ملخص
على رغم حال الانفتاح التي عاشتها تونس بعد انتفاضة 14 يناير (كانون الأول) 2011 إلا أن "اللادينيين" في البلاد اختاروا الفضاء الافتراضي كملاذ للنشاط من أجل إبلاغ مطالبهم إلى السلطات، التي من بينها ضمان حرية المعتقد في بلد ما زال يخضع بشكل كبير للفكر المحافظ
على رغم حال الانفتاح التي عاشتها تونس بعد انتفاضة 14 يناير (كانون الأول) 2011 إلا أن "اللادينيين" في البلاد اختاروا الفضاء الافتراضي كملاذ للنشاط من أجل إبلاغ مطالبهم إلى السلطات، التي من بينها ضمان حرية المعتقد في بلد ما زال يخضع بشكل كبير للفكر المحافظ، مما يجعل هؤلاء منبوذين من المجتمع.
ولا توجد إحصاءات رسمية حول أعداد "اللادينيين"، لكن متحدثين باسم هؤلاء يقولون إنهم تضاعفوا بعد انتفاضة 14 يناير، وخلص استطلاع للرأي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عام 2019، إلى أن تونس الأولى على المستوى العربي في انتشار "اللادينيين".
و"اللادينيون" هم أشخاص لا يؤمنون بالأديان الموجودة مثل الإسلام والمسيحية واليهودية.
"العالم الافتراضي ملاذنا"
وسمحت فترة ما بعد انتفاضة 2011 لعديد من الأقليات سواء الدينية أو غيرها بترتيب صفوفها وتكثيف نشاطها لا سيما افتراضياً، وأصبح المجال مفتوحاً للجميع للتحرك هناك، إذ أصبح "اللادينيون" حاضرين بقوة من خلال صفحات ومجموعات يفتحون فيها نقاشات حول أفكارهم.
ويعد الإسلام الدين الرسمي للدولة في تونس، ويشترط أن يكون المرشح لرئاستها مسلماً، وينتشر عديد من الديانات الأخرى مثل المسيحية واليهودية والبهائية، وهي أقليات مقارنة بالإسلام.
ونص الفصل الخامس من الدستور التونسي الجديد، الذي تم إقراره في استفتاء شعبي، في 25 يوليو (تموز) 2022، على أن "تونس جزء من الأمة الإسلامية وأن الدولة تعمل وحدها، في ظل نظام ديمقراطي، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية"، ونص الفصل الـ 27 على أن "تضمن الدولة حرية المعتقد وحرية الضمير".
وقال رئيس جمعية المفكرين الأحرار الإمام حاتم، وهو "لا ديني"، إن "العالم الافتراضي هو ملاذ كل الأقليات الفكرية ونحن جزء منها بعيداً من قمع المجتمع وقمع الدولة، في هذا العصر أصبح الإنترنت أقوى وأفضل وسيلة تواصل ولا غنى عنه سواء بصفة سرية أو علانية"، وتابع حاتم الذي ينشط في عديد من الصفحات باسمه الشخصي واسم جمعيته، "بعد الثورة ساد مناخ من الديمقراطية والحرية مما ساهم بطريقة مباشرة في زيادة أعداد المتطرفين دينياً، وانتشار الفكر المتطرف، وفي الوقت نفسه زيادة أعداد اللادينيين وانتشار الفكر الحر بطريقة غير مسبوقة".
ولفت إلى أن "مناخ الحرية يعطي الفرص للطرفين بطريقة عادلة والبقاء بعدها للأفكار الأكثر منطقية وإقناعاً، وبعد الانتفاضة خرجنا للعلن وأسسنا جمعيات وأحزاباً وشاركنا في الانتخابات التشريعية مجاهرين ببرنامج علماني واضح وأفكار ثورية، ونظمنا وقفات ومسيرات واستطعنا التأثير وتغيير قوانين ورفع مظالم قضائية"، وشدد حاتم على أنه "قبل الثورة وفي بدايتها كنا نجتمع سراً بأسماء مستعارة مثلما يفعل اللادينيون في بقية الدول العربية حتى اليوم، وكانت المجاهرة بالفكر اللاديني مجازفة خطرة سواء اجتماعياً أو أمنياً، وحتى بعد خروجنا للعلن والمجاهرة بأفكارنا، ما زال العالم الافتراضي هو السبيل الأمثل للتنظيم والتعبير عن الرأي والتعرف على أكبر عدد من الناشطين الجدد".
لكن هذا النشاط المكثف في الفضاء الافتراضي لا يحجب وجود محاولات لترسيخ "اللادينيين" أنفسهم كرقم في المعادلة السياسية والاجتماعية في تونس حيث سعوا بعد انتفاضة 14 يناير إلى إنشاء حزب سياسي، وتظاهروا في الشارع للمطالبة مثلاً بالحق في الإفطار في رمضان علناً رافضين حملات للتشهير بالمفطرين ومعاقبتهم، كما أسس هؤلاء جمعيتين ينشطون من خلالهما، وهما "جمعية المفكرين الأحرار" لرئيسها حاتم، وجمعية أخرى أنشئت عام 2018، وتضم 84 عضواً، لكن مرتاديها على مواقع التواصل الاجتماعي بالمئات.
مطالب مختلفة
وبخروجهم إلى العلن في شكل مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم في شكل تحركات احتجاجية، برزت مطالب مختلفة لهؤلاء في تونس على غرار الدعوة إلى إرساء المساواة في الميراث بين الجنسين.
وقال حاتم "طالبنا وما زلنا نطالب بالمساواة في الميراث، وأحقية زواج التونسية بأجنبي وتغيير الفصل 230 من المجلة الجزائية المتعلق بتجريم المثلية، وتغيير القانون عدد 52 المتعلق بالقنب الهندي"، وتابع "كذلك كنا من الأوائل الذين تصدوا للحملات الأمنية في رمضان ضد المقاهي المفتوحة وضد المفطرين، ولنا إنجازات عدة على مدى سنوات بعد الانتفاضة أو الأحداث التي تلت سقوط زين العابدين بن علي أهمها نشر الفكر الحر لدى آلاف التونسيين وهو أمر ليس بالسهل، لكن مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت تمكنا فعلاً من ذلك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف حاتم "مطالبنا تتمحور في أننا نريد بلداً يحتوي الجميع، لا يشترط دين رئيس الدولة، ولا يفرض دراسة دين معين في المناهج التعليمية، ولا يفرض الصوم بالقوة الأمنية والقضاء، ويستعمل القانون لقمع أصحاب الفكر المختلف، نريدها دولة علمانية تعامل كل مواطنيها على قدم المساواة من دون تمييز ديني أو عرقي".
لا خطر على الدينيين
إلا أن المحامي علاء الخميري لا يرى في المقابل خطراً يتهدد "اللادينيين" بشكل خاص حالياً في تونس، وقال "عموماً يبدو في ظل الأيديولوجيا الشعبوية التي تنتعش حالياً في تونس كل الحقوق والحريات بخاصة منها الفردية مهددة".
وحاول الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إدخال تعديلات على توزيع حصص الميراث بمشروع يرمي إلى المساواة التامة، والسماح للتونسية بالزواج من أجنبي من دون تغيير ديانته بخلاف ما كان معمولاً به، لكن هذا المشروع قوبل برفض شعبي وسياسي قوي جعله حبيس أدراج البرلمان.
ونادت جمعيات حقوقية مراراً بضرورة تعديل ترسانة القوانين في تونس، من بينها المتعلق بالفحص الشرجي، وإلغاء تجريم المثلية الجنسية والذهاب نحو المساواة التامة بين المرأة والرجل، لكن هذه المواضيع حساسة في الشارع، ولم يتم بعد الحسم فيها.
ويرفض الرئيس قيس سعيد، الذي أعاد البلاد إلى نظام رئاسي وقاد إصلاحات دستورية في الأشهر الماضية بشدة المساواة في الميراث، كما إلغاء تجريم المثلية الجنسية.
واعتبر الخميري أن "ما نلاحظه في السنوات الأخيرة أن هناك أفراداً وجمعيات نشطت في الدفاع عن حرية الضمير والمعتقد سواء على المستوى الافتراضي أو في تحركات ميدانية بخاصة خلال شهر رمضان أو حتى في شكل صراع قضائي أمام المحاكم"، واستدرك قائلاً "لكن حالياً ومع تراجع المد التقدمي والطبيعة المحافظة والشعبوية من النظام، فقد بدأ ينحسر نشاط وإشعاع معظم الحركات المدنية التقدمية واليسارية مما انعكس بالضرورة على نشاط التيار اللاديني"، مشيراً إلى أن "المطلوب من الدولة تعديل قوانينها ومواءمتها مع الدستور والمعاهدات الدولية التي انضمت إليها تونس في خصوص احترام الحقوق والحريات الفردية عموماً، ومنها حرية المعتقد والضمير التي تنطوي تحتها حرية هذه الأقلية"، ورأى أن هذه التعديلات يجب أن تشمل تلك الجرائم التي تمس بالحقوق الفردية مثل الجرائم الأخلاقية التي تعاقب عليها السلطات.