ملخص
الخلافات بين #أوربان و#زيلينسكي اتسمت في بعض جوانبها بطابع شخصي منه ما يعود إلى انحياز الرئيس الأوكراني إلى جانب خصوم وزير الخارجية المجري إبان الانتخابات البرلمانية الأخيرة
الزيارة التي أجراها وزير الخارجية والتجارة المجرية بيتر سيارتو إلى موسكو خلال اليومين الماضيين حلقة في سلسلة جهود طويلة على طريق التقارب مع روسيا لم تتوقف بين البلدين منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، وما أعقبها من معارك بين الطرفين في إطار ما يسميه بوتين "العملية العسكرية الروسية الخاصة".
من المعروف أن العلاقات الروسية- المجرية اتسمت بوضعية خاصة انفردت بها المجر من دون بقية بلدان الاتحاد الأوروبي، بموقف مضاد لسياسات العقوبات التي أقرتها الإدارة الأميركية والبلدان الغربية ضد موسكو منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية.
الحكومة المجرية برئاسة فيكتور أوربان مضت إلى ما هو أبعد برفضها إمداد أوكرانيا بالأسلحة والمعدات العسكرية، فضلاً عن طرحها القيام بوساطة بين موسكو وكييف لم يكتب لها النجاح، وذلك على النقيض من مواقف بلدان الاتحاد الأوروبي التي تسابقت في إغداق دعمها ومعوناتها لأوكرانيا، انطلاقاً من مواقف تقول بضرورة الاستمرار في "الحرب"، حتى حسم الموقف في ساحات القتال، وليس حول مائدة المفاوضات.
بعد جديد
جاءت زيارة سيارتو لموسكو لتضيف بعداً جديداً في علاقات البلدين، في توقيت عميق المغزى بعيد الدلالات، في أعقاب "الزحف الدبلوماسي الغربي الجماعي" الذي تابع العالم تفاصيله خلال الأيام القليلة الماضية خلال زيارات كبار قيادات الاتحاد الأوروبي والبلدان الغربية لبكين، واستهدف في كثير من جوانبه "دق إسفين" في علاقاتها مع موسكو، والحيلولة دون مزيد من التقارب الروسي الصيني.
بل ثمة من يقول إنها قد تكون "رسالة غير مباشرة"، إلى كل من كييف ووارسو، تحمل بين طياتها تحذيراً من مغبة أي خطوات قد يتخذها الجانبان البولندي والأوكراني من دون مراعاة للمصالح المجرية.
من المصالح المجرية ما يتعلق بوضعية الأقليات في منطقة ما وراء الكاربات التي جرى ضمها إلى أوكرانيا بمقتضي نتائج الحرب العالمية الثانية. وكان الرئيسان البولندي أندريه دودا والأوكراني فلاديمير زيلينسكي توصلا إلى عديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي تستهدف في جوهرها إنشاء ما هو أقرب إلى "الكونفيدرالية" بين البلدين بما تتضمنه من فتح للحدود المشتركة، وإقرار وضعية خاصة لمواطني بولندا في أوكرانيا تمنحهم حرية الحركة والعمل في مختلف مؤسسات الدولة الأوكرانية بما فيها الشرطة والتعليم والضرائب.
وذلك ما سبق وأشار إليه فيكتور أوربان رئيس الحكومة المجرية في معرض ما تعهد به من بذل كل ما في وسعه من أجل الحيلولة دون انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ما لم تتخل عن سياساتها "القومية" أو ما يقصد بها "العنصرية" تجاه الأقليات المجرية في أوكرانيا، لا سيما ما يتعلق منها بوضعية اللغة المجرية والمناهج التعليمية في المدارس.
كانت السلطات الأوكرانية أقرت عدداً من القوانين الخاصة في شأن التعليم واللغة وإغلاق المدارس غير الأوكرانية، وهو ما اعتبرته المجر ورومانيا وروسيا ومناطق جنوب شرقي أوكرانيا انتهاكاً لأبسط حقوق الإنسان، وكان في مقدمة أسباب انتفاضة منطقة الدونباس وإعلانها عن انفصالها من جانب واحد عن أوكرانيا في عام 2014.
خلافات أخرى
على أن الخلافات بين أوربان وزيلينسكي لا تقتصر على مثل هذه المواقف، بل تجاوزتها لتتسم في بعض جوانبها بطابع شخصي، منه ما يعود إلى انحياز زيلينسكي إلى جانب خصوم أوربان إبان الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي حظيت خلالها رموز المعارضة بدعم صريح من جانب الرئيس الأوكراني، الذي اتخذ موقفاً قريباً من مواقف جورج سوروس الملياردير الأميركي المجري الأصل صاحب فكرة "الثورات الملونة" في الفضاء السوفياتي السابق، بما سبق واتخذه من مواقف تدعم كثيراً من حملات المعارضة المجرية التي استهدفت إطاحة أوربان تحت شعارات "ديمقراطية" تطالب ضمناً بما رفضه رئيس الحكومة المجرية من مقررات الاتحاد الأوروبي، ومنها ما يتعلق بالهجرة غير الشرعية والمناهج الدراسية و"التوجهات المثلية".
وكان زيلينسكي وصف أوربان بأنه "السياسي الوحيد في أوروبا الذي يواصل دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، واتهمه بأنه لم يقدم إلى أوكرانيا ما تستحقه من مختلف أشكال الدعم، بل ولم يسمح بمرور ما يقدمه الآخرون من مساعدات عبر أراضي بلاده.
وكان ميخائيل بودولاك مستشار رئيس مكتب الرئيس الأوكراني وصف ممثلي القيادة المجرية بأنهم "دعاة الشيطان"، بسبب ما يدعون إليه من مباحثات سلمية مع روسيا من دون قيد أو شرط، في الوقت الذي أجزلوا العطاء للمعارضة المجرية مقابل تبني ما يطرحونه من شعارات ويحاولون نشره من أفكار كانت في مضمونها وتوجهاتها أقرب إلى شعارات "الثورات الملونة" التي استهدفت بلدان الفضاء السوفياتي السابق. وهو ما نجح أوربان في مواجهته استناداً إلى ثقة ناخبيه ممن وقفوا إلى جانبه في التصدي لسياسات وصفها بأنها "بيروقراطية الاتحاد الأوروبي والملياردير سوروس"، ولذا لم يكن غريباً أن تستبعد الإدارة الأميركية دعوته إلى "قمة الديمقراطية" التي عقدتها في واشنطن في عامي 2022 و2023.
كثير من التحفظات
ولذا لم يكن غريباً أن يواصل أوربان سياساته التي تتسم بكثير من التحفظات التي تنأى ببلاده بعيداً من الانخراط في الصراع الأوكراني الروسي، بما يكفل له المساحة اللازمة لحرية تحركات المجر، وبما يحقق لها التقارب المنشود مع روسيا. ويذكر المراقبون قوله المأثور رداً على التساؤلات حول مدى انحيازه إلى أي من الطرفين، أنه "ينحاز دائماً إلى مصالح المجر ولا مكان لغير "مصالح المجر"".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن هذا المنظور يحتفظ أوربان بحكومته التي لطالما وقفت إلى جانب سياسات الدفاع عن أبناء المجر أينما كانوا. ويذكر المراقبون مباحثات وزير خارجيته بيتر سيارتو مع القيادات الأوكرانية وما قاله تأكيداً على "ضرورة التزام كييف بإعادة حقوق المجريين من سكان ما وراء الكاربات التي سلبت في عامي 2017 و201 باعتماد أوكرانيا لما أعلنته من قوانين في شأن التعليم واللغة.
ويذكرون أيضاً ما صدر عن مكتب رئيس الحكومة المجرية أوربان من تصريحات تقول، إن "رئيس الوزراء ليس مستعداً لزيارة أوكرانيا، لأن هذه القوانين تتعارض مع مبادئ الاتحاد الأوروبي"، فضلاً عما تعهدت به هذه الحكومة حول "العمل من أجل الحيلولة دون تكامل كييف مع الاتحاد الأوروبي حتى يتم التخلي عن مثل ما تنتهجه من سياسات قومية هناك"، في إشارة إلى ما وصفه آخرون في المجر بـ"السياسات العنصرية".
ولم تتوقف الحكومة المجرية عند هذه التصريحات وحسب، بل ودأبت على التأكيد عليها في المحافل الدولية، الشرقية والغربية على حد سواء، من خلال ما أعلنه بيتر سيارتو وزير الخارجية والتجارة المجرية بموسكو في أكثر من مناسبة وتجمع دولي وإقليمي، وما حرص على تكراره في اجتماعات الاتحاد الأوروبي تحذيراً من مغبة مخاطر التوتر العرقي، ودفاعاً عن حقوق قرابة الـ200 ألف نسمة من المجريين ممن يعيشون على أراضيهم داخل الحدود الأوكرانية ويشكلون نسبة تقترب من 15 في المئة من سكان ذلك الإقليم، ممن أعلنت الحكومة المجرية عن تعهداتها بحماية حقوقهم ومصالحهم الوطنية، وهو ما اعتبرته بعض وسائل الإعلام الغربية "تهديداً بالغزو".
موقف متوتر
على الصعيد المقابل، تقف كييف من الحكومة الحالية موقفاً يتسم بكثير من "التوتر" الذي ينعكس في بعض سياساتها التي تصفها بودابست الرسمية بـ"السياسات التمييزية". ومن هذه السياسات ما أقرته السلطات الأوكرانية من محاولات "شراء" من يسمونهم بأصحاب "النفوس الضعيفة"، من المجريين في أوكرانيا، من خلال عروض "دفع مكافأة قدرها ألف يورو سنوياً لكل من يقبل بإرسال أطفاله إلى المدارس الأوكرانية، بديلاً للمدارس الأجنبية"، سبيلاً إلى التصفية العرقية.
وكانت بودابست توقفت أيضاً بكثير من الدهشة عند اختيار كييف فيدور شاندور وهو أستاذ من أصول مجرية يعمل في إحدى جامعات مدينة أوجغورود الأوكرانية، قالوا إنه كان يخدم في القوات المسلحة الأوكرانية، سفيراً لأوكرانيا في بودابست.
ولعل ذلك كله يمكن أن يكون تفسيراً لما يتخذه فيكتور أوربان رئيس الحكومة المجرية من محاولات تنويع اتصالاته الخارجية للإفلات من ربقة "قيود ومقررات" الاتحاد الأوروبي، وما تتخذه الإدارة الأميركية من خطوات ترقي حد اعتباره "غير مرغوب فيه"، على غرار ما حدث معه بعدم دعوته إلى "قمة الديمقراطية" كما أشرنا عاليه.
ومن هنا كانت مشاركته في تجمعات "العائلة الطورانية" التي يدعو إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لرؤساء البلدان التركية الأصول، إلى جانب زياراته الدورية وعلاقاته "الطيبة" مع عدد من بلدان منطقة الشرق الأوسط ومنها مصر وإسرائيل اللتين يحرص على دعوتهما للمشاركة في فعاليات "تجمع بلدان فيشغراد"، الذي يضم كلاً من المجر وتشيكيا وسلوفاكيا وبولندا.
وإذا كانت كل من مصر وإسرائيل تعتبران علاقاتهما مع "تجمع فيشغراد" سبيلاً إضافياً إلى التعاون مع بلدان شرق ووسط أوروبا، فإن هناك أيضاً من المنافع المتبادلة التي تصبو إليها المجر وبلدان "الأسرة الطورانية" التي تضم كلاً من تركيا وبلدان آسيا الوسطي ومنها أوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان إلى جانب أذربيجان وتركمانستان التي انضمت كعضو مراقب.
وشهدت الفترة الأخيرة تصاعد وتيرة الاتصالات والعلاقات بين المجر وأوزبكستان وما توصلتا إليه من الاتفاق حول "الشراكة الاستراتيجية" بين البلدين، إضافة إلى ما جرى التوصل إليه في وقت سابق من اتفاق مع تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان استناداً إلى ما يربط المجر مع بلدان هذه المجموعة من روابط تاريخية وثقافية قديمة.
ثمة ما يشير إلى أن المجر بما تمتلكه من موقع جغرافي وسياسي متفرد داخل الاتحاد الأوروبي يجعلها شريكاً مهماً لمنظمة البلدان التركية، التي ترتبط كل بلدانها مع روسيا بعلاقات قديمة أكثر تميزاً، وهو ما يسهم في أن تحظى المجر اليوم وأكثر من أي وقت مضي بأهمية استراتيجية تقف وراء اعتبارها "جسراً شديد الأهمية بين الغرب والشرق"، يوفر لرئيس حكومتها كثيراً من عناصر الأمان لبلاده، لا سيما في مجال الأمن الاقتصادي.