البحر المتوسط: نحو 310 كيلومترات بين إسرائيل وقبرص، ونحو 900 كيلومتر بين قبرص وجزيرة كريت، ونحو 310 كيلومترات إضافية بين جزيرة كريت والبر الرئيس لليونان.
ومع استمرار التعاون مع مصر بمقتضى توقيع صفقة شركة ديلك دريلينج الإسرائيلية وشريكتها الأميركية نوبل إنرجي لنقل الغاز الطبيعي هناك، فإن الاكتشافات الأخيرة في شرق المتوسط وترسيم مصر لحدودها من جانب واحد مع ليبيا سيفتح الباب أمام مزيد من التعاون بين البلدين، بخاصة مع التسليم الإسرائيلي بأن القاهرة باتت مركزاً فعلياً للطاقة.
تأثيرات متعددة
إن التقارب المصري - التركي سيؤدي إلى مزيد من تحريك المشهد في إقليم المتوسط، وسيدفع بعض الدول مثل إسرائيل للتدخل عبر استراتيجية متعددة، منها العمل في إطار جماعي، كما هو جار، وقد شاركت إسرائيل في كل اللقاءات الإقليمية لشرق المتوسط، لكنها أيضاً تحركت في إطار ثنائي مع قبرص ثم اليونان، ثم معاً في إطار تجمع ثلاثي، ووقعت سلسلة من الاتفاقات في إطار مصلحي تضمنت ملفات الغاز والنفط، وحركة الاستثمارات، تنشيط العمل التجاري بين البلدان الثلاثة. وسيحدد التقارب المصري - التركي ودخوله إلى مسارات مختلفة النطاقات الجديدة للسلطة الفلسطينية الساعية إلى تطوير مجالات العمل، بل والدعوة المتجددة إلى رسم الحدود البحرية لفلسطين مع تركيا، وهو الطلب الذي طرح فلسطينياً وجرى تأجيله.
ومن ثم فإن إعادة بناء منظومة العلاقات في نطاق المتوسط سيدفع بالضرورة إلى متغيرات تشمل دول الإقليم، وبعضها أصلاً لم يتم حسمه، ومنها على سبيل المثال عدم رسم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل حتى الآن.
كما أن الصراع الإسرائيلي مع قطاع غزة لن يحسم بسهوله ما يجري في الآبار القريبة من الحدود المصرية الفلسطينية ويعطل العمل فيها، وما كان محوراً مهماً بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية ومصر ووجود مصر في تفاصيل ما يجري، وتحفظت على تفاصيله حركة حماس، إذ جرى توقيع الاتفاقات النهائية ما بين الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية إيجاس والسلطة الفلسطينية بخصوص تطوير حقل "غزة مارين"، كما جرى تكوين تحالف من الشركات المتخصصة، تحت مظلة إيجاس، لتطوير هذا الحقل الواقع ضمن المياه الاقتصادية الفلسطينية أمام شواطئ غزة.
سيناريوهات متوقعة
في إطار ما يجري من تطورات، وتوقعات في المشهد الراهن والمحتمل في إقليم شرق المتوسط عقب التقارب المصري - التركي، وقرب استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين فإن هناك تصورات عدة:
الأول: اعتماد نموذج الرشادة الاقتصادية والمصطلحية، وهو ما جرى في الإقليم في ظل غياب الجانب التركي، وفي حال قبول الأعضاء بانضمامه رسمياً فإنه سيعجل بتطبيق نموذج تنمية العلاقات في الإطار الجماعي الشامل مع بقاء سلسلة التجاذبات، كما هي عليه، وعدم تغيير المشهد السياسي والاقتصادي بمعنى حلحلة الأزمات الهيكلية، التي تشمل تركيا اليونان وتركيا قبرص وسوريا تركيا ولبنان إسرائيل على رغم ترسيم الحدود البحرية، فهناك إشكالية أخرى متعلقة بترسم الحدود البرية المعلقة، إضافة إلى استمرار الموقف الفلسطيني، بخاصة بالنسبة إلى قطاع غزة على ما هو عليه وإسرائيل وغيرها من القضايا ذات الطابع محل الخلاف السياسي والاستراتيجي بين دول الإقليم، وقد يؤدي إلى مزيد من الخلافات الثنائية، بل والمتعددة الأطراف، ولا تزال تشكك أنقرة في حق قبرص اليونانية في التنقيب عن النفط والغاز، إذ رفضت قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي المواقف التركية، وحددت منطقتها الاقتصادية الخالصة عام 2004، ورسمت حدودها البحرية مع كل من مصر وإسرائيل.
الثاني: عدم قبول دول الإقليم سواء في المنتدى بتركيا إلا بعد أن تستوفي شروط القبول العام ليس على مستوى العضوية فقط، بل على أساس العلاقات الجديدة التي ستتحرك فيها دول الإقليم في حال التحاق تركيا بما يجري، وهو ما سيرسم مساحات جديدة للعلاقات، وسيحدد الأسس المتوقعة والمشاهد المتصورة لمسار العلاقات الراهنة والمتوقعة، وبل سيرسم مسارات ما سيجري.
والسؤال هل سيتغير الأمر في ظل عدم اعتراف حكومة أنقرة بشرعية الاتفاقات الخاصة بترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة التي وقعتها قبرص مع مصر ولبنان وإسرائيل، لأن قبرص ما زالت جزيرة مقسمة، كما أن لتركيا أيضاً مطالب في الجرف القاري، من غرب قبرص إلى خط الوسط بين تركيا ومصر، والمتداخل جزئياً مع جزء من المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص هذا نموذج لما يجري في الإقليم.
بالتالي فالقضية ليست قبولاً أو تحفظاً على ما سيجري، بخاصة أن ما جرى في إقليم شرق المتوسط أخذ سنوات طويلة لإقراره والتوصل إليه، وهو ما يجب الانتباه إليه والتركيز عليه بصرف النظر عن السلوك السياسي أو الاستراتيجي لكل طرف، والمؤكد أن مصر لن تقبل أن يكون تحسين علاقاتها مع تركيا واستئناف العلاقات رسمياً على حساب قبرص أو اليونان.
ومع ذلك فهناك تحفظات حقيقية لا تزال تثار فيما هو قادم، وسيكون عنواناً لأي سيناريو مطروح في الفترة المقبلة، وسيتم العمل من خلاله، ومن ثم فإن ما يجري من تحولات حقيقية في المشهد الراهن والمنتظر في إقليم شرق المتوسط سيرتبط بمصالح وتوجهات وأهداف لكل طرف، ولن يقتصر على الجانبين المصري والتركي، بل سيمتد إلى دول خارج الإقليم، ومنها روسيا وفرنسا الدولة العضو المراقب في منتدى الغاز والولايات المتحدة، إضافة إلى الشركات الكبرى العاملة في الإقليم، وهي متعددة الجنسيات، ولها دور مهم في ما يجري من ترتيبات، أو إجراءات مهمة وفي أي سياق قد يتم.
وفي المجمل من الواضح أن دول إقليم شرق المتوسط ستظل تراقب وتبحث وتتابع ما يجري من تحولات مهمة ومتوقعة، لكن سيبقى الأهم فيما سينعكس من تأثيرات في مصالحها الكبرى، وعلى مستوى كل دولة على حدة مع العمل في سياقات إقليمية ودولية مرحلية وتدريجية ووفق استراتيجية مصلحية ونفعية في المقام الأول.