Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مخطوط مضطرب كاد يطمس آداب العرب قبل الإسلام (5-5)

صراع ابن سلام بين كبر السن والمرض ورطه فعجِل وأخطأ ونقل معركة الشعر من القرن الثامن الميلادي إلى العشرين

جهود العلامة محمود شاكر في تحقيق التراث أنصفت الشعر الجاهلي  (اندبندنت عربية)

ملخص

أغلق المحقق محمود شاكر أبواب الشك في الشعر الجاهلي بإحياء مخطوط كاد يطمس آداب العرب قبل الإسلام وهذه تفاصيل رحلته مع رفيقيه الجاحظ وابن سلام

ما زلنا في رحاب السردية التاريخية للمعلقات العربية قبل الإسلام وما تضمنته من معارك نقدية دارت في فلك "الشك في الشعر الجاهلي"، وقد طالت مراجعاتها على مدى عقود القرن العشرين، شقت خلالها بطون الصحف القديمة وكشفت عن المعارف في صدور العلماء الثقاة، واغترفت من بحور علمهم.

مسيرة "النصوص" 

في عام 1975 ألقى إمام علم التحقيق محمود شاكر محاضرة على طلاب جامعة الإمام محمد بن سعود، جاءت بعنوان "قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام"، نشرتها آنذاك مجلة العرب وصدرت في طبعة مشتركة عن القاهرة وجدة عام 1997. دارت المحاضرة في فلك ثلاث قضايا، تمثلت في عمر الشعر الجاهلي، وشعراء الجاهلية المعروفين، وأخيراً نسبة الأشعار للجاهليين.

يشير شاكر إلى سبب اختياره لابن سلام دون غيره من النقاد القدامى فيقول، "قادت رسالة ابن سلام إلى كثير من الشك في صحة الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا، وذلك لأنها لم تفهم على وجهها الصحيح، ولم تقرأ كما ينبغي".

ومن بديع ما ذكر الشيخ عن قضية عُمر الشعر الجاهلي أنه لم يتحرج في نقد رفيق روحه أبي عثمان الجاحظ بعدما ضل طريق المنطق الذي عهده عليه، فقدم درساً في تحقيق النصوص جديراً بالوقوف أمامه، وعدّ أمر الجاحظ زلة عالم جليل بأخبار العرب وأشعارهم، وكشف عن أبعادها النفسية والتاريخية عبر تقصي سيرة نص الجاحظ. كما كشف أيضا أن مصدر اللبس الذي نقل عنه يرجع إلى زيغ قراءة الجاحظ لكتاب ابن سلام الجمحي، التي لم يتريث فيها وحرّفها إلى غير موضعها، الأمر الذي أسفر عن الشك في الشعر الجاهلي استناداً إلى الجاحظ وابن سلام معاً.

يروي الشيخ شاكر، عليه رحمة الله، عن قضية عمر الشعر الجاهلي، أن "أكثر الباحثين يؤولون في الحديث عنها إلى قول أبي عثمان الجاحظ (المولود سنة 150 هـ والمتوفى سنة 255 هـ) لأنه من أقدم ما قيل في هذه القضية، ولثقة الناس بعقل الجاحظ ونظره". بعدها يذكر النص الكامل الوارد في كتاب الحيوان، ويسجل ما رصده الجاحظ عن أن الشعر "حديث الميلاد صغير السن"، استناداً إلى مروية عن امرئ القيس. وبعد عملية حسابية عاد الجاحظ بتاريخ الشعر العربي إلى 150 أو 200 عام قبل الإسلام على أقصى تقدير. الأمر الذي حير شاكر فتساءل من أين للجاحظ بهذه الدعوى التي باتت سنداً ومصدراً للكثير من المزاعم مع تعاقب الحقب؟ 

يعقب شاكر، "هذا هو أسلوب أبي عثمان في الاستدلال على حداثة (الشعر) عند العرب". بعدها يزيل أحد المشهود لهم بالتبحر في علوم اللغة وتحقيق التراث، اللبس من واقع منهجه التذوقي الصادر عن طول مطالعته النصوص القديمة وبصيرته النقدية الصارمة حتى ليظن المرء أنه عاش بينهم وليس بيننا.

يقول، "وهذا الأسلوب من النظر في تقدير عمر الشعر العربي، أسلوب حسابي بحت. والحساب وحده لا يكاد يعني شيئاً في ميلاد الشعر وحداثة سنه. لم ينظر أبو عثمان، أو لم يبال أن ينظر، في شعر امرئ القيس نفسه، كيف جاء موزوناً مقفّى على ضروب مختلفة من الأوزان والقوافي معروفة عنده في شعر مهلهل وابن أخته الذي ورث عنه الشعر. ولم يبال أن يأمر نفسه أن تنظر كيف تسنّى لمهلهل وابن أخته أن يستحدثا هذا القدر في البحور المختلفة الأوزان والقوافي؟ ولا كيف يمكن أن يقع لهما هذا القدر من الابتداع جملةً على غير مثال سابق؟ وأسئلة أخرى كثيرة جداً".

 

 

يتابع العارف بدروب وخبايا ونقد النصوص، "والذي لا أشك فيه، لطول معرفتي بأبي عثمان، هو أنه فرح فرحاً شديداً غامراً بأسلوبه الحسابي في الاستدلال على ميلاد الشعر، فأغفله الفرح الغامر عن مذهبه في النظر والفحص والتساؤل، وتقليب كل قضية على وجه بعد وجه، معترضاً، آخذاً تاركاً، دافعاً مثبتاً حتى يفرغ. وهو مذهبه الذي برع فيه، كما هو معلوم مألوف في كتبه ورسائله، وفي احتجاجه لآرائه التي تولى نصرتها، وأقواله التي استحدث بها مذهبه في الاعتزال".

يحسم بعدها الأمر، "إذن، فقول الجاحظ (إن الشعر حديث الميلاد صغير السن)، قضية باطلة، لا برهان عليها، وليس لها دليل، وهي مقالة لا أصل لها، وليس يبقى في أيدينا من استظهاره الذي استظهره إلا أمر واحد، هو أن امرأ القيس وخاله المهلهل من أقدم شعراء الجاهلية الذين انتهى إلينا شعرهم".

العبارة الزائغة بين عبارتين!

لكن ما حير شاكر لزمن طويل من أين أتى الجاحظ بهذه الدعوى التي بنى عليها أن امرأ القيس أول من نهج سبيل الشعر وسهل تاريخه؟ ونهل وراءه من جاء بعده دون تحقق أو بينة؟

ليبدأ بعدها رحلة تقصى خلالها أثر عبارة الجاحظ "الزائغة"، وكشف أن نسبتها تتأرجح بين استدعائه حديثاً ضعيف النسب إلى النبي، ولم يكن الجاحظ من أهل الحديث، الذي جاء فيه، "صاحب لواء الشعراء إلى النار، امرؤ القيس، لأنه أول من أحكم الشعر"، وبين جملة ذكرها معاصره ابن سلام الجمحي، أحد الراسخين في رواية الشعر وتحقيقه ونقده، وكان الجاحظ قد طالع كتاب ابن سلام على عجل، وأعاد صياغة عبارته وأضاف إليها مذهبه. فكثر التأويل على غير هدي وذاعت الأباطيل من دون سند.

بين عبارتين في عُمر قضية الشعر الجاهلي كادت قصائده الطوال تدخل تحت طائلة تزييف تاريخي يقضي بأنها منسوبة إلى عرب ما قبل الإسلام فيما هم أصحابها وسادة حرفها. كان وراء العبارة الأولى استعجال الجمحي في صك عبارة غامضة، لم يمهله القدر لتوضيح سياقها واستدراكه الوقوف على غرابة تراكيبها وهو من أئمة رواة الأخبار والشعر، فيما تمثل دافع العبارة الأخيرة في غواية الجاحظ نحو تسجيل السبق والزيادة على الجمحي. بين هذه وتلك جاء الشك في نسبة الشعر الجاهلي خلال العصور المتأخرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أورد شاكر تفاصيل عبارة ابن سلام الجمحي التي جاء فيها، (أول من قصّد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة التغلبي) ثم قال، (كان امرؤ القيس بن حجر بعد مهلهل ومهلل خاله، وطرفة وعبيد"، وأن امرأ القيس (سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعه فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والتبكاء في الديار ... إلخ)". ولما قرأ أبو عثمان مقالة ابن سلام في أول كتابه، أعجبته وهزّته، وبدا له أن يصوغ من ذلك كله قضية يزيد فيها على ابن سلام، فاجتهد فصاغ قضيته الأولى (عمر الشعر الجاهلي)، جاء فيها "أول من نهج سبيل الشعر وسهل الطريق إليه امرؤ القيس ومهلهل بن ربيعة"، وأعجبه ما صاغ إعجاباً مفرطاً، فإنه ابتدع ما لم يُسبق إليه، ولم يبال بهذا الفرق الظاهر بين قوله هو: (أول من نهج سبيل الشعر) وقول ابن سلام: (أول من قصد القصائد)، وقول الخبر الهالك (أول من أحكم الشعر). فإن ألفاظ الخبرين جميعاً لا تتناول الحكم على أولية الشعر نفسه، بل هي مقصورة على أولية تقصيد القصائد وذكر الوقائع فيها، أو على أولية إحكام الشعر، وأن مهلهلاً وامرأ القيس كان لكل منهما الفضل الأول في ذلك". وفق شاكر.

بيد أن الجاحظ لم يبال طرفة عين، والكلام لا يزال لشاكر، أن ينقل هذه الأولية من معنى خاص محدد هو تقصيد القصائد وتطويلها إلى معنى عام مطلق جامع هو الشعر نفسه. واستحوذ عليه إعجابه بنفسه وثقته بحسن رأيه ونظره أن يزداد سبقاً في الاستخراج والاستنباط فزاغ زيغة منكرة مفرطة الغرابة فأعاد صياغة القضية صياغة جديدة يلقيها مسلمة لا تحتاج إلى برهان". وفق شاكر الذي يذكر في سياق آخر، "والعجب كل العجب بعد ذلك، لمن يعتمد قول الجاحظ في أولية الشعر وعمره، وحداثة ميلاده وصغر سنه!"

 

 

وثيقة مضطربة الرسالة

بعدما فض شاكر حديث الجاحظ سريعاً، وكشف عن مصدره الذي توقف عند ابن سلام الجمحي، كان لزاماً على الشيخ أن يتوقف طويلاً مع الأخير، وهو ما قد جرى.

يطلعنا شاكر على أسرار صناعته في تحقيق كتاب "طبقات فحول الشعراء" عبر درس نقدي له فتوحاته في تاريخ النصوص. يقول عن آلية عمل القدماء في التأليف، "أن القدماء من علمائنا كانوا لا يجدون في الاستطراد حرجاً على أنفسهم ولا على سامعيهم أو قارئيهم، وكانوا لا يرون به بأساً، لأنه يعين على بذل علم أو معرفة نافعة في جانب من جوانب الموضوع الذين يتحدثون فيه، حتى يبلغوا من ذلك أن تجد أداة الشرط في أول الحديث، ثم تنقضي عدة صفحات طوال جداً حتى يقف على جواب الشرط. تجد هذا عند الشافعي والطبري وغيرهما من أهل العلم، رضي الله عنهم، ومصداق ذلك في رسالة كتاب (طبقات فحول الشعراء) الذي ذاع صيته بعد وفاة صاحبه بأكثر من 65 عاماً ما بين عامي 295 إلى 300 هجرياً".

رسالة كتاب "طبقات فحول الشعراء"، جاءت في 50 صفحة قسمها الشيخ شاكر إلى 55 فقرة ليستخلص بعد تحليل مطول يكشف عن عقلية فذة في تحقيق التراث، أن ابن سلام بدأ كلامه عن الشعر في الفقرة الثانية من كتابة والتي كانت معنية بعرض منهجه واختتمها بقوله "فبدأنا الشعر". بعدها تعجل الكلام واستطرد من الفقرة الثالثة عن ضرب من الكلام (مصنوع مفتعل موضوع) وأبان عن خبث عُواره. وطال الاستطراد بتعقيب وتوضيح من الفقرة السابعة إلى الثانية عشرة. ليختتم الاستطراد الأول بالفقرة الثالثة عشرة، من دون أن يتمم المعنى الذي بدا به كلامه عن المنهج. ليبدأ استطراداً ثانياً ينتهي عند الفقرة الثلاثين. ومن الفقرة الحادية والثلاثين يظهر تتمة كلامه عن المنهج حتى الفقرة الخامسة والخمسين.

يقر شاكر بخطأ ابن سلام في العبارة التي أدت لاضطراب بنية رسالة الكتاب. ويرجع ذلك إلى "عجلته في التأليف وهو يسابق الأيام وسط علته في التسعين من عمره، وإلى تسرعه الزلل والخطأ في العبارة، وصار ظاهر لفظه الذي سبق لسانه، يوهم من قرب أن الكلام النبيل (الشعر) وذلك الغثاء الواهن المقفى، الذي لا يعرف له أب ولا صاحب كلاهما يقع عليه لفظ الشعر".

 

 

النص في صورته الأولى

وبعد تأمل يحسم الأمر على أن مقصد ابن سلام أن هناك شعراً نبيلاً يعرف بالمخالفة لما ذكره من عيوب أما ما يحتمل هذه العيوب فهو لغو مقفى لا خير فيه. ومجمل القول لديه "أن ابن سلام عجِل، فزّلَ، فأخطأ، فأضلنا خطؤه عن مراده". فما الذي أدى بابن سلام إلى مهالك المقصد فأشقاه وأشقى كلامه وأشقى من نظر إليه معه؟

يخبرنا شاكر "أن صنيع ابن سلام حين انتهى من الفقرة الثانية من كتابه في أصله الأول من نسخته الأولى فقال "فبدأنا الشعر" كان كلامه متصلاً بالفقرة الحادية والثلاثين. فلما أعاد كتابة هذا في النسخة الثانية التي بين أيدينا اليوم، بدا له على عجل أن يقحم في كلامه خاطراً جديداً في الحديث عن (المصنوع المفتعل الموضوع) ففصل بين الكلامين المتعانقين تعانقاً تاماً، بما أثبته من أول الفقرة الثالثة إلى آخر الفقرة الثلاثين"، هذه واحدة.

يتابع، "جعل ابن سلام هذه الاستطراد المقحم قسمين: أولهما عن (المصنوع) من الفقرة الثالثة إلى الفقرة الثالثة عشرة، وثانيهما عن أهل العلم والرواية الصحيح من العلماء، من الفقرة الرابعة عشرة إلى آخر الفقرة الثلاثين. وهذا الإقحام الجديد على رقعة الكتاب والإقحام الذي قبله ربما زاداه بهاءً وحسناً، ولكنهما على كل حال أحدثا في نسجه بعض الاضطراب ولكنه اضطراب غير معيب إلا في مطلع الفقرة الثالثة الذي قذف بنا في حيرة غريبة"، وفق شاكر، الذي أفاض عنها بالكثير من الإشارات في طيات "قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام الجمحي".

سر الاضطراب وآلية الضبط

يستقصي الشيخ، عليه رحمة الله، سر هذا الإقحام الذي أغرى ابن سلام ولم يبال بسياق كلامه على غير ما هو معهود عنه، كيف جاء وكيف استولى عليه؟

نشأ ابن سلام واكتهل وبلغ من السن ما بلغ منتصف القرن الثاني من الهجرة الذي انشق عن بحور العلم الزاخرة التي كانت قائمة في الكوفة والبصرة، التي نشأ فيها، وظلت أجيال من علماء الأمة تتوارث العلم من صدور العلماء إلى آذان تلامذتهم، كان علم هؤلاء بحراً يجيش في صدورهم، أقله ما قيدوه كتابة، وأكثره ما كانوا يتحدثون به، فقلّ اهتمامهم بتأليف الكتب الكبار المفصلة المفسرة، وأكثرهم لم يؤلف كتاباً قط وإنما سار علمه في الناس بكثرة من أخذ عنه وسأله وأجابه، وهو النهج الذي سار عليه تلامذتهم، بيد أن بعض تلامذتهم خالفوا سنتهم وشرعوا في التأليف.

 

 

"الخليل" بحر لا يدرك مداه

حدث هذا في علم الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 – 170 هـ) وكان بحراً لا يكاد يدرك مداه ومع ذلك لم يؤلف إلا كتباً صغاراً جداً ضاع أكثرها، مع أنه أول رجل وضع الأساس الكامل لتأليف معاجم اللغة الذي لم يسبقه أحد إلى مثله عبر ما نسميه اليوم "قانون التباديل والتوافيق". وهو أول من ضبط حدود الحركات والسكنات في أبنية اللغة فوضع "علم العروض" الذي أخذه عنه أبو الحسن الأخفش. وضبط نغم الموسيقى التي أخذها إمام الموسيقى في عصره إسحق بن إبراهيم الموصلي فأتم عمل الخليل بعلمه.

حين ألف إسحق كتابه "الإيقاع والنغم" عرضه على منافسه إبراهيم بن المهدى فقال له "أحسنت يا أبا محمد، وكثير ما تحسن، فقال إسحق: "بل أحسن الخليل، لأنه هو الذي جعل السبيل إلى الإحسان" وأسس إسحق علم الموسيقى وضبطه. أما علم النحو فأخذه عنه سيبويه وجمع علم الخليل في كتابه "الكتاب". وأشباه الخليل بن أحمد كثر في عصره. وأشباه تلامذتهم كثير من بعد شيوخهم.

لقاء درامي بين عالمين

شهد ابن سلام هذا التلاقي وما كان من أثره منذ كان يحضر مجالس أبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب، والأصمعي والخليل وسيبويه والأخفش فنازعته نفسه منذ ذلك الوقت أن يفعل في شأن الأدب والشعر وأخبار العرب ما فعل هؤلاء بعلوم "العروض" و"النغم" و"النحو والعربية". وما كاد يفعل حتى مرض وهو في الثانية والثمانين من عمره، وبين نوبات العلل وضع منهج كتابه الأول "طبقات فحول الشعراء" ومضى عجِلاً وألف وفرغ من نسخته الأولى. ما إن انتهي من كتابة نسخته الأولى، حتى كتب له القدر لقاءً درامياً مع عالم جليل ليقلب المشهد رأساً على عقب، فماذا حدث يا ترى؟

كان هذا الرجل الفذ هو "يحيى بن معين" المولود في 158 والمتوفى 233 هـ، الذي كان علمه صورة صافية لتدفق العلم من مطلع القرن الأول للهجرة إلى منتهى القرن الثاني، فتح به فتحاً جليلاً في علم الأحاديث عبر طريقتين، تمثلت الأولى فيما يكون فيها من الخطأ، وما يكشف عن وضع الوضاعين الذين كذبوا على النبي، والأخير علم الجرح والتعديل، وبهما آلت إليه إمامة علم الحديث. ذكر يحيى لابن سلام أشياء كان ينبغي أن تكون أساس منهجه ولكنه غفل عنها أو نسيها، أو لم تخطر له في أول التأليف على بال.

جهود ابن معين في تخليص الحديث النبوي، وتدارسه مع ابن سلام أثار الأخير إلى أن يؤسس هو أيضا أساساً لرواية الأخبار والشعر، لينفي عن الشعر خبث ناقلته ورواته، وخبث الموضوع (المنسوب) على ألسنة شعراء الجاهلية، وكان قد فرغ من طبقات فحول الشعراء الذي أوضح منهجه في مقدمة الكتاب وأغفل الحديث عن هذين العلمين.

 

 

يتابع، "راودت ابن سلام نفسه أن يضع كتاباً آخر غير الكتب الأربعة (الطبقات) و(كتاب فرسان الشعراء) وكتاب (سادات العرب وأشرافها وما قالوه من شعر) وكتاب (أيام العرب)، ويجعل هذا الكتاب الخامس مقدمة لعلم الأدب والشعر، ويذكر فيه الموضوع (المنتحل) على شعراء العرب، ثم يبين طبقات علماء الشعر وجهابذته ونقاده، ويذكر الكذابين والوضاعين من الرواة والمؤلفين للكتب في زمانهن على الوجه الذي ذكّره به يحيى بن معين في تأسيس علم الحديث".

ولكن ابن سلام كان قد أسن وطعن في التسعين، فلما عاد إلى كتابة النسخة الثانية من (كتاب طبقات فحول الشعراء) خشي أن يعاجله الأجل، فلم يكد يشرع في كتابة المقدمة، حتى حزن بأي مما سبق يبدأ الكتابة، فعزم عزماً قاطعاً على ألا يخلي الكتاب من ذلك، فإنه لا يضمن السعة في الأجل ولا شفاءه من المرض مع كبر سنة، فهجم على الأمر وغفل عن السياق، ولم يبال بأمر الفقرات الـ28 التي استطرد بها واقتحمت الكتاب، ورأى أنه قد أبلى بها غاية تقصر عما في نفسه، ولكنها على أي حال دليل على ما كان يحب أن يستوعبه ويفيض فيه ليؤسس لعلم الأدب والشعر والأخبار أساساً صحيحاً بتفصيل الوضع على الشعراء والتمييز بين رواة الشعر والأخبار، ليعرف بذلك سقيمها من صحيحها. وفق شاكر.

ويرى أن "ابن سلام قد أحسن في هذا ولم يسيء ولكن الذي أراده لم يحققه أحد من بعده في تأسيس هذين العلمين، وإن كانوا قد بلغوا الغاية بعد ذلك في تمحيص الشعر فيما كتبوا ورووا، أما تأسيس علم لرواة الشعر والأخبار فقد ذهب كما ذهب ما كان في صدر ابن سلام مما لم يكتبه". وإلى سيرة النصوص السالفة ترجع قضية الشك في الشعر الجاهلي، التي كانت رغم ما بدا من أولها أنها فتنة القرن العشرين فإن فضلها ومآلها كان كشفاً عظيماً للثقافة العربية في القديم والحديث.

نتائج حديثة ومغالطات قديمة

بهذا ينتهي مدار حلقاتنا الخمس عن الشعر والمعلقات من بينه، وإن لم تكن ختاماً للبحث عن أجوبة وتقصي مسارات في تاريخ العرب القديم، وإذا كان عرب ما قبل الإسلام حقاً جاهليين؟ وفق ما وصفتهم مدونة المؤرخين والمفسرين والرواة والإخباريين القدامى على حاجتها لمراجعة نقدية، جرت بالفعل على يد أكاديميين وهبوا أنفسهم للبحث والتنقيب بإخلاص فريد، وإن كان للأسف لم يفعَّل مدارها في الأكاديميات والمعاهد العلمية المعنية بالعلوم الإنسانية بعد، لنتحقق هل كان ثمة هوى لدى القدامى لطمس مآثر عرب ما قبل الإسلام؟ وهل هناك دوافع لغض الطرف عن مسيرة المعلقات التي جرت من التقديس إلى التدنيس؟ وربما ليس أخيراً هل كانت ثمة معلقات أخرى عرفها التاريخ وتمتد في تاريخ العرب القديم؟

المزيد من ثقافة