ملخص
أسهمت الظروف التي تشكلت ضمنها #الولايات_المتحدة في تكوين #الثقافة_الأميركية التي باتت اليوم منتشرة حتى في أكثر المجتمعات التقليدية والمحافظة
قبل بضعة أيام كنت أشاهد مع صغيري حلقة من مسلسل كرتوني شهير تذهب بطلته "بيبا بيغ" مع أسرتها في إجازة إلى إيطاليا. تفاجأ بيبا عندما تكتشف أن البيتزا أكلة إيطالية. لا عتب على هذه الصغيرة في عدم معرفة أصل هذا الطبق الذي بات عالمياً، لا سيما أن أشهر سلاسل البيتزا هي أميركية (بيتزا هت انطلقت من ولاية كنساس في عام 1958، بيتزا دومينوز من ميشيغان عام 1960، بابا جونز بيتزا من إنديانا عام 1984).
بالطبع لا تسيطر العلامات الأميركية على مطاعم البيتزا فقط، فأغلب محلات الأكل السريع انطلقت من الولايات المتحدة قبل أن تغزو العالم، منها على سبيل المثال: "مطاعم ماكدونالدز، كنتاكي، برغر كينغ، سابواي، ومقاهي ستاربكس، تيم هورتنز ودانكن دوناتس".
البصمة الأميركية
في الواقع، باتت البصمة الأميركية واضحة وراسخة في حياة الناس بغض النظر عن مكان إقامتهم. كثيرون يبدأون نهارهم بوجبة من حبوب الإفطار السهلة والسريعة من دون أن يعرفوا ربما أن أول شكل من أشكال رقائق الحبوب ظهر في عام 1863 بنيويورك على يد جيمس كيلب جاكسون، أو قد يفضلون تسخين كوب من الحليب في جهاز الميكروويف الذي يعود الفضل في ابتكاره إلى الأميركي بيرسي سبينسر في عام 1945.
وبالنسبة لمحبي ممارسة الرياضة الصباحية، من المرجح أنك ستراهم يرتدون ملابس من صناعة "نايكي، ريبوك، كولومبيا سبورتس، تشامبيون أو فابليتيكس"، وربما يتجهون إلى صالات رياضية هي جزء من سلاسل أميركية مثل "أل إيه فيتنيس، غولد جيم أو ورلد جيم"، أو يخرجون للركض في الهواء الطلق مرتدين قبعات البيسبول الشهيرة لحماية رؤوسهم من حرارة الشمس.
وعند الحديث عن الثياب العملية، لا يمكن تجاهل الكنزات القطنية "تي شيرت" التي تعد قطعة الملابس الأكثر استعمالاً في العالم على الإطلاق، ويعود الفضل فيها إلى قوات البحرية الأميركية التي أدرجت هذه القمصان المريحة في عام 1913 وفرضت على عناصرها ارتداء ما كان يعرف بـ"القميص الداخلي" تحت البزات العسكرية. وحتى التسمية، جاءت أولاً في رواية "هذا الجانب من الجنة" للأميركي أف سكوت فيتزجيرالد وتم اعتمادها بعد ذلك في القاموس الإنجليزي عام 1920.
"الجينز" موضة عالمية
تأتي سراويل الجينز في المرتبة الثانية في قائمة الملابس الأكثر رواجاً. في عام 1860 ابتكرت شركة "ليفي ستراوس أند كو" في سان فرانسيسكو هذه السراويل العملية والمتينة والمريحة كي يرتديها العاملون في ظروف قاسية في أعقاب حمى التنقيب عن الذهب التي اندلعت في كاليفورنيا. لعبت السينما الأميركية لا سيما أفلام الويسترن دوراً كبيراً في نشر الجينز وجعله موضة أساسية تعبر عن الروح الأميركية الأصيلة المتمثلة في الحرية والتحدي والعصرية. هل هناك صورة تختزل ذلك أفضل من كلينت إيستوود في "من أجل حفنة من الدولارات" أو هاريسون فورد في "إنديانا جونز"؟ ثم جاءت حسناء الشاشة مارلين مونرو لتجعل النساء يقبلن على هذا اللباس الثوري عندما ظهرت لأول مرة في سروال جينز في فيلم "نهر اللاعودة" عام 1954، لتثبت أن الأنوثة والإغراء لا يقتصران فقط على الفساتين والتنانير. تغلغل قماش الجينز في الموضة، وصارت تصنع منه الحقائب والمحفظات والأحذية والأحزمة وأغلفة الدفاتر والمنمنمات وحتى البدلات الرسمية وأغطية الهواتف النقالة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عالم الإلكترونيات
على ذكر هذه الأخيرة، ما زالت هواتف "آيفون" هي الأكثر اقتناء في العالم، رغم أن شركة "أبل" نقلت، أخيراً، مصانعها ومراكز تجميع الهواتف والكمبيوترات وغيرها من الأجهزة التي تنتجها إلى الصين والهند وفيتنام، فإنها تظل علامة أميركية.
وعلى صعيد أجهزة الكمبيوتر، لما تراجعت شعبية "أبل" في هذا المجال، أخذت مكانها شركة "لينوفو"، وهي شركة انطلقت من بكين لكنها لم تقتحم الأسواق العالمية إلا عندما دخل رأس المال الأميركي شريكاً وتم تغيير اسمها من "ليجيند هولدينغز" في عام 2004. كانت الشركة في نهاية عام 2022 تسيطر على 24.1 في المئة من الأسواق العالمية للحواسيب، تليها شركة "أتش بي" الأميركية بنسبة 19.4 في المئة.
يمكن القول، إن كل ما سلف هو ابتكارات وأساليب فرضها إيقاع الحياة السريع والاستهلاكي الذي تجلى في بداياته في المجتمع الأميركي، لكنه تسرب تدريجاً إلى بقية العالم مع انتشار ظاهرة العولمة التي يرى البعض أنها نوع من المؤامرة الأميركية للتحكم بالعالم، لكن لا يمكننا إنكار أنها قد تكون نتيجة طبيعية للتطور وتقدم الزمن وتنقل البشر. وعلى رغم أن مصطلح العولمة بدأ في الانتشار في بداية ثمانينيات القرن الماضي ويستخدم الآن للحديث عن مختلف مناحي الحياة، فإنه ورد في دراسة بحثية قدمها ثيودور ليفيت لمجلة "هارفرد بيزنز ريفيو" عام 1944 وكان يتحدث عن عولمة الأسواق فقط.
صحيح أن المجتمع الأميركي يركز على السرعة والاستهلاك والفردية وحالياً الظهور والشهرة والشعبية وركوب أمواج الموضة بغض النظر عن سطحيتها وضررها، وأنه ترك مهمة الاعتناء بالأناقة والدقة والفخامة والعلاقات الأسرية المتماسكة لشعوب أخرى مثل الفرنسيين والإيطاليين والسويسريين، إلا أنه يعد نوعاً من الإجحاف والمبالغة في التبسيط اختزال الثقافة الأميركية بقبعة البيسبول وفطيرة التفاح وكراهية الآخر وحوادث إطلاق النار الجماعية.
عناصر معنوية
ماذا عن عناصر الحرية والمنافسة العلمية والطبية والرياضية والعسكرية والهيكلية الديمقراطية وحرية التعبير والروح المجتمعية التي تتجلى في احتفالات عيد الاستقلال في الرابع من يوليو (تموز) كل عام والفخر الوطني الذي يدفع السكان، سواء كانوا مواطنين أم لا، إلى تعليق العلم الأميركي فوق مساكنهم؟ وأين هي الفرص والإمكانات المادية والمعنوية التي توفرها البلاد وأغرت كثيرين من كل مشارب الأرض واستقطبت العقول والمواهب الأدبية والثقافية والخبرات الاقتصادية بالمجيء إلى بلد الفرص والأحلام؟ وهل يمكن أن نغفل فضل الولايات المتحدة في التطور التكنولوجي الذي وصلت إليه البشرية في يومنا هذا في مجالات الصناعة والطب والفضاء والعلوم والأبحاث والرفاهية، وأن اقتصادها يعد الأكثر حيوية في العالم وجيشها يمتلك قوة عسكرية لم يكن لها مثيل في التاريخ؟
من ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل التيار المناهض لأسلوب العيش الأميركي، الذي انطلق من أميركا، والمنادي بحياة ذات إيقاع أبطأ، واتباع نمط استهلاك أكثر استدامة وصداقة للبيئة وتطوير الذات وتناول الغذاء "النظيف" وممارسة التأمل واليوغا والرجوع إلى العلاجات والممارسات الطبيعية. كانت الممثلة الأميركية غوينيث بالترو رائدة هذا التوجه، الذي يراه البعض مرضياً في حد ذاته، عندما أطلقت شركة غوب في عام 2008 التي تروج للصحة والعافية والحد من تناول السموم واستخدام الكيماويات الضارة في حياتنا.
لعب الإعلام والسينما والتلفزيون دوراً في رسم كل هذه الصور للحياة في أميركا. ونظراً إلى امتلاك الولايات المتحدة تاريخياً أكبر تكتلات إعلامية في العالم "سي أن أن ، فوكس نيوز، تايمز، فوربز، نيويورك تايمز"، إلى جانب أضخم صرح سينمائي عالمي متمثل في هوليوود، وحالياً أشهر منصات وسائل التواصل الاجتماعي "تويتر، إنستغرام وفيسبوك"، يعتبر الإعلام هو المصدر الأول والأهم لنقل الروح الأميركية إلى العالم.
جانب آخر
تركز وسائط كثيرة على تفكك المجتمع الأميركي من الداخل، ورفض حق الإجهاض وتأييد عقوبة الإعدام وتناول الأغذية الرديئة التي تجعل 41.9 في المئة من الشعب الأميركي يعاني البدانة المرضية، ومشكلات العنصرية والهوس بحمل الأسلحة، والقرصنة الإلكترونية والجاسوسية، والتحايل المالي، والولع بالشراء والخوف من التخلف عن ركب الموضة الذي يحمل 340 مليون أميركي شكلاً من أشكال الديون بالتالي يمضون حياتهم بأكملها بالعمل لساعات تفوق الطاقة البشرية في محاولة لسدها أو ينتهي بهم الأمر في السجن في نهاية المطاف، إلى جانب تلك التي تستعرض حياة المراهقين اللاهين في المدارس الثانوية غير المكترثين إطلاقاً بما يجري حولهم في العالم وكل ما يفعلونه هو التنمر على بعضهم والانتقال من علاقة عاطفية إلى أخرى بين الصباح والمساء وشرب كؤوس مبالغ في حجمها من الكولا، بينما تهتم الفتيات -وأغلبهن شقراوات– فقط بحضور مباريات كرة السلة مرتديات تنانير شديدة القصر وحاملات كرات مصنوعة من الريش الملون لتشجيع اللاعبين المثيرين بتسريحات شعرهم المستفزة.
في المقابل، هناك أعمال تسوق للروح الوطنية الأميركية التي لا تتغلب عليها أي قوة في العالم، والبطولة والإنسانية والتفاني في سبيل العائلة والنضال الحثيث من أجل قضية معينة، وروح التحدي التي لا تقهر وتحقق المعجزات فعلياً والتغلب على الظروف مهما كانت قاسية وتجاوز العقبات وإعادة خلق الذات من جديد.
ومن أجل الموضوعية، لا بد من ذكر أن الفضل يرجع إلى أميركا في ظواهر ثقافية كثيرة أيضاً، منها تطوير السينما التي نشأت في فرنسا على يد الأخوين لوميير، حيث كان أول فيلم ناطق هو "مغني الجاز" الصادر عام 1927، كما أن وولت ديزني لم يلعب دوراً رائداً فقط في تطوير الرسوم المتحركة التي بدأت في فرنسا أيضاً، لكن فيلم "بياض الثلج والأقزام السبعة" كان أول عمل سينمائي يحتوي على موسيقى تصويرية. كذلك أسهمت هوليوود في نشوء أنواع وتقنيات سينمائية مختلفة، وقد تفاجئون عند معرفة أن أول فيلم طويل بتقنية الأبعاد الثلاثية سبق حتى السينما الناطقة وعرض في لوس أنجليس عام 1922 وكان بعنوان "قوة الحب". كذلك كان أول ظهور لما يعرف بالمسلسلات الكوميدية "سيتكومز" في عام 1974 مع مسلسل "ماري، كاي وجوني"، وعروض الستاند أب كوميدي التي بدأت في أربعينيات القرن الـ19 على هيئة اسكتشات تركز على النمطية العرقية في الولايات المتحدة وتسخر منها. وتعد أميركا موطن موسيقى الجاز والروك والروك أند رول والبوب والميتال.
قد يكون الإنجاز الأميركي الأهم والأكثر رسوخاً في يومنا هذا هو شبكة الإنترنت التي انطلقت في عام 1983 كسلاح في يد الحكومة في ظل الحرب الباردة، كما أن أول محطة تلفزيونية كانت "دبليو أر جي بي" التي انطلقت من نيويورك في عام 1928، وواصلت أميركا ريادتها في هذا المجال مع أول شبكة أخبار تلفزيونية هي "سي أن أن" التي بدأت بثها في عام 1980. وأكثر أشكال الترفيه في يومنا هذا - البث التدفقي و"يوتيوب" والمدونات الصوتية، بدأت جميعها في أميركا.
لا شك في أن الظروف التي تشكلت ضمنها الولايات المتحدة من حروب أهلية وصراعات ساخنة وباردة وظهور الغرب الوحشي أسهمت في تكوين الشخصية الأميركية التي يبدو أنها تسعى إلى الربح المادي والثروة وتقيم وزناً كبيراً للنزعة الفردية، لكن انصهار ثقافات عديدة متنافسة فوق أرض واحدة أفرز ثقافة أثبتت قدرتها على التأثير حتى في أكثر المجتمعات المحافظة والتقليدية، جاعلة أسلوب الحياة الأميركي أسلوب العصر بلا منازع.