Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وحده الموت أسدل الستار على معركة الرافعي وطه (4-5)

انتقد صاحب "الشعر الجاهلي" مؤلف "آداب العرب" في اللغة القديمة والسجع الذي شتت تفكيره فكفره الأخير "تحت راية القرآن"

دارت معارك أدبية عنيفة بين طه حسين وصادق الرافعي وزكي مبارك حول الشعر الجاهلي والمعلقات وغيرهما (اندبندنت عربية)

ملخص

دارت حول المعلقات وجملة الشعر العربي القديم العديد من المعارك الأدبية خلال القرن العشرين كان أبرزها تلك التي دارت بين صادق الرافعي وطه حسين، وهذه هي التفاصيل  

في بداية القرن العشرين كان العالم على موعد مع الحرب العالمية الأولى التي اغتالت المعنى في ساحة المعارك. هيمنت حالة من الاضطراب وانتاب البعض الشك في كثير من الثوابت التي اطمأنت لها الجموع لا لشيء سوى الألفة، وفيما كانت بلدان الشرق الأوسط تئن تحت وطأة الاستعمار كانت هناك كتيبة فكرية تنقب في الماضي البعيد بحثاً عن معنى يتحصنون وراءه في التراث العرب القديم الذي فتح المستشرقون خزائنه، وحمّــل بعضهم كنوزه من التأويل ما لا يحتملها، وهو ما تكشّف على يد المحققين والباحثين في مرحلة متأخرة وسط معارك بدت كالبراكين، تقلب أرض الثقافة كيف تشاء، وتبعثر الآراء والأفكار هنا وهناك.

انقسم رواد وأدباء الثقافة العربية في شأن ما توصل إليه المستشرقون وغيرهم، فاشتدت بينهم سجالات في الفكر والأدب والتاريخ والفن، أمست الصحف ساحة لها.

وفي ظل حياة حزبية وسياسية رسخت استقطاب الكتاب، الذين كان لبعض منهم أنصار وبينهم من تشكل حوله مؤيدون فيما بعد، اختلفت الرؤى وتداخلت المذاهب وتضاربت المرجعيات بين جنبات المجتمع، حتى ليظن المرء أنها تصدرت مجالسهم وباتت حديث الصباح والمساء، الأمر الذي أسهم في اتساع مدونة هذه السجالات وأثرى بدوره العربية لغة وتاريخاً وثقافة.

عنف الخطاب النقدي

عكف الباحثون بدورهم على جمع نصوص هذه المساجلات في عدة كتب حمل الكثير منها عنوان "المعارك الأدبية"، لما بدا فيها من الحدة والقسوة بين أصحابها مصرياً وعربياً، لعل أخطر ما جاء فيها قول صادق الرافعي في نقده لطه حسين، "مهد طه لرأيه بأن أعلن لشيخ الأزهر ولعلماء الدين أنه مثلهم مسلم. ثم قال، والكلام للرافعي، و(الفرق بيني وبين الشيوخ أنني مسلم حقاً أفهم الإسلام على وجهه فيا أرض ابلعي فهذا مستنقع لا رجل". وربما أصاب العقاد حين قال عن الرافعي، "انتقدنا حامي القرآن. حمى الله منه القرآن ولغة القرآن".

ومن بين الاشتباكات اللفظية العنيفة أيضاً قول زكي مبارك، تلميذ طه وخصمه فيما بعد، "لقد ظن طه حسين أنه انتزع اللقمة من فم أطفالي. فليعلم حضرته أن أطفالي لو جاعوا لشويت طه حسين وأطعمتهم من لحمه. ولكنهم لن يجوعوا ما دامت أرزاقهم بيد الله". وفق ما يسجل الجندي في مقدمة كتابه "المعارك الأدبية في مصر منذ 1914 وحتى 1939".

وليس أخيراً "ما ذكره توفيق الحكيم عن معركته مع طه حسين بعد انتهائها، "الخصومة بيني وبين طه حسين كانت أدبية صرف، ولكن الدكتور طه أراد أن يقحم فيها عنصر السياسة ليظهرني في صورة (يهوذا) ويظهر نفسه في صورة (المسيح)".

 

 

الوعي ومقاومة الاستعمار

الغريب أن معارك الوعي، والوعي المضاد هذه دارت والعالم العربي يعاني تحت سياسات الاستعمار الغاشمة التي استهدفت ترسيخ الجهل والاستعباد والاستعلاء الذي ظهر عارياً فتنكر له أصحابه في زمن متأخر يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، كان إدوارد سعيد وكتابه "الاستشراق" بداية عهده، وتواصل في دراسات التابع وما بعد الاستعمار و"المركزية الغربية".

لعل في كواليس ما دار من هذه السجالات نوعاً من الاحتجاج الثقافي في وجه المستعمِر، ودافعاً لأدباء هذا الزمان ليزيحوا عن شعوبهم وتاريخهم آثام الاستعمار الوخيمة وهم يحتمون بماضٍ عريق يبرهن على أن لديهم لغة ولساناً وتاريخاً، على النقيض تماماً مما رامت إليه مساعي المستعمرين التي حاولت أن تظهر العرب كرماد اشتدت به الريح؛ كأمة مختلَّف على أصولها ولغتها وتاريخها وثقافتها، وللأسف تحقق بعض هذه المساعي حتى وقت قريب كانت له سيرة أخرى.

غاية القول، وسط هذه السياقات التاريخية والاجتماعية دارت عشرات المعارك الأدبية، نعتني من بينها بالمعركة التي كانت بين طه حسين صاحب "في الشعر الجاهلي" ومصطفى صادق الرافعي مؤلف "تاريخ آداب العرب" وهما كاتبان سنبحر معهما طويلاً لما لهما من علاقة بالشعر الجاهلي، بينه المعلقات، المحور الرئيس الذي نرصد تاريخه هنا مع اقتراب الذكرى المئوية لمعركة الشعر الجاهلي التي دارت أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في عشرينيات القرن العشرين.

مصادفةً هي الأحوال ذاتها التي نعيشها في القرن الحادي والعشرين وإن اختلف الحال والمقام واتفقت ملابسات الحرب والوباء والاقتصاد الذي يشارف على الانهيار على نحو يطرح ثمة مقاربات مع "الكساد العظيم".

 

 

من أين نبدأ؟

 جاءت معركة طه والرافعي قبيل الحرب العالمية الأولى، حيث "لاحت في مشارفها هذه السجالات الأدبية التي كان لها صوت مميز من بين نظيرتها التي اتصلت بتاريخ وآداب اللغة العربية والتراجم والفكر والحضارة"، وفق ما رصد أنور الجندي بين دفتي "المساجلات والمعارك الأدبية في مجال الفكر والتاريخ" الذي ضم 57 معركة شكلت صفحات مستنيرة على حدتها بين دفتي الأدب العربي القديم والحديث. فماذا حدث في مدونة المعلقات في هذا الزمان البعيد؟

في البدء لزم التنويه أن أنور الجندي أحد الذين أرخوا للمعارك التي دارت بين المحافظين والمجددين منذ عام 1914 بجهد جبار لم يخل من بعض التطرف ليس ثمة جهدٌ لملاحظته وهو يصدِّر المسألة على أنها صراع بين "تيار التغريب" الوافد وبين المدافعين عن الإسلام والعروبة. بين الزيف والحقيقة بيقين قاطع لا يعير احتمالية الخطأ أو نسبية الرؤية أي اعتبار، استناداً إلى تفسير ديني جانبه الصواب لدرجة لم يحتمل الاختلاف معه.

يكفي للبرهنة على تطرف الرجل تنصيب نفسه خصماً وحكماً، إن لم يكن أبعد من ذلك، في كتابيه "محاكمة فكر طه حسين"، وأكذوبتان في تاريخ الأدب الحديث" ولهما من الدلالة ما يغني عن القول. فيما لا يُنكر أحدٌ عليه جهدَه في حفظ هذه النصوص الثرية التي "ظلت غارقة في بطون الصحف والمجلات حينها، وشكلت ملامح غابت عن وجوه الأدب العربي الحديث".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل نتجنى على الرجل؟

 سؤال جدير بالطرح. لنراجع معاً ما ذكره في "المساجلات والمعارك الأدبية" إذ يقول، "مراجعة سريعة لهذه المعارك التي دارت خلال الخمسين عاماً الماضية تكشف بوضوح عن مدى التحدي الخطير الذي واجهه الفكر العربي الإسلامي من أولئك الذين حملوا لواء التغريب باسم التجديد والتقدم، ولا ريب تخفي الاتهامات والشبهات من ورائها خصومة حقيقية وتعصباً بالغاً وإيماءة واضحة إلى التبعية والجري في الطريق الذي رسمه التبشير والاستشراق".

يقول في موضع آخر إن، هذه "المساجلات كشفت كيف كان لمخططات الصهيونية العالمية دورها الواضح في تزييف الحقائق من خلال كتابات عن الشعر وعن صحابة النبي". ويبدو جلياً من واقع ما كتب الجندي أنه أحد أنصار نظرية "المؤامرة على الإسلام"، التي عفّى عليها الزمن ولا يجوز منها سوى أخذ العبرة من أوهام الخلافة وسط عالم لا ثابت فيه إلا المتغير.

ولعل تجربة تيارات الإسلام السياسي في مصر وتونس وغيرهما ليست ببعيدة بعدما سقط القناع عن مشروعات النهضة وما اصطلح عليه "الصحوة الإسلامية" التي كشفت الأحداث الجارية بالشرق الأوسط منذ 2011 أنها متون من الأوهام هوت على رؤوس أصحابها، فيما غابت عنهم المعرفة والرؤية والتأسيس، لتبدو أدبياتهم على المنابر وفي بطون كتبهم مجرد شعارات كشفت عن وجوه أخرى للسلطة. وهم في هذا الشأن كغيرهم من أرباب الأيديولوجيا والهوى شرّقوا أو غرّبوا.

ومع هذا لا يستطيع المرء أن ينزه بعضاً مما ورد في كتب المستشرقين عن الغرض، لكن هذا لا يعني التنكر لدور آخرين من بينهم في كشف خبيئة التراث العربي وإنارة نصوصه على نحو ما حدث مع الحلاج والنفري وغيرهما.

الرافعي وطه والأسلوب

 شيء من يقين الجندي نجده عند الرافعي تجاه طه حسين، فهما يتفقان في البحث عن السرائر، كما يشتركان في تكفيره، رغم إعلان براءته على الملأ مما اتهموه به، فيما ظل هما على موقفهما من التطرف.

في 1911 أصدر الرافعي مؤلفه "في تاريخ آداب العرب"، ورغم ما حظي به الكتاب والمؤلف من هالة تقديس، فإن طه حسين هاجمه، وقال إنه لم يفهمه لتبدأ على إثرها معركة الأسلوب المغرق في السجع على حساب المضمون. كما هاجم كتابه "حديث القمر". حسبما يسجل الجندي في "المعارك الأدبية في مصر" وصدر بالقاهرة عام 1983، في سفر ضخم بلغت عدد صفحاته 728 صفحة.

وفي 1922 صدرت (السياسة الأسبوعية) وحملت لواء الأدب الجديد، وقد استهلت المعركة بين القديم والجديد عندما هاجم طه حسين "رسائل الأحزان" للرافعي، وكتب، "نظلم الأستاذ الرافعي إذا قلنا إنه لا يشق على نفسه في الكتابة والتأليف: بل أنت تنصفه إذا قلت إنه يتكلف من المشقة في الكتابة والتأليف أكثر مما ينبغي. ولو كنت أريد أن أقول إنه ينحت كتبه من الصخر ولكني لا أجد في هذه الجملة ما ينبغي لوصف هذه المشقة. وما لي لا أتبسط معه بعض الشيء فأقول إن كل جملة من جمل هذا الكتاب تبعث في نفسي شعوراً قوياً مؤلماً بأن الكاتب يلدها ولادة. وهو يقاسي من هذه الولادة ما تقاسيه الأم من آلام الوضع، يجب أن أكون منصفاً فأنت تستطيع أن تقطّع كتاب الرافعي جملاً جملاً، وأن تجد بين هذه الجمل طائفة غير قليلة فيها شيء من جمال اللفظ، وبهرجة تخلبك وتستهويك، وفيها معانٍ قيمة لا تخلو من نفع. ولكن المشقة كل المشقة في أن تصل هذه الجمل بعضها إلى بعض. ونستخرج منها شيئاً قيماً لن تظفر من هذا بشيء. وأكبر ظني أن الأستاذ الرافعي نفسه لا يحاول أن يقول شيئاً حين يكتب هذه الرسائل. وإنما هو يذهب في النثر مذهباً غريباً فيتكلف العناء والمشقة في الغوص على المعاني الغريبة. ثم يتكلف العناء والمشقة في أن يسبغ على هذه المعاني ألفاظاً عربية".

 

 

يوضح الجندي، "كان الرافعي قد أرسل خطاباً في العتب إلى ظريف من أدباء الشام، وقد نشرت السياسة الأسبوعية الرسالة التي نورد منها هذه العبارات، "كتبت إليك من أيام يشفع لها قربك من نفسي فلا أقول لها بعيدة، وتمر قديمة ولكن ما في هذه النفس منها يجعلها جديدة وكأنها تجري بي إلى الفناء فهي تطول إلى غير حد، وتأخذ معنى اليأس من كل أمس، فتنسخ به معنى الأمل في كل غدٍ، وأرى الأيام تعد بالأرقام، أما هي فقد جعلتها أنت تعد بأنها لا تعد".

"لقد هممت أن أعاتب القلم الذي كتبت به إليك فأحطم سنه، وأجعله من ناحيتي (خبر كان) حتى لا يبقى من ناحيتك في خبر (إنه) وقلت كيف ويحك، سوّدت وجه صحيفتي بما هو في سوادةَ مدادٍ مع المداد، وفى نفسه سواد غير السواد"، وفق الجندي.

"ثم علق الدكتور طه حسين على الرسالة، والكلام للجندي، وقال: أعتذر للكاتب الأدبي إذا أعلنت مضطراً أن هذا الأسلوب الذي ربما راق أهل القرن الخامس والسادس للهجرة، لا يستطيع أن يروقنا في هذا العصر الحديث الذي يغير فيه الذوق الأدبي، لا سيما في مصر، تغيراً شديداً".

ورد الرافعي يقول، "إن الأسلوب الذي كتبت به الرسالة كان موضع الانفراد وكان الغاية التي تتقاصر دونها الأعناق منذ القرن الرابع إلى القرن التاسع، ولم يوحش منه تغير الذوق الأدبي كما يقول الأستاذ، بل ضعف الكتابة فيه وتقصيرهم عن حده، وأنهم ألا يوافقون به مواضعة، ولا يعدلون بها إلى جهاته في ألفاظه ومعانيه".

فيما عقب طه على حديث الرافعي بأن "اتخاذ هذه الأساليب نقص أدبي، لأن الكمال الأدبي يستلزم أن تكون اللغة ملائمة للحياة، وهو نقص خلقي، لأنه كذب للكاتب على نفسه وعلى معاصريه. وهو نقص من جهة أخرى لأنه لا يدل على أقل من أن الكاتب ينكر شخصيته ولا يعترف لها بالوجود، وأي إنكار للشخصية أشد من أن تحس وتشعر ثم تستحي أن تصف إحساسك وشعورك كما تجدهما".

يلتقط طه حسين مفارقة في موضعها، فيقول، "أعرف أن الأسلوب الذي اتخذه الأستاذ الرافعي كان مستعذباً في عصر من العصور، ولكني أعرف كذلك أنه إنما كان مستعذباً لأنه كان يلائم هذا العصر فإذا انقضى هذا العصر، وانقضى معه ما ألف الناس من ضروب الحياة فيه، فيجب أن ينقضي معه أيضاً أسلوب التعبير الذي كان الناس قد اتخذوه وسيلة لوصف ما يجدون في أنفسهم". حسبما سجل الجندي، الذي أشار بالقول، "وهكذا بدأت الخصومة بين الرافعي وطه، ولم ينتظر الرافعي كثيراً".

حتى عام 1923 كانت الأمور تدور في فلك "(مفاهيم الأدب) وتمركزت حول الأسلوب، ثم تناولت غاية الأدب، واتصلت بعلاقة الأسلوب والمضمون، والفن للفن، والفن للمجتمع، والتراث القديم والمذاهب الجديدة، بالإضافة إلى مفاهيم اللغة".

يكشف لنا الجندي كواليس أخرى عن زمن الرواد، فيقول، "قامت هذه المعارك على أساس مهاجمة الأسلوب القديم المغرق في السجع والمقدمات والألفاظ القاموسية، وحول غلبة العناية باللفظ على المضمون، وقد وقف شكيب أرسلان والرافعي في صف الدفاع ووقف سلامة موسى وطه حسين في صف الهجوم، وكانت حجة المدافعين حماية اللغة العربية من أعجمية العامية التي كانت هدف الدعوة التي أثيرت واستشرت غير أن المعركة انكشفت عن تقارب في الأساليب". الذي تولد عنه عدد من المعارك حول مفهوم الشعر، فكانت معارك بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد.

 

 

معركة "تحت راية القرآن"

جاء عام 1926 وحمل من بين ما حمل ظهور كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، الذي أثار ضجة كبرى على مستوى حزبي وديني، إذ تبنت "جريدة السياسة" (صوت حزب الأحرار الدستوريين) الدفاع فيما رفعت "جريدة كوكب الشرق" لواء حملة الهجوم التي بدأها شكيب أرسلان في مقال كتبه من روما في 19 مارس (آذار) 1926، تحت عنوان (التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم)".

يذكر الجندي في موضع آخر، "وجد الرافعي فرصته للانتقام من طه حسين بالحق. فكان المصارع الأول في هذه المعركة، وحمل عليه في مقالات متعددة في جريدة كوكب الشرق مستغلاً جريدة (الوفد) خصم الأحرار آنذاك وكان طه من أبرز كتابه".

في 23 مارس 1926 شرع الرافعي في مقالاته التي امتدت وتعددت حتى كانت فيما بعد مادة كتابه "تحت راية القرآن"، واشتركت مختلف الصحف في هذه المعركة، وصمتت جريدة السياسة قرابة الشهرين بينما المعركة يشتد وقودها.

وفي 13 مايو (أيار) نشرت نص ما كتبه طه حسين على أنه مسلم مؤمن بالله واليوم الآخر. ثم عادت إلى الصمت حتى 16 مايو ونشرت فيه حديث طه حسين مع جريدة (الأنفورماسيون) الفرنسية".

ظلت المعركة على أشدها حتى سبتمبر (أيلول) 1926 إذ تحولت إلى استجوابات في البرلمان وتحقيقات بالنيابة، ودوى صداها بالشارع المصري فتظاهرت الجموع نحو مجلس الوزراء، واستمرت التحقيقات إلى أن حُفظت القضية.

بعدها سافر طه حسين إلى باريس وكتب مؤلفه "في الصيف" جاء فيه أنه سافر "مغيظاً محنقاً على هؤلاء الناس الذين يتخذون الدين والسياسة وسيلة للكيد وبث الفساد في الأرض ليعلموا أن الدين أثبت وأمكن من أن يعرضه للخطر كائن ما كان".

وكان مما كتبه الرافعي عن طه، "ما رأيت فئة يأكل الدليل الواحد أدلتها جميعا كهؤلاء المجددين في العربية، فهم عند أنفسهم كالجمرة المتوقدة لا يشبعها حطب الدنيا. ولدي كان من أشدهم مراماً وشراسة وحمقاً هو الدكتور طه حسين، فكانت دروسه الأولى في الشعر كفراً بالله وسخرية بالناس فكذب الدين، وسفّه التواريخ، وكثر غلطه وجهله".

يخلص الجندي إلى القول، "هاجم الرافعي طه حسن في بضعة وعشرين مقالة نارية ولم يجب طه على واحدة منها، فقد كان المتفق عليه، وفق الجندي، أن يترك الدكتور طه (العاصفة تمر)، ولا شك أن المعركة بين الرافعي وطه حسين هي خلاف في الرأي وأسلوب الفكر ومنهج الفهم للأدب والدين واللغة، وأن الرافعي كان بالنسبة للمجددين سيفاً مصلتاً يحسب له ألف حساب".

 

 

ما وراء المعركة

فيما يذهب  أنور الجندي إلى أن "عقدة الخصومة عند الرافعي (مع طه) هي محاربة مذهب التجرد من الدين لتحقيق مسألة من مسائل العلم أو مناقشة رأي من آراء الفكر أو رواية من روايات التاريخ"، أرجع مؤرخ "حياة الرافعي" وأحد خلصائه سعيد العريان المعركة إلى "أن الرافعي كان يطمع في أن يكون إليه تدريس الأدب في الجامعة وأنه كشف عن رغبته هذه في مقالاته بالجريدة".

وبحسب "رسائل الرافعي" إلى صديقه الشيخ محمود أبو رية، وقد كان منصفاً، "كانت محاضراته مجموعة متناقضات، وإن كانت الجامعة حشدت لها حشداً عظيماً من المدعوين، والرجل ميسر وخطه مقبول". يختم الجندي بشهادة الرافعي في حق طه، "أما طه حسين فليس بالضعيف الذي نتوهمه. وهو في أشياء كثيرة حقيق بالإعجاب. كما هو في غيرها حقيق باللعنة". 

حياة من المعارك

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 1926، بدأت معركة جديدة بين الرافعي والعقاد بعدما انتقد الأخير كتاب "إعجاز القرآن" في البلاغ الأسبوعي، الذي رفض نشر رد الرافعي. واتهم العقاد أيضاً في دينه، إلى أن كتب سلسلة مقالاته "على السفود" في مجلة العصور عام 1929، وعنها يقول الجندي "وقد أجمع النقاد حتى تلاميذ الرافعي (بينهم سعيد العريان ومحمود أبو رية) على أن مقالات (على السفود) كانت غاية في العنف والنزول عن مستوى النقد. وما لبثت المعركة تتوقف بينهما حتى اشتعلت عند صدور ديوان العقاد "وحي الأربعين" عام 1933 وطعن خلالها على وطنية الرافعي، وأشار إلى أن استهداف الأخير له لا لشيء سوى لأن العقاد وفدي.

يجمل الجندي القول، "كانت معركة الرافعي مع العقاد ذات صلة بسعد زغلول وصالون مي. ومعركته مع طه حسين متصلة بإنشاء الجامعة المصرية ورغبته في التدريس بها. وخصومته مع عبد الله عفيفي متصلة بمنافسته له في مدائح الملك فؤاد. ومعركته مع زكي مبارك تتصل بكتابه (أوراق الورد) ورأى فيه مبارك أنه ليس فناً جديداً في الأدب العربي كما صوره الرافعي".

بعد هدوء العاصفة

لعل ما مر بنا من عواصف نقدية بين الرواد تعكس تماماً الفوضى والاضطراب اللذين اتسمتا بها تلك الحقبة تحت ظروف متشابكة حد التعقيد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، إنها أجواء الاستعمار والسعي نحو التحرر وسط أحزاب سياسية متناحرة واقتصاد يتداعى ومتغيرات اجتماعية على الدوام، ومع هذا ثمة من توقف من بعيد ليرى تفاصيل أكثر عمقاً ورصانة ليكشف ويحلل ويفسر ما جرى.

تعود سيرة "هذه المغالطات إلى بدايات القرن العشرين، وقد تجاوزتها الكشوف والدراسات الحديثة عقب صدور (في الشعر الجاهلي) لطه حسين 1926، الذي حث هو لا غيره، على إعادة النظر فيما توصل إليه من نتائج عن تراث العرب، تاريخاً وتحقيقاً وبحثاً ونقداً، وصنع الأمر ذاته في كتاباته المتأخرة"، بحسب ما أشار الناقد الأدبي الراحل عبد المنعم تليمة في مؤلفه "في الشعر الجاهلي الكتاب والقضية".

 

 

قليل من العلم كثير من التصورات 

يرصد تليمة تاريخاً موجزاً ودقيقاً عن مسألة الانتحال بالقول، "والحق أن الشك في بعض الشعر الجاهلي قديم. فقد تحرج ابن هشام صاحب السيرة النبوية في وقت مبكر (القرن الهجري الثاني) من قبول بعض روايات ابن إسحق لأشعار منسوبة إلى الأوائل والبائدين والجن وغيرهم. ونبه علماء آخرون إلى أن القبائل وضعت شعراً نَسبته إلى شعرائها الجاهليين أداة في صراعها مع غيرها بعد الإسلام، وإلى أن الشعوبية وضعت شعراً للمباهاة بأمجادها القديمة".

يضيف، أن "ابن سلام الجمحي خلال القرن الهجري الثالث نبه في كتابه (طبقات فحول الشعراء) إلى فساد بعض الرواة، وكثرة الموضوع والمصنوع من الشعر في رواياتهم، وانتهى إلى أن الشعر الجاهلي ثلاثة أقسام شعر صحيح النسبة، وشعر موضوع مصنوع، وشعر يُشك في نسبته، لكن الحق أيضاً أن الانتحال عند العلماء كان محدوداً، فقد قبل العلم العربي القديم بثقة روايات كثيرة لرواة من أضراب المفضّل الضبيّ صاحب المفضليات، والأصمعي صاحب الأصمعيات، وغيرهما".

شكوك وجهود المستشرقين

وفقاً لأستاذ الأدب المقارن المولع بالبحث عن جذور الحضارات، فإن "المستشرقين في القرنين الماضي والحالي وسعوا التشكيك في صحة الشعر الجاهلي، وبدأ الأمر في عمل آلور ونولدکه، وبلغ غلوه في مقال لمرجليوث نشره في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية سنة 1925، قبل سنة واحدة من نشر كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي). ذهب مرجليوث إلى أن القرآن الكريم هو أول نص بلغة عربية موحدة، وإلى أن هذا الشعر المنسوب إلى الجاهلية جاء بهذه اللغة فهو إذن موضوع بعد الإسلام، ولو كان جاهلياً لجاء بتلك اللهجات واللغات المختلفة التي كانت سائدة بين العرب قبل القرآن الكريم. وذهب إلى أن القصص الديني الذي يرد في الشعر المنسوب إلى الجاهلية يعبر عن توحيد مستلهم من الإسلام".

 يشير إلى أن "مرجليوث نص أيضاً على أن الإسلام كرّه الشعر فأهمل المسلمون الشاعر الجاهلي المعبر عنها حتى نسوه. وما ينسب إلى الجاهلية إنما وضع بعد الإسلام وضعاً. ونص أيضاً على أن الإسلام ضد الوثنية، فأهمل المسلمون الشعر الجاهلي المعبر عنها حتى نسوه. وما ينسب إلى الجاهلية بعد ذلك وضع بعد الإسلام وضعاً".

 

 

"وبدهي أن طه حسين قرأ عمل المستشرقين في هذا الشأن. واطلع كذلك على دراسات أوروبية تشكك في الوجود التاريخي لسقراط وهوميروس وغيرهما من أئمة الثقافية القديمة، فأغراه كل ذلك إغراءً بالتوسع في القول بانتحال كثرة الشعر الجاهلي".

يسجل تليمة بهدوء وروية ملاحظة في غاية الرحابة المعرفية والإنسانية بما تتضمنه من موضوعية علمية وإنصاف لجهود الآخر مهما بدا الاختلاف معه إذ يقول، "جهود المستشرقين في خدمة التراث العربي وتحقيق آثاره حسب المناهج الحديثة المشهورة مشهودة. وانتفاع العرب المحدثين بها ثابت معروف، بيد أن بعض نتائجهم واستخلاصاتهم في مسائل بأعيائها يحتاج إلى نظر وتقويم، من ذلك مسألة انتحال كثرة الشعر الجاهلي".

يزيدنا الناقد من الشعر بيتاً، فيستكمل رصده، "اجتهد علماء عرب محدثون، قبل كتاب طه حسين وبعده، اجتهادهم في درس الشعر الجاهلي. إذ دعا مصطفى صادق الرافعي قبل صدور كتاب طه حسين بـ15 سنة، في كتاب تاريخ آداب العرب الصادر في (1911) إلى إعمال طرائق علماء الحديث ومناهجهم في نقد السند والمتن لدرس النصوص الشعرية الجاهلية وتصحيح نسبتها إلى منشئها". كنا قد توقفنا عندها في حلقة سالفة.

المناهج الحديثة تستدرك المغالطات

من واقع أكاديمي عميق يخبرنا تليمة، "في العقود الأخيرة تمت بالجامعات والمراكز ودور النشر العربية الكبرى أعمال علمية حققت جملة من دواوين الشعراء الأحاد الجاهلين وجملة من المجموعات والمنتخبات، وأخرى من الدواوين الجاهلية لعدد من القبائل ومن هذه الأعمال العلمية ما درس مصادر الشعر الجاهلي محاولاً تقدير قيمة كل منها، ومنها ما توجه إلى درس بعض الدواوين الجاهلية من جهة المعاجم الشعرية، وخصائص الجمل، والأساليب الشعرية محاولاً إثبات صحة النصوص من هذه الجهة".

يستقصي أيضاً أثر حركة التدوين في القرن العشرين، "من هذه الأعمال ما اعتمد طرائق العلماء الأقدمين في الموازنة بين الروايات وقبول إحداها حسب مقایيس منضبطة. من هذا الباب صنيع شوقي ضيف في توثيقه لشعر زهير بن أبي سلمى".

 يجمل الناقد القول إن "الشك في صحة الشعر الجاهلي ضاق كثيراً في العقود السبعة التي أعقبت نشر کتاب طه حسين، فقد تقدم العلم اللغوي والبحث التاريخي وضبطت الطرائق وبدأ استخدام الإجراءات التقنية والإحصائية والكمية".

يكشف تليمة "أن كتاب طه حين لم يكن مداره مسألة الانتحال وحدها، إنما كانت واحدة من مسائل جملة جليلة، في التاريخ الأدبي والبحث المقارن ونقد النصوص، وفي أصول المناهج وأبنية الثقافات والحضارات عامة". ويلفت إلى أن مسألة الانتحال ذاتها تطورت في عمل طه حسين بعد كتابه ذاك، فقد غير من بعض فكره بشأنها، وشجع تلاميذه على ارتياد آفاق جديدة لدرس الشعر الجاهلي، بل قدم نصوصاً جمة من ذلك الشعر تقديماً ممتعاً مؤثراً وهو في صدارة المعلمين الذين جعلوا تذوق الشعر الجاهلي قطعة ظاهرة من البناء الثقافي العربي الحديث".

العرب وشعوب العالم القديم

يرصد قائمة الكشوف الأثرية التي تنامت خلال العقود السبعة الأخيرة فيقول، "الدرس الحديث لا يقف عند وضع العرب داخل شبه جزيرتهم، إنما يتغيا أن يضعهم منذ وجدوا في التاريخ مع أمم العالم القديم وشعوبه، صلات وتداخلاً وتفاعلاً".

يشير إلى أن "الأصول التاريخية والسلالية للعرب اعتمدت على فروض وضعها علماء القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وكان في تلك الفروض قليل من العلم، وكثير من التصورات والمرويات القديمة التي لم يشهد لها التاريخ ولم يصادق عليها".

يتابع "في العقود الأخيرة تقدمت علوم الآثار والكشف والتحليل الإثنولوجي والأنثروبولوجيا الطبيعية وجغرافية الأجناس، وكان من آيات هذا التقدم خرائط للسلالات البشرية أقرب إلى الدقة من نظيرتها التي وضعها الدرس في القرن الماضي وأوائل هذا القرن".

"في هذه العقود أيضاً تقدمت المعرفة باللغات وتطورت علوم اللغة تطوراً عظيماً، وانتهت طرائق مقارنة النصوص والتحليل اللغوي وقوانين التبادل الصوتي والبحث اللغوي المقارن عامة إلى خرائط للغات البشرية أكثر ضبطاً من تلك التي سبقتها في القرن الماضي وأوائل الحالي. يضاف إلى تقدم كل تلك الحقول العلمية والمعرفية ما شهدته العقود الأخيرة من جهود لضبط مفاهيم التاريخ والحضارة والثقافة والعلم، ومن ثمرات قدّمها التطور العلمي والتكنولوجي تعين على ضبط المقاييس والإجراءات وصحة القراءات والتحليلات وتيسير الوصول إلى النتائج والاستخلاصات".

 

 

إعادة النظر بالتاريخ القديم

يواصل تليمة استقصاءه الدال، "تبدأ كتابة التاريخ بالمقاييس العلمية المعتمدة بما خلفه الإنسان من الأعيان: المدائن المندثرة، ورسومات الكهوف، والنقوش، والأبنية والكتابات. وفي هذا السبيل قدمت الكشوف والتقنيات والحضريات في هذه العقود الأخيرة المدد المعين للمؤرخين، ثمة كشوف مهمة في سيناء وصعيد مصر وعموم شمال أفريقيا وشرقها، وشرق شبه الجزيرة العربية وجنوبها.

وشمال سوريا وعموم الشام والعراق، وتركيا، وفارس من هذه الكشوف ما وضع بين أيدي الدارسين موادَ جديدة فريدة، من ذلك اكتشاف بقايا مدينة أوجاريت شمال سوريا وبين هذه البقايا عشرات النصوص التي تحمل حقائق مهمة في تاريخ اللغات والسلالات. ومن ذلك اكتشاف وثائق البحر الميت، بينها لفائف عتيقة مدون بها جديد يتصل بتاريخ ذاك العالم القديم، وبينها لفائف مدون بها ما يظن أنه بعض نصوص كانت مجهولة من الكتاب المقدس.

وكل ما تم من كشوف وتقدم في درس الأصول التاريخية والسلالية واللغوية يدل بوضوح على أن ما بين غرب مصر وشرق فارس وما بين أناضوليا شمالاً وإثيوبيا جنوباً كان عالماً واحداً يمور بالهجرات والتنقل السكاني الدائب.

يتابع الناقد، الذي درس أيضا الآداب الكلاسيكية اليونانية واللاتينية، "من الدارسين، بينهم مارتن برنال في: (آثينا السوداء) مثلاً، من يضم إلى ذاك العالم بلاد اليونان والرومان، معتمداً البحث المقارن في تنقل المفردات وتحليل المفهومات وقراءة الأساطير والمذاهب والمعتقدات وثمة نصوص آشورية تزيد على الـ150 نصاً تشير إلى هجرات وتنقلات سكانية كبيرة. ومن الدارسين من ينتهي إلى أن القانون التاريخي الأساس في ذلك العالم القديم إنما هو حق الغزو والانتقال والفتح والهجرة الجماعية".

يضيف، اجتمع كل ما سلف ليكون بعضه سنداً لواحدة من وجهتين في الأصول التاريخية والسلالية واللغوية لذلك العالم القديم وليكون بعضه الآخر سنداً للوجهة الثانية:

يذهب أصحاب الوجهة الأولى إلى أن البيئة الأولى التي خرجت منها هجرات كبيرة كونت معظم شعوب ذاك العالم القديم كانت ما يحيط ببحر قزوين. ويذهب هؤلاء أيضاً إلى أن الهجرة التي نزحت من تلك البيئة إلى شبه الجزيرة العربية وكونت عرب الشمال كانت آخر تلك الهجرات الكبيرة وأحدثها. ومعنى ذلك أن العرب سلالة حديثة بين سلالات العالم القديم".

أما أصخاب الوجه الثاني "فيذهب إلى أن الجزيرة العربية كانت البيئة التي خرجت منها الأقوام الأولى التي نزحت إلى بلاد بين النهرين والشام واختلطت مع من كان بها من مجموعات بشرية مكونة شعوباً وأمماً جديدة. في هذه الوجهة أن شعوب هذه البلاد، خارج شبه الجزيرة، تمت بعد الهجرة العربية وتطورت سلالياً، ثم تمايزت حضارياً لكن ظل أصلها العتيق عربياً، ويصدق هنا أن نسمي هذه الشعوب (عربية - سامية) من أصحاب هذه الوجهة جمهور من الدارسين منهم ليون كياني، وساباتينو  موسكاني، وجواد علي، وغيرهم".

يخلص ناقدنا إلى القول، "في الدرس الحديث ثمة أسانيد لكل من الوجهتين، غير أن هذا الدرس قد أزال ذلك التصور عن عزلة العرب قبل الإسلام، وجعل شبه الجزيرة العربية بيئة أساسية في العالم القديم منذ عرف له تاريخ، سواء خرجت الأقوام الأولى منها أو وفدت إليها. وهذه النتيجة عظيمة الأهمية في التأريخ للغة العربية وللأدب العربي جميعاً".

زلة عالم 

بقي في هذه المسألة أمر خطير، حققه العلامة الفذ محمود شاكر، وكشف خلاله عن وقائع جرت في حركة التدوين خلال القرن الثاني للهجرة وكانت وراء تأويلات المتأخرين وثورة الشك في الشعر الجاهلي التي دارت في القرن العشرين، وعنها يقول رحمة الله عليه، "أكثر الباحثين يؤولون في الحديث عنها (مسألة عمر الشعر الجاهلي) إلى قول أبي عثمان الجاحظ (المولود سنة 150 هـ والمتوفى سنة 255 هـ) لأنه من أقدم ما قيل في هذه القضية، ولثقة الناس بعقل الجاحظ ونظره". ليقف مع نصه ومع غيره وقفة استغرقت من عمره سنوات من الشك والحيرة والاضطراب قبل أن يستقر مطمئن البصر والفؤاد إلى أن فوضى هذه المسألة تعود إلى زلة عالم جليل بأخبار العرب وأشعارهم. ويصوب سيرة النص الذي ضل طريقه وتعثرت خطاه عبر علم تحقيق النصوص. وهو ما نتعرض له بشيء من التفصيل في حلقتنا الخامسة والأخيرة.

المزيد من ثقافة